Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مسز دالاواي" تواصل الارتحال عبر السينما والأدب

عندما أوجد القرن الـ20 وريثات وأخوات بالجملة لبطلة فرجينيا وولف المفضلة

مشهد من فيلم "الساعات" المقتبس عن "مسز دالاواي" (موقع الفيلم)

ملخص

الحقيقة أنه لئن كان الكتاب الإنجليز والأميركيون، لا سيما الكاتبات من بينهم، الأكثر اهتماماً بـ"استعارة" شخصية دالاواي، من خلال من نشير إليهم وعشرات غيرهم، فإن الكتاب الفرنسيين لا يقلون عنهم اهتماماً بها، فإلى جانب سيسيل لادجالي، ثمة كاتبة وكاتب يمكن الإشارة إليهما بدورهما هما، في الأدب النسائي، بل حتى النسوي، نيكول رولان في روايتها "حارسو الشجن"، وفي الأدب الذكوري فيليب بيسون من خلال روايته "سبب وجيه للانتحار".

ترى هل كان يقول الحقيقة الكاتب الإنجليزي إيان ماكوين حين صرح، ذات يوم، في وجه النقاد المعلقين على روايته "السبت" بأنها مجرد "إعادة كتابة ذكورية" لرواية فرجينيا وولف الأشهر "مسز دالاواي"؟ وهل بدا زميله الأميركي مايكل كننغهام أكثر بساطة منه حين قال معلقاً هو الآخر على ما أفتى به النقاد بصدد روايته "الساعات"، مؤكداً أنه تعمد أن تكون روايته، من ناحيته، "إعادة" لتلك الكتابة نفسها كان يحلم بأن يحققها منذ كان في المدرسة الثانوية وقرأ رواية فرجينيا وولف للمرة الأولى فبدت له في تأثيرها عليه وكأنها "قبلة الغرام الأولى" في حياته؟ لا شك أن القارئ قد أدرك عند هذا المستوى الأول مما نكتب هنا أن ثمة ما لا يقل عن قاسمين مشتركين يجمعان بين رواية الإنجليزي ورواية الأميركي، أولهما أن ثمة في خلفيتهما شبحاً يطل من خلال الحبكة وربما الأسلوب أيضاً، هو شبح السيدة دالاواي التي ابتدعتها مخيلة فرجينيا وولف فباتت لها، طوال النصف الثاني من القرن الـ20 مكانة لا تقل عن مكانة مشتركة لشخصيات روائية رائعة بدأت مع آنا كارنينا، ومدام بوفاري لتصل إلى إيفي بريست الألمانية، وليلي مارلين البرلينية، وغيرهن من نساء الأدب الحديث. أما القاسم المشترك الثاني الذي يجمع بين كتاب ماكوين وكتاب كننغهام، فهو السينما حيث نعرف أن الروايتين قد حولتا في زمن متقارب إلى فيلمين نخبويين. ولعل فيلم ستيفن دالدري الذي حمل عنوان كننغهام نفسه هو الأجمل وربما أفضل ما جادت به قريحة السينما في مجال اقتباس أدب الكاتبة الإنجليزية الكبيرة.

 

تنويعات لا تعد ولا تحصى

والسينما كانت على الدوام كريمة ومتميزة مع وولف غير أن هذا ليس موضوعنا. ما نريد التطرق إليه هنا لا يتعدى الحديث عن تلك الشخصية الغريبة التي جعلتها فرجينيا وولف، ومنذ عام 1923 نوعاً من أنا أخرى لها في رواية "الساعات" التي شرعت تكتبها ليستغرق إنجازها زمناً قبل أن تصدر في النهاية بعنوان مستقى من شخصيتها المحورية، ولتضحى منذ صدورها عام 1925 مساهمة الكاتبة الرئيسة في روايات "تيار الوعي" وتحديداً على خطى "يوليسيس" جيمس جويس. والحقيقة أن حكاية "مسز دالاواي" بدأت فور صدورها، بخاصة أن عام صدور الرواية كان عام ارتباط الكاتبة بصديقة عمرها فيتا - ساكويل ويست، والعام الذي راح فيه صدور رواياتها يتتابع بمعدل رواية كل عامين... رواية تضيف إلى حداثة القرن الـ20 مدماكاً جديداً، وإلى حياة فرجينيا مزيداً من القلق الوجودي والألم، ولكن هذا أيضاً موضوع يقف خارج اهتمامنا هنا. لذلك نعود إلى همنا الأول: شخصية "مسز دالاواي" التي تقوم على صفحات الرواية بتجوال يوم واحد في المدينة، يوم واحد مؤلف من تلك الساعات التي تحدث فيها أمور كثيرة من دون أن يبدو أن ثمة ما يحدث حقاً، والحال أن الحكاية هنا ليست حكاية المدينة ولا حكاية ساعات التجوال فيها، بل حكاية السيدة نفسها وتقلبات مزاجها ووجودية أو عبثية حياتها وانطلاقاً منها، عبثية الزمن والوجود، ومن هنا ذلك الإغراء الذي مارسته الشخصية، من خلال الرواية المخصصة لها منذ نهاية الربع الأول من القرن الـ20، سواء عن وعي إبداعي عرف مايكل كننغهام كيف يعبر عنه في ذلك الاقتباس الذي تحول فيلماً نسوياً بامتياز، وماكوين عبر وعي باطني جعله يدهش حين قيل عن شخصية روايته "السبت" أنها معادل ذكوري "لا يمكن إلا أن يكون مقصوداً" لـ"السيدة دالاواي"، وسواء كان الأمر مقصوداً أم لا، فإن مساهمة ماكوين تعد بديعة في الرجوع إلى شخصية فرجينيا وولف الأثيرة.

شبح المبدعة وبطلتها

وهو على أية حال نفس ما تفعله الكاتبة الفرنسية المعاصرة سيسيل لادجالي في روايتها "حيوات إميلي بيرل" التي يمكن بسهولة ومن خلال شفافيتها اكتشاف أنها، حتى وإن استعارت الاسم من إعلامية شابة معروفة، رواية عن فرجينيا وولف نفسها، منظور إلى حياتها، أو حيواتها المتعددة، عبر نافذة تمثلها أختها فانيسا بيل التي واكبتها في تلك الحياة، وكانت ترسمها كما ترسم آخرين وأخريات في مراحل متفرقة، وعلى ضوء قراءتها رواياتها قبل الآخرين. ولادجالي في ملف كرسته "المجلة الأدبية" الفرنسية لفرجينيا وولف، لم تخف ذلك التطابق الضمني بين الشخصيتين، بل بينهما وبين فرجينيا وولف نفسها إذ قالت إن شبح هذه الأخيرة كان يرافقها تحت ملامح السيدة دالاواي طوال الأشهر التي انكبت فيها على كتابة روايتها "كان حضور المؤلفة ومخلوقتها مكثفاً وطاغياً على رغم كل محاولاتي للتخلص منهما". وهي محاولات لم يزعم مايكل كننغهام، على أية حال، أنه بذل ما يماثلها هو الذي كان يحتاج الشبحين بقوة في ما كان يكتب "الساعات" لعلمه أن روايته لا يمكنها أن تكتب من دونهما. وكذلك لم تفعل ذلك الكاتبة الإنجليزية راشيل كاسك التي صحيح أنها لم تدن مباشرة من فرجينيا وولف أو من بطلتها السيدة دالاواي في روايتها "أرلنغتون بارك"، غير أن القرابة حاضرة ولو من خلال خمس شخصيات نسائية تتحدث بأصوات خاصة عن تأزمات الحياة وهن يمارسن حياتهن اليومية في تنويعات موفقة بأصواتهن، على السيدة دالاواي نفسها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فرنسية في كوسوفو

والحقيقة أنه لئن كان الكتاب الإنجليز والأميركيون، لا سيما الكاتبات من بينهم، الأكثر اهتماماً بـ"استعارة" شخصية دالاواي، من خلال من نشير إليهم وعشرات غيرهم، فإن الكتاب الفرنسيين لا يقلون عنهم اهتماماً بها، فإلى جانب سيسيل لادجالي التي ذكرناها أعلاه، ثمة كاتبة وكاتب يمكن الإشارة إليهما بدورهما هما، في الأدب النسائي، بل حتى النسوي، نيكول رولان في روايتها "حارسو الشجن"، وفي الأدب الذكوري فيليب بيسون من خلال روايته "سبب وجيه للانتحار". فبالنسبة إلى الرواية الأولى فإنها تدور من حول عالمة إناسة تدعى إستر لا تتوقف في معظم حواراتها أو حتى ما يفرزه تيار وعيها عن الإحالة إلى السيدة دالاواي، مباشرة، إضافة إلى أن ثمة في "أحداث" الرواية ما يبدو طالعاً مباشرة من عوالم رواية فرجينيا وولف من زيارات متكررة للأم الغارقة في النسيان الذي يربطها بموت زوجها الأب، وتضافر الجثمانين في صورة بالكاد تبدو رمزية في انطباعها على الجثامين المدفونة جماعياً في مقابر كوسوفو السرية التي تزورها إستر ضمن نطاق اهتماماتها العملية. وهنا، وحتى لو أن ما يتراكم خلال يوم واحد في "مسز دالاواي" يمتد هنا أياماً عدة، فإن البنية في رواية الكاتبة الفرنسية تحيل مباشرة إلى البنية في رواية سابقتها الإنجليزية متواكبة مع الموت الحاضر في لب الروايتين بوفرة. وهو الموت نفسه الذي لا يفوتنا أن نشعر بوجوده شبحاً يتنقل من رواية إلى رواية بين الأعمال التي نتحدث عنها هنا بوصفه موتاً مستقى مباشرة، معترفاً به أم غائباً عن واجهة الصورة، في أدب فرجينيا وولف بصورة عامة ليوصلها أخيراً إلى انتحارها الذي يمكن أن نقول إنه سير حياتها كما سير أدبها.

انتحار على الطريقة الفرنسية

وهو على أية حال الموت "الاختياري" نفسه الذي جعله الفرنسي فيليب بيسون موضوع واحدة من رواياته الأخيرة، الرواية التي تحمل هذا الموت، على أية حال في عنوانها "سبب وجيه للانتحار"، حتى وإن كان سيبدو لنا هنا موتاً ثرثاراً على الطريقة الفرنسية، أي موتاً فرنسياً خالصاً، فإن الكاتب يبدو واضحاً أنه إنما استعاره من حال إن لم تكن هي حال بطلة رواية فرجينيا وولف، فإنها بالتأكيد حالة شخصية أساسية من شخصيات الرواية، شخصية سبتيموس الذي، وكما رأيناه منذ منطلق فيلم "الساعات" المقتبس بتصرف عن رواية "مسز دالاواي" مسكوناً بفكرة الموت الطوعي حتى وإن كان الشكل الخارجي للفكرة يضعنا في مواجهة ذلك "السبب الوجيه" نفسه الذي يخبرنا بيسون عنه منذ عنوان روايته: أي مرض سبتيموس الذي لا برء منه إلا بالموت، مما قد يكون من شأنه هنا أن يبدو وكأنه لا يحدثنا عن انتحار سبتيموس كما "تعيشه" السيدة دالاواي، بل عن موت فرجينيا وولف نفسها غرقاً طوعياً في مياه النهر نفسه الذي كان أغرق أخاها الفتى وقضى عليه. ففي النهاية اختارت فرجينيا الموت الطوعي كي تغرق في المياه نفسها التي غرق فيها أخوها كسبب وجيه لانتحارها، وقد نسيت ما قاله هيراقليطس مرة من "أنك لا تنزل النهر نفسه مرتين" مما يجعل "السبب الوجيه" سبباً غير وجيه إطلاقاً بحسب الروائي الفرنسي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة