ملخص
تحوّل ترويض الذات من سعي لتحسين الذات إلى شكل جديد من التفاخر الاجتماعي تغذّيه وسائل التواصل، إذ باتت ممارسات مثل الغطس في الماء البارد أو تحديات اللياقة القاسية رموزاً للمكانة والإنجاز. ومع تصاعد الفردانية وهشاشة الثقة بالمؤسسات، صار التركيز على الذات وسيلة للسيطرة وسط الفوضى، لكنه في الوقت نفسه يهدد الروابط الإنسانية ويحول الإرهاق إلى وسام شرف.
تنهض من نومك عند الساعة الخامسة صباحاً. تنزع عن فمك الشريط اللاصق الذي يفترض أنه يساعدك في التنفس بعمق عبر الأنف. تغمر جسدك بالماء المثلج. إنها تجربة مؤلمة جداً، يصفعك بردها حتى تطبق فكيك وتكاد تسمع صرير أسنانك من شدة الصدمة. ولكن أحدهم بصوت واثق على الإنترنت أقنعك بأنها مفتاح التركيز لبقية ساعات اليوم. وما إن تنتهي من الاستحمام، حتى تبدأ بالاستماع إلى "بودكاست" لمذيع بالغ الجدية، يروح يمطرك بسيل من النصائح التي ستجعل روتين صباح الغد أكثر قسوة، بالتالي أكثر صلابة وإنتاجية. جسدك يرتجف، وأنت منهك حتى العظم، ولكن في الوقت نفسه تغمرك غبطة داخلية لأنك أكثر انضباطاً وأكثر صلابة، ممن ما زالوا يساومون النوم على دقات المنبه الأولى.
متى تحول ترويض الذات إلى صورة راقية من التفاخر المقنع؟ لقد تسلل الدافع الداخلي لشد العزم واستنفار الإرادة الصلبة والأمل في أن نصبح أشخاصاً أفضل، إلى كل جانب من حياتنا، من روتيننا الصباحي إلى منشوراتنا في مواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى خططنا لعطلات نهاية الأسبوع. ويبدو أن صفحة الانغماس الزائد في الملذات والراحة انطوت، بينما حلت محلها صورة حديثة من التزهد الاستعراضي المصمم بعناية ليتماشى مع جمالية منشورات منصة "إنستغرام" (يطلق عليه بعضهم "وضع الراهب" لتشابهه مع نمط الحياة البسيط والمنعزل للرهبان).
وإذا كنت قد أمضيت ثواني معدودة تتصفح منشوراً ما في مواقع التواصل الاجتماعي يتعلق باللياقة البدنية أو العافية، فأنت على الأرجح غارق الآن في سيل من مقاطع الفيديو التحفيزية التي تحثك على صرف النظر عن كل ما يشتت تركيزك، والتخلي عن الأمور الممتعة كافة، وتوجيه كامل طاقاتك نحو صناعة النسخة المثلى من ذاتك. "اختفِ وارجع في هيئة جديدة تماماً" أو كما لو أنك شخص آخر تماماً، شعار لا ينفك يتكرر في هذه المنشورات، وكأن الغاية الأسمى محو أي عيب أو ضعف أو هفوة، أو حتى سمة فريدة شكلت هويتك.
يبدو كما لو أننا جميعاً مطالبون بخوض تجارب تحسين الذات، وكلما ازدادت قسوة تعاظم وقعها. هل تهوى السباحة؟ حسناً، فقط تأكد من أن تكون المياه شديدة البرودة كي تحصد أقصى فائدة من عملية الأيض أو التمثيل الغذائي [تحويل الطعام والشراب إلى طاقة]. هل تحب القراءة؟ استبدل الرواية التي تطالعها بكتاب ضخم عن الإنتاجية، أو كيف تصنع روتيناً صباحياً مثالياً، أو كيف تسخر إرادتك حتى حدودها القصوى. ولكن لست وحدك هنا: وفق بيانات شركة البحوث والتسويق "نيلسن"، كان أدب المساعدة الذاتية وعلم النفس الشعبي أكثر أنواع الكتب غير الخيالية مبيعاً العام الماضي. تحب الركض؟ شارك في ماراثون (أو أقله، لا تنسَ أن تتفاخر بالزمن القياسي الذي سجلته، وتخبر الجميع بأنك تقطع خمسة كيلومترات في أقل من نصف ساعة).
وإذ نتأمل مشهد تماريننا الرياضية اليوم، يتبدى أمامنا بوضوح التحول الجذري في المزاج العام. فقبل نحو عقد مضى، كانت دروس اللياقة البدنية تدور في فلك من الغرابة والابتكار، وكلما ازدادت فرادتها، ازداد الإقبال عليها. وكان من الشائع أن تتضمن كل فئة جديدة من دروس اللياقة البدنية التمايل بعصي مضيئة أو القفز على "ترامبولين" صغير، أو أداء حركات راقصة على أنغام موسيقى "بوب" كلاسيكية قديمة. أما الآن، فتغير المشهد كلياً، وصار الاهتمام منصباً على أساليب تتطلب الاستمرارية والانتظام والدقة والتركيز، من قبيل تمارين "بيلاتس" والرقص على العمود، أو تحديات اللياقة الوظيفية مثل "هايروكس" (Hyrox) [تحدٍّ يجمع بين الركض وتمارين القوة]، وهو نهج لا يحتفي بالحركة العشوائية، بل يمجد الدقة والالتزام. ولأن هذه الأساليب الرياضية يفترض أنها تمنح قواماً رشيقاً ونحيلاً أصبح، في الوعي الجمعي، تجسيداً للانضباط الذاتي، فإنها بطبيعة الحال تحمل جاذبية إضافية للساعين إلى تحسين ذواتهم.
في سياق متصل، نلاحظ شيوع اختبارات التحمل القاسية، من قبيل "هارد 75" (75 Hard)، وفيه يلتزم المشاركون طوعاً، ولمدة 75 يوماً متواصلة، نظاماً صارماً لا يعرف التراخي: اتباع حمية غذائية محددة وممارسة التمارين الرياضية مرتين يومياً لمدة 45 دقيقة في كل جلسة (واحدة في الداخل، وأخرى في الهواء الطلق مهما كانت الأحوال الجوية)، إضافة إلى قراءة 10 صفحات من كتاب غير روائي والامتناع عن الكحول تماماً وشرب نحو أربعة ليترات من الماء يومياً. إنه نهج مرهق لا ريب. ولكن على المنتظمين طواعية في هذا التحدي أن يلتقطوا أيضاً صورة توثق التقدم الذي يحرزونه في كل يوم من تلك الأيام الـ75 لأن جزءاً كبيراً من جاذبية التحدي يكمن في القدرة على تتبع التجربة ومشاركتها مع الآخرين (بل جعلهم يشعرون [على نحو غير مباشر] بشيء من الكسل مقارنة بهذا التحدي).
عالمة الأنثروبولوجيا الدكتورة لولي مانسي لاحظت كيف أن "هوسنا الحالي بالترويض الذاتي وتحسين الذات يعكس تحولاً مجتمعياً عميقاً"، إذ "أصبحت فكرة تطوير الذات مجرد استعراض أدائي وتسليع، وفي نهاية المطاف وسيلة لإظهار تفوق أخلاقي مزعوم". وتوضح أن السمات اليومية التي تميز أسلوب حياة أي شخص يسعى إلى تحسين ذاته مثل "الغطس في الماء البارد والروتين الصباحي المعقد وتقنيات تحسين الأداء البيولوجي (أو ما يسمى "البايوهاكينغ" biohacking وهو نهج يعتمد على تعديلات في التغذية ونمط الحياة والتكنولوجيا بهدف تعزيز الأداء الجسدي والعقلي وزيادة العمر الافتراضي)، إضافة إلى مجموعة من الحيل التي لا تنتهي لتحسين الأداء الشخصي والإنتاجية في كل جوانب الحياة"، لم تعد "مجرد ممارسات صحية لتعزيز العافية، بل تحولت إلى رموز للمكانة الاجتماعية. إنها تبعث رسائل ضمنية إلى العالم بأنك المسيطر على حياتك، وأنك تعمل بكفاءة عالية، وأنك، الأهم من ذلك كله، تستحق التقدير". واللافت أن الجهد الذي نبذله في سبيل أن نصبح أشخاصاً أفضل (علماً أن "الأفضل" مفهوم فضفاض وشديد الذاتية، وغالباً ما يكون مرادفاً للثراء أو الجاذبية وفق المعايير التقليدية) يتحول بدوره إلى مؤشر على القيمة الشخصية.
في الواقع، إن الرغبة في "تحسين" ذواتنا عبر مزيج من الإرادة الصلبة والمثابرة وضبط النفس ليست وليدة العصر الحديث، تقول المعالجة النفسية والمؤلفة إيلويز سكينر، وتضيف "أعتقد بأن أقدم السجلات التاريخية للإنسان تحوي دلائل على هذا التوجه". وتوضح أن الكتاب المقدس، على سبيل المثال، "تضمن أنواعاً مختلفة من استراتيجيات تطوير الذات والارتقاء بها"، كذلك لا يزال كتاب "فن الحرب"The Art of War الذي كتبه الجنرال [والخبير العسكري والفيلسوف] الصيني صن تزو في القرن الخامس قبل الميلاد، يعتبر مصدر إلهام لرجال السياسة وأباطرة المال والأعمال على حد سواء. أما المصريون القدماء، فاستندوا إلى نصوص تعليمية معروفة باسم "سبايت" sebayt [في اللغة المصرية القديمة تعني "التعليم" أو "التوجيه"]، روجت لفضيلة ضبط النفس، ومجدت نموذج "الرجل الصامت"، ذلك الحكيم المتزن الذي يتروى في ردوده خلافاً لـ"الرجل الانفعالي" الذي تحكمه العواطف وتقوده الصغائر.
لا يسعى الناس إلى ترويض الذات من أجل تحقيق تحسينات فعلية في حياتهم، بل من أجل جرعة هرمون السعادة "الدوبامين" التي يمنحهم إياها استحسان الآخرين
بيكس سبيلر
انتقل عبر العصور، وستجد طائفة واسعة من كتيبات ومصنفات تمجد فضائل أخلاقيات العمل الجاد والانضباط، وتوزع النصائح في الميادين شتى، بدءاً بإدارة الوقت وانتهاء بتدبير شؤون المنزل (ومن السهل جداً أن نعرف أياً منها موجهاً إلى الرجال وأياً منها صيغ خصيصاً للنساء). وفي القرن الـ19، ذاع صيت توماس إديسون ليس فقط بسبب ابتكاراته، بل بفضل ساعات العمل الطويلة والشاقة ومثابرته الصلبة التي جعلت منه نموذجاً يحتذى به. (ولعل السؤال المطروح اليوم: هل كان إديسون أول من مهد فعلاً الطريق لصورة "رجل التكنولوجيا الطموح المهووس بالنجاح"؟).
بحلول عام 1909، وجه الكاتب البريطاني غلبرت كيث تشيسترتون نقداً لاذعاً لهذا النوع الأدبي برمته في مقالته المعنونة "مغالطة النجاح" The Fallacy of Success. وكتب: "في كل كشك لبيع الكتب، وفي كل مجلة، تجد كتابات ترشد الناس إلى كيفية تحقيق النجاح... إنها كتب تعلم المرء السبيل إلى النجاح في كل جوانب الحياة، ولكنها من تأليف أشخاص لم يفلحوا حتى في كتابة الكتب". وسواء كان ذلك عن وعي أو محض مصادفة، فقد جاءت خطبة تشيسترتون اللاذعة بمثابة نبوءة مبكرة، قبل نحو قرن من الزمن، لما ستؤول إليه رفوف قسم المساعدة الذاتية في مكتبات المطارات، تحديداً في متاجر "دبليو أتش سميث".
أما اليوم، ففي متناول اليد طيف أوسع بأشواط من الوسائل التي تتيح لعقيدة ترويض الذات أن تنتشر وتترسخ. ولعل وسائل التواصل الاجتماعي المحرك الأبرز لهذا التيار، إذ لا تكتفي بعرض الرسائل أمام أعيننا على نحو متواصل، بل تمنحنا أيضاً تلك الاندفاعة الكيماوية الخاطفة التي ترافق مشاركاتنا الآخرين محاولاتنا في أن نصبح أشخاصاً أفضل. إنها كما تقول بيكس سبيلر، مؤسسة نادي "مكافحة الإرهاق"، بمثابة "مسرح واسع" يتيح لنا "أن نعرض أفضل نسخة ممكنة من ذواتنا".
والآن، تضيف سبيلر، "لا يسعى الناس بالضرورة إلى ترويض الذات من أجل تحقيق تحسينات فعلية في حياتهم، بل يلهثون وراءه من أجل جرعة "الدوبامين" [ما يسمى "هرمون السعادة" لدوره المهم في تنظيم المزاج والسلوك والإدراك والحركة والتحفيز...] التي يمنحهم إياها استحسان الآخرين". وتشير سبيلر إلى وجود "فرق حقيقي" بين "الرغبة في التعلم والنمو كبشر" من جهة، وبين السعي إلى أن نصبح أفضل نسخة من أنفسنا، ولكن فقط من أجل نيل القبول والتصفيق من المحيط، من جهة أخرى.
ولا ريب في أن انتشار التكنولوجيا القابلة للارتداء التي تمدنا بتدفق دائم من البيانات المتعلقة بأجسامنا وسبل تحسين أدائها، يضيف بعداً آخر إلى هذا الهوس، محولاً مفهوم "تحسين الذات" إلى ما يشبه اللعبة (ويجعل نتائجها قابلة للمشاركة مع الآخرين بسهولة أيضاً). تقول سكينر: "إن تطوير الذات يمتاز بأنه أمر يمكن قياسه وتتبع تقدمه، على خلاف الأمور الأكثر تعقيداً والأكثر تشعباً مثل تطوير العلاقات الشخصية، أو الإسهام في خدمة المجتمع". وتضيف أن الساعات الذكية smart watches وأجهزة تتبع اللياقة البدنية fitness trackers تزودنا بـ"طريقة بصرية لتجسيد هذا الإنجاز أو ذاك".
وهكذا، بينما كان السعي إلى تطوير الذات مرادفاً في السابق لـ"الأهداف الروحية أو الجماعية"، كما يقول الدكتور ويليام فان غوردون، البروفيسور المساعد في علم النفس التأملي في "جامعة ديربي" البريطانية، تحول التركيز الآن إلى "الإنجازات الشخصية التي يسعنا مراقبتها وقياسها ونشرها"، سواء عن طريق الأجهزة القابلة للارتداء أو منشورات التباهي على مواقع التواصل الاجتماعي. ويضيف أن هذا النهج يعكس "ثقافة تميل إلى الفردية وتعتمد على التكنولوجيا"، ويعبر عن "ميل متزايد نحو السلوك الفردي والسعي الذاتي إلى التطور". ويشرح فان غوردون أن الوصول إلى "أفضل نسخة من أنفسنا" أصبح "أقل ارتباطاً بالسلام الداخلي، وأكثر ارتباطاً بالتميز في عالم تنافسي تحكمه المظاهر والصورة العامة".
وتوافقه مانسي الرأي، فتقول إن التقاليد القديمة المرتبطة بالترويض الذاتي والارتقاء "كانت ترتكز غالباً على فهم العلاقة القائمة بين الفرد وذاته، إذ كان ازدهار الفرد مرتبطاً بمسؤولياته داخل المجتمع". أما اليوم فتلك الممارسات "تكون في الغالب منفصلة عن هذا السياق". وبدلاً من ذلك، "تركز على الفرد، متجاهلة في أحيان كثيرة النسيج الاجتماعي الأوسع الذي يدعمنا".
بالطبع، لا عيب في وجود أهداف نسعى إلى تحقيقها، أو التزام روتين معين، أو حتى الاستمتاع بحلقة "بودكاست" تحفيزي من حين إلى آخر. فمن المهم أن نشعر بأننا نعمل من أجل غاية تمنح حياتنا شكلاً وهيكلاً ومعنى، مما يتطلب أحياناً الاستيقاظ مبكراً، أو التخلي عن بعض السهرات الصاخبة. ولكن يكمن الخطر في تكريس طاقتك كلها لتحويل نفسك إلى "يو 2.0" منك، أو النسخة المثالية منك (You 2.0 تعبير شائع في ثقافة تحسين الذات والتكنولوجيا، إذ يشار إلى إصدار جديد أو مطور من برنامج أو تطبيق بـ"2.0")، فربما تنتهي إلى استنزاف نفسك، بل إلى عزلة تامة عن الآخرين من حولك.
لا يبقى للمرء سوى ذاته بوصفها الحيز الوحيد الذي يسعه السيطرة عليه
د. لولي مانسي
ولكن هل من المفيد حقاً أن نهمل صداقاتنا لمصلحة التزام ممارسة تمارين "75 هارد" مرتين يومياً؟ لما كانت "منظمة الصحة العالمية" (WHO) صنفت الشعور بالوحدة "مشكلة صحية عامة عالمية"، فيما وجد الباحثون أن انعدام الروابط الاجتماعية يفاقم خطر الوفاة المبكرة بما يعادل تدخين 15 سيجارة يومياً، فإنني أميل إلى الرد بـ"لا" قاطعة. في السياق نفسه، يقول فان غوردون إن أبحاثه توصلت إلى وجود علاقة بين "التركيز المفرط على الذات" وظهور "مشكلات في الصحة النفسية من قبيل القلق والاكتئاب"، فضلاً عن تراجع القدرة على الدخول في سلوكيات اجتماعية إيجابية (تؤثر مساعدة الآخرين من دون انتظار مقابل).
وقد يخطر للمرء أن يتساءل عما إذا كان هذا السلوك ينطوي في جوهره على آلية خفية لحماية الذات. فالعلاقات الإنسانية بطبيعتها متقلبة وغير مستقرة، ولذلك، كما توضح سكينر، "يبدو أن التحكم في أفعالنا وصقلها أمر أكثر قابلية للإدارة وأقل فوضوية من الدخول في علاقات أو روابط غير متوقعة مع الآخرين". والنزعة إلى الانكفاء على الذات تمنحنا، في المقابل، شعوراً بالأمان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجزء من هذا الميل إلى ترويض الذات ربما يكون، في جوهره أيضاً، استجابة مفهومة تماماً لحال من عدم اليقين تزداد حضوراً في العالم، ذلك الشعور الغامض بأن كارثة ما توشك أن تقع، في بلادك أو خارجها. وتقول الدكتورة مانسي: "عندما تنهار الثقة بالمؤسسات وتفقد الخدمات العامة قيمتها الحقيقية والملموسة وتبدو شبكات الأمان الاجتماعي أشبه بخيوط بالية، ينغلق الناس على أنفسهم. تصبح الذات المجال الوحيد الذي يبدو فيه التحكم فعلاً ممكناً". ربما لا تتمكن من التأثير في العالم الأوسع، هكذا يحدثك داخلك، ولكن في يدك أن تستعيد شيئاً من الأمان عبر التركيز على نفسك أنت.
ولكن هذا المنطق، كما تقول مانسي، لا يروج لـ"الفردانية المفرطة" وحسب، بل يدفعنا أيضاً إلى "التعامل مع أنفسنا كما لو كنا شركات ناشئة: نراقب الأمور كافة وننكب على تعزيز التحسينات بلا توقف ونستخرج أقصى فائدة ممكنة من كل دقيقة في يومنا". وللأسف، حين يبلغ هذا المنطق حده الأقصى، تحذر مانسي، فإنه "يقوض علاقاتنا بالآخرين. إنه يعزز نظرة عالمية تهمل الرعاية الجماعية، وتختزل النجاح في إنجاز شخصي صرف، وترفع الإرهاق إلى مرتبة وسام شرف". صحيح أننا "نحاول السيطرة على أمور تبدو خارجة عن السيطرة"، ولكننا في الحقيقة نبحث عن حلول وإجابات في الأماكن غير الصحيحة، أو بطرق لن تفيدنا فعلاً.
وتختم مانسي قائلة إن "الحل لا يكمن في مزيد من جداول البيانات، أو تطبيقات التتبع، أو الغطسات المتكررة في الماء البارد. إنه يكمن في التواصل، وفي الغاية الأعمق التي تمنح الحياة معناها، وفي أن نتذكّر بأن الازدهار ليس مشروعاً فردياً خالصاً".
© The Independent