ملخص
تصبح الصورة بمثابة سلاح فتاك يستخدمه السياسي ليس فقط لإقناع المريدين والمترددين في حملاته الانتخابية، بل تصبح سلطة يمارسها على خصومه السياسيين.
تعد الصورة بمثابة النموذج الفكري في الزمن المعاصر. ذلك، فإن تأثيرها في الحياة المعاصرة يظل كبيراً بحكم أنها تمثل في نظر عدد من الفلاسفة المفتاح السحري للحياة المعاصرة. فالصورة أصبحت تكتسح زمننا الراهن وتغير كثيراً من الطروحات الثقافية والعادات الاجتماعية، سواء داخل الأسرة أو التعليم أو السياسة أو حتى في الفن. إننا أمام طفرة وجودية كبيرة لم يستوعب الناس حتى اللحظة سحرها وتأثيرها في حياتهم، حتى وإن كانوا في دقائقهم اليومية يستخدمون الصور ولا شيء غير الصور، بحيث يبدو الناس وكأنهم يمشون في حلم أكثر مما ينتمون إلى الواقع الفيزيقي الحي، بيد أن الاستخدام الكبير للتقنية بمختلف حواملها وأشكالها البصرية، لم يجعل الناس يستوعبون التحول الأنطولوجي الذي يغير حياتهم وأفكارهم ومواقفهم، بل يقدمون أنفسهم قرباناً لهذا المد البصري. ومن هنا، تكمن إشكالية الصورة في العالم العربي، فالناس ينصاعون لها ويتعاملون معها على أساس أنها وسيلة، لكنهم لا يشغلون بالهم في التفكير بماهيتها وقيمتها وسلبياتها، وما يمكن أن تمارسه من أثر كبير على نمط الحياة المعاصرة.
لم تعد الصورة حكراً على الفنان التشكيلي أو السينمائي أو الفوتوغرافي، بقدر ما غدت وسيلة يمتلكها الكل، ويستطيعون من خلالها التعبير عن همومهم وقضاياهم وتوثيق يومياتهم بطريقة بدت فيها الصورة تتملكهم وتستخدمهم أكثر من كونهم يستخدمونها. إن الحديث عن الصورة عربياً حديث ذو شجون، إذ على رغم المكانة التي باتت تحتلها في الحياة اليومية العادية والهواتف الذكية والأفلام واللوحات والصور الفوتوغرافية والإشهارات والبوسترات، لا تزال ميكانيزماتها غامضة ولا نعرف الطريقة التي تشتغل بها وتبني سحرها وسلطتها على الذات والواقع على حد سواء.
يقول الباحث والأكاديمي المغربي عبدالعالي معزوز "إن الصورة تنفتح علينا وتنغلق لأنها نافذتنا على العالم ونافذة العالم علينا، بل يمكن القول إنها تمثل عالمنا وتجربتنا الداخلية، ولكنها في العالم المعاصر تتجه إلى الاستحواذ على الحقل البصري وتُحمل برسائل وتُضمن بمضامين وتُشحن بعواطف. إن المطروح على الفكر هو مساءلة ليس الصورة فحسب، بل ومساءلة الوضع الأنطولوجي للصورة أو إن شئنا القول مساءلة وجودها وماهيتها. وعندما يكون من مهام الفكر مساءلة الصورة، فذلك يعني مساءلة التقاطع بين أساسين، النظر الإنساني والوسيط التقني".
إمبراطورية الصورة
إن الصورة قبل أن تكون نظاماً تبتدعه التقنية فهي وسيط بصري وقبل أن تكون كذلك، تعد سلطة عند كل من يستعملها، فهي تعطيه حظوة رمزية تجعله يتحكم في مصير الناس. ومن هنا تأتي خطورة الصورة في توثيق الواقع وإدانة الحرب وتخيل التاريخ واستعراض الأجساد، إنها تعد شكلاً من المقاومة للصمت بل إنها "تقاوم التلاشي المصاحب للموت بإعادة الترميم الملازم للصورة" على حد تعبير المفكر الفرنسي ريجيس دوبري. وإذا كانت الصورة بالعالم العربي، مجرد وسيط أو وسيلة للتعبير أو الظهور أو إنتاج للرغبة، فإنها تغدو في الحياة الغربية عبارة عن خطاب بصري له سلطته وقوانينه المؤطرة لفعل الصورة. إن ما نحتاج إليه اليوم عربياً فك العزلة عن إمبراطورية الصورة ومحاولة جعلها موضوعاً قابلاً للتفكير والتحليل والتأمل، وذلك بغرض معرفة ماهيتها وأنماطها ووظائفها وأنواعها، لأن هذا الفهم سيمكننا من معرفة السياقات التي تنتج داخل الصور، بالتالي يسهل فهم طبيعتها وأهدافها، كما هي الحال مع الصورة في الخطاب السياسي المعاصر.
شغلت الصورة عدداً من المفكرين في العالم مثل جيل دولوز وناتالي إينيك وجاك أمون وإدغار موران وريجيس دوبري، لكن في العالم العربي، ظل المفهوم يعيش نوعاً من التهميش، باستثناء دراسات قليلة صدرت خلال الأعوام الـ20 الأخيرة، والتي حاولت انطلاقاً من زوايا بحثية مختلفة أن تقاربها وتفكر في ميكانيزماتها ومضامينها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم الاجتهادات العلمية التي قدمها عدد من الباحثين العرب، يكاد المرء لا يعثر على كتاب معرفي واحد يضاهي الزخم الفلسفي الذي يطالعنا، مثلاً فقد كان كتاب "موت الصورة وحياتها" سباقاً في تقديم إشارات ضوئية قوية تجاه هذا الإطار الفكري، إذ استطاع أن يمارس سحراً غريباً على الأكاديميين وجعلهم ينتبهون إلى كون الصورة، لا ينبغي النظر إليها على أساس أنها وسيلة تقنية، بقدر ما تمثل خطاباً فلسفياً قوياً، ينبغي خلق نوع من المحاورة البصرية مع لغته. فالدراسات الفلسفية الغربية التي شرحت مفهوم الصورة في أبعادها النفسية والفلسفية والاجتماعية والتاريخية، قدمت مؤلفات أصيلة تفرض نفسها اليوم، وتدعونا إلى مختلف مظاهر الحياة المعاصرة بكل صورها وتجلياتها، بسبب المكانة التي أصبحت تحتلها الصورة في يوميات الناس ووجدانهم وذاكرتهم.
إن الوعي بقيمة الصورة كخطاب مؤثر في مجرى الحياة السياسية اليومية، أتاح للثقافة الغربية إمكانية استيعاب تحولات العصر والانغماس في مختلف الوسائل التقنية ومحاولة فهمها، انطلاقاً من فكر فلسفي يعاين ويتأمل ويرافق سيرتها وتبرعمها داخل الفضاء العام. فحين نقرأ كتابات المفكر الفرنسي رولان بارت يتضح للمرء كيف يغدو الفكر الفلسفي المجرد وسيلة لفهم الحياة المعاصرة في تلقائيتها وفوضاها.
الصورة باعتبارها أيديولوجيا
يعتمد رجل السياسة في خطابه السياسي الدعائي على "الصورة الوسيطة"، وذلك بحكم الإمكانات التواصلية التي ينتجها هذا النمط من الصورة على مستوى الدعاية وتكريس الرأي وتحميل الخطاب أيديولوجية معينة، تهدف إلى التأثير في المتلقي. فلا غرابة أن تطالعنا في العالم ككل إمبراطورية من الصور التي تحول البوسترات السياسية والصور الفوتوغرافية إلى خطابات بصرية تضمر عشرات من الرسائل، انطلاقاً من لغة بصرية تبدو صامتة وجامدة، لكنها تتضمن جملة من العلامات المتحولة التي تصبح لحظة تحليل الخطاب البصري للصور عبارة عن لغة تقرأ وتفهم.
حلل صاحب "الغرفة المضيئة" مختلف مظاهر الحياة اليومية، انطلاقاً من اللغة والأزياء والمجوهرات والصور الفوتوغرافية وجعلها تمتطي صهوة التفكير. وذلك لأن بارت كان يدرك جيداً أن خلف هذه الأشياء العادية المألوفة في حياتنا اليومية، ثمة عالم من الرموز والأبعاد الثقافية التي تظل تهجس بالتاريخ والمكانة والأعراف الاجتماعية ونظمها الاقتصادية. إن الصورة أشبه بالأسطورة التي تبدأ من لغة التقنية كحامل وتقتحم من خلالها الواقع ويصنع عبرها السياسي جملة من الأساطير الصغيرة، التي تقتحم اللامفكر فيه وتخترق غلالة الواقع وبنيته الاجتماعية، إذ تغدو الصورة إحدى أدوات الأيديولوجيا، بما يجعلها تمتلك قوة فكرية وسلطة سياسية داخل المجتمعات التي تنتج داخلها. لكن أمام التصحر الفكري وغياب الوعي البصري بمفهوم الصورة وأنماطها وأهدافها داخل المجتمعات التي تعيش في عصر ما قبل الصورة، حتى وإن كانت تستخدمها بإفراط، فإنها تلعب دورها الفعال، وتمارس سحرها على الناس وعلى مخيلتهم وتدعوهم بطريقة تلقائية إلى التماهي مع الخطاب السياسي الغوغائي.
يختلف الخطاب السياسي داخل الصورة عن الفكري أو الفني، في كون الأول عبارة عن خطاب كاذب، فهو يتوسل الصورة لممارسة "السحر" على الناس وإقناعهم بأشياء لا توجد حقيقة على أرض الواقع. وبهذه الطريقة تصبح الصورة بمثابة سلاح فتاك يستخدمه السياسي ليس فقط لإقناع المريدين والمترددين في حملاته الانتخابية، بل تصبح سلطة يمارسها على خصومه السياسيين عبر اللجوء إلى الصورة. إن المتأمل للساحة السياسية الأميركية، يندهش من حضور الصورة في ثنايا الخطاب السياسي. بحيث تكاد تكون الساحة السياسية تبني حضورها وشرعيتها بالاستخدام المفرط للصورة في ثنايا الحياة اليومية. فقد استغل الرئيس الأميركي دونالد ترمب حادثة الاغتيال وحول صوره إبان الحادثة إلى أشبه بأيقونة أميركية كونية تنبعث من جرحها ورمادها. فقد أثرت الصورة بصورة كبيرة على الناس وجعلتهم ينتبهون إلى يوميات الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جعل منها ترمب آنذاك، عبارة عن مسرحية سياسية، كلما التقى فيها مع خصمه السياسي جو بايدن.
إن الحمولة الفكرية التي تختزنها الصورة وقدرتها كسلطة على التأثير في طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية، جعلتها بمثابة السلاح الفتاك بالنسبة إلى رجل السياسة في معاركه الانتخابية ومفاوضاته الدبلوماسية، فهو يعتمد عليها قبل حتى إن يدبج خطابه السياسي أو برنامجه الانتخابي، بعدما أصبح يدرك ماهيتها وقوتها في التأثير في الجماهير.