ملخص
في كتاب "الموارنة والشيعة في لبنان" للباحث والإعلامي أنطوان سلامة، وقفات تستدعي من القراء، المعنيين ببناء الأوطان، التوقف ملياً أمام لحظات الخلاف والائتلاف والاتعاظ منها، من أجل عدم تكرارها في الآتي من الأيام. وقد يكون اللبنانيون، على فطنتهم، أقل الشعوب إفادة من سقطات تاريخهم، وأكثرهم انجراراً إلى إعادة إنتاج الصراعات واستنفادها.
بعد كتاب "الموارنة والشيعة في لبنان" (دار نوفل، بيروت 2025) عملاً تأريخياً شاملاً جيد التوثيق، مستنداً إلى أكثر من 207 مراجع ومصادر عربية وأجنبية تغطي كل المراحل التي تحركت خلالها كلتا الطائفتين اللتين تشكلان مكوّناً رئيساً في النسيج الوطني اللبناني، منذ ما يقارب 1600 عام. أما المسألة، بل الأطروحة الرئيسة التي من أجلها أعدّ الكتاب البحثي، فهي تبيان حدود التلاقي والتعاون بين الطائفتين منذ أن تقاسمتا الوجود على أرض لبنانية، وفي جغرافيا الشرق الدائمة التململ، وحدود التصادم والصراع بينهما، بدعوى الحفاظ على مصالح كل من الطرفين، أو في الغالب، بتحريض من طرف خارجي، سواء كان غازياً أو إمبراطوراً يمتد سلطانه إلى تلك الربوع، وتشاء إرادته أو مبادئه إخضاع المخالفين له في الرأي والعقيدة والمصلحة، أو يجزي عاملاً أو حاكماً من هذه الطائفة أو تلك لخدمة أداها له.
لكنّ التأريخ، في ما يحرص الباحث أنطوان سلامة على القيام به، يقرب أن يكون التبصر في تكوين كل طائفة من هاتين (الموارنة والشيعة) على مر التواريخ والمراحل، والتركيز على العوامل التي أدت الى صعود نجمها خلال حقبات معينة وأفوله في أخرى، مع ما لازم ذلك من حراك إيجابي أو سلبي حيال الطائفة الأخرى. ومن أجل ذلك، انقسم الكتاب 14 فصلاً في 464 صفحة من القطع الكبير، يعالج كل فصل مرحلة زمنية، وما فيها من مواقف وأحداث تحرك الطائفة في اتجاه التلاقي، أو في اتجاه الخلاف.
"جبلان في اتجاهين"
يركز الباحث في الفصل الأول والمعنون "جبلان في اتجاهين" على مسألة تكوّن كل من الجماعتين، أو الطائفتين، الموجودتين على طرفي لبنان، الشمالي، حيث تركز وجود الموارنة النازحين في القرن الرابع والخامس من سوريا، أي قبل الفتح الإسلامي بنحو 130 عاماً، والجنوبي حيث استوطن الشيعة الجبال هربا من المواجهات . ولئن أمكن تحديد موطن الشيعة في لبنان بمطلع القرن الثامن ميلادي، "الحد القبلي يبدأ بنهر القرن الجاري من شمال طير شيحا (الجبال الغربية في الجليل) إلى البحر، جنوب قرية الزيب، وشمالاً النهر المسمى الأوّلي الذي يصب في البحر شمال صيدا" بحسب تعريف الشيخ علي السبيتي.
ولكن المتصفح لسرديات الشيعة، منذ أن تكونت في القرن التاسع وإلى يومنا هذا، يتبين له أن المؤرخين الشيعة ظلوا على تسمية مواطنهم، وحيث شكلوا الأكثرية، جبل عامل، نسبة الى قبيلة عاملة العربية اليمنية التي استوطنت الجبل وأطرافه. وهي تسمية غالباً ما استحثت حنين الشيعة إليها، لأنها عنوان لمجد تليد ونوع من الحكم الذاتي القائم على عصبية وإيمان، مع انغراسهم في الإيمان الإسلامي الأساس النابع من القرآن الكريم. وبناء على ذلك، تجد كلاً من الموارنة، وفقاً للباحث سلامة، والشيعة يحتفظ لنفسه بعصبية لا مكان فيها للآخر المختلف ديناً ومذهباً. أما العصبية للبنان التي تجند لها غالبية الموارنة، فلم تجد لدى الشيعة استحساناً، إلا من قلّة، وبعد نشوء دولة لبنان الكبير.
العصبيتان المتوازيتان
قامت عصبية الموارنة على انتماء إلى العالم المسيحي (الخلقيدوني) الكاثوليكي واللاتيني الغربي، ووثقوا صلاتهم بهذا العالم عبر المؤازرة والمراسلات، وصولاً إلى إنشاء مدرسة روما المارونية في القرن الـ16، وجعلوا لهم أطراً سياسية تثبت معتقداتهم الدينية وتحفظ لهم مصالحهم وسط تقلبات المحيط. كذلك، فقد قامت عصبية الشيعة في لبنان (أو المتاولة) على انتماء ديني واجتماعي وسياسي، كانوا يسعون إلى الحفاظ على بقائهم ومصالحهم عبر سلسلة من التحالفات ومد الجسور وإحياء التشيّع حتى بلاد فارس (إيران)، ومن دون اعتبار للشريك الآخر في أرض واحدة، عنيت بها لبنان. وبناء عليه، تبدت للباحث سلامة العصبيتان (المارونية والشيعية) مفترقتين، في كثير من أسس تكوينهما مع أنهما تتبعان الآليات نفسها الخاصة بالعصبيات، بالتالي لم تكونا مؤهلتين لبناء الدولة اللبنانية (لبنان الكبير والاستقلال).
يبيّن الباحث، استناداً إلى المراجع التاريخية، كيف أن الموارنة منذ أن تثبت كيانهم في جبل لبنان أوائل القرن السادس، كانوا جماعة مقاتلة لكونهم مضطهدين من اليعاقبة في مستهل دعوتهم النسكية، واختلافهم مع جماعة المؤمنين بالطبيعة الإلهية الواحدة (المونوفيزيين) للمسيح. ولاحقاً، انضوى الموارنة في أحلاف مسيحية مثل البيزنطيين والجراجمة الذين صاروا في ما بعد مكوّناً من الموارنة، ونازلوا كل من سعى إلى الحد من نفوذهم. ولئن أمكن الموارنة، على ذمة مؤرخيهم، من الصمود في وجه مضطهديهم الآتين من الشرق، فإن العلاقات بينهم والسلطات الغالبة في الإقليم كانت تحكمها طبيعة هذه السلطات، ومقدار تشددها حيال الأقليات المسيحية.
وتنقل لنا سرديات الموارنة، أنّ ثمة بنية عسكرية، شبه مدنية كانت لديهم، منفصلة عن الإكليروس ومتجانسة معها من ناحية التوجهات، مثالنا على ذلك ما اتفق على تسميتهم بالمقدمين، أي رؤساء الفرق العسكرية الذين تولوا قيادة الموارنة في القرن السابع، لما تمّ التضييق على البطاركة، واعتقلت غالبية رجال الدين لتطويعهم، وإجبارهم على دفع ضريبة الخراج. ولم يفلح نظام "المقاطعجية" (أي الإقطاعي الذي يلتزم جمع الضرائب للوالي ويكافأ بملكيات معينة) في القضاء على شوكة الموارنة الذين نظموا في القرن الـ19، سلسلة من الانتفاضات ضد الإقطاع الماروني والأمراء، وضغطوا من أجل مزيد من الحكم الذاتي عبر القائمقاميتين والمتصرفية، وصولاً إلى إنشاء الدولة اللبنانية وتكوين الأحزاب، وتشكل الميليشيات ذات الأكثرية المسيحية المارونية إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وصولاً إلى اتفاق الطائف عام 1989.
في مقابل ذلك، لم يألُ الشيعة جهداً في تنظيم أنفسهم لمواجهة خصومهم، فناصروا ثورة أبي عميطر باعتباره المهدي، وتابعوا التصدي لحملات إخضاعهم وإقصائهم، وهي قامت ضدهم وضد النصارى في جبل لبنان. وإن لم تكن أنواع التنظيم العسكري التي دخل فيها الشيعة معروفة أو موصوفة على النحو الذي عرفت به عند الموارنة، خلال صراعاتهم ودفاعهم عن وجودهم في جبل عامل وبلاد بعلبك وبعض كسروان وجبيل والبترون، فإن واقع قتالهم الضاري ضد الحملة الصليبية وضد المماليك والسلاجقة وغيرهم عبر تاريخهم المديد لـ1200 عام خلت، وصولاً إلى لبنان الكبير وقتالهم الفرنسيين، رعاة الانتداب، وحيرتهم حيال الانتماء إلى لبنان أو الاندماج في المنظومة العربية التي لم ترَ النور، تشهد لصلابة عصبيتهم ولاستعدادهم الدائم لتكوين أطر عسكرية ملائمة لكل زمن.
فصول الدم والسلام
قد لا يكون متاحاً الكلام عن كل الفصول في الكتاب، وهي الـ11 الباقية، إلا أنه يشار إلى نقطتين محوريتين في أطروحة الباحث أنطوان سلامة، وهما الحرب بين الموارنة والشيعة في لبنان منذ أن وجدوا على أرضه، والتلاقي بينهم خلال مراحل تاريخية فاصلة.
وفي هذا الشأن، يستخلص القارئ أن في أصل أي صراع في لبنان بين الموارنة والشيعة، لم يكن عقائدياً، وإنما كان في غالبه سياسياً، وبالدرجة الثانية اجتماعياً ونماءً بشرياً، وبالدرجة الثالثة اقتصادياً. وعليه، يروي الكاتب سلامة، وفقاً للمراجع التاريخية والمصادر كيف تكونت بنى اجتماعية لدى كلتا الطائفتين (بطاركة وأساقفة في السلك الديني الماروني، يقابله بنيان عسكري ينظمه المقدمون، في مقابل الأئمة الشيعة بحسب مراتبهم وقربهم من آل البيت، وتدافع عن هذا الكيان التشريعي الإمامي أنواع من الأطر العسكرية المعدة لهذا الغرض).
وضمن الفصول الأخرى، يستعرض الباحث أهم المحطات التي أثرت في مصائر الطائفتين، من العهد المملوكي وحتى الاستقلال ونشوء دولة إسرائيل والنكبة الفلسطينية، وما أعقبها من قيام "منظمة التحرير الفلسطينية" واتفاق القاهرة الذي سمح بأن يكون جنوب لبنان منطلقاً لعمليات "الفدائيين"، وما جرّه هذا الواقع من استقطاب وشرخ بين اللبنانيين، المؤيدين للفلسطينيين والرافضين لوجودهم، والذي أدى إلى نشوب الحرب اللبنانية (1975-1990) التي دامت 15 عاماً، كان فيها الشيعة إلى جانب فلسطين، والحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط، قبل قيام حركة "أمل"، و"حزب الله" أوائل الثمانينيات من القرن الـ20، وذلك قبل أن تنفرد هاتان الحركتان الشيعيتان بقيادة الحراك، بحسبه، وتعمدان إلى ترجيح كفة الشيعة في الميزان السياسي اللبناني، في مقابل الموارنة الذين أصيبوا بنكسة كبرى لدى اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل في الـ14 من سبتمبر (أيلول) عام 1982، وهو المنتخب غداة دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولئن كان الباحث سلامة لم يأتِ على ذكر اغتيال الأمين العام لميليشا "حزب الله" حسن نصرالله لوقوع زمن الكتابة والتوثيق قبل أحداث "حرب الإسناد"، فإنه يبلغ حدّاً في تحليل سلوك الطائفة الشيعية عبر قواها الحزبية الغالبة، على أنه محاكاة لحركة الطائفة المارونية منذ القائمقاميتين والمتصرفية، وصولاً إلى الاستقلال، وإقامتهم علاقات مع الدول والمراجع الكبرى في العالم مثل الفاتيكان والولايات المتحدة الأميركية. وفي الرد المضمر على هذه المحاكاة التي باشرتها الطائفة الشيعية بالتحالف مع إيران الخمينية، لتمكين شوكتها وعصبيتها في الداخل اللبناني، مقابل العصبية المارونية اللبنانوية والمتهمة باستغلال الجمهورية لمصالح الطائفة دون سائر أبناء الطوائف، بالقول إن للموارنة علاقات روحية وحسب مع الفاتيكان، ولا تأتمر الطائفة المارونية من مركز البابوية سوى في ما خص الإيمان الكاثوليكي والإرشادات الرعوية ومراعاة الحرية الدينية بصورة عامة.
ومع ذلك، لم يتوانَ العنصر الشيعي عن الإسهام في تكوين النسيج اللبناني منذ إعلان دولة لبنان الكبير، بل في مرحلة الإعداد لهذا الإعلان، وإلى الاستقلال، وعند الاشتراك في تكوين الجسم البرلماني في الدولة الفتية، فإلى التخلص من الإقطاعيات والشروع في مجالات التحديث التي أتيحت للشباب اللبناني في التعلم عبر المؤسسات الرسمية، والإدارات المنظمة لعمل الدولة والتي كان للرئيس فؤاد شهاب دور عظيم في ترسيخ فاعليتها وتوفير ديمومتها.
التاريخ والعبرة
ربما يتيح هذا الكتاب المرجعي والموثق للباحث أنطوان سلامة للقارئ العربي، واللبناني خصوصاً أن يجري تبصّراً تاريخياً بانورامياً لأحوال الطائفتين اللبنانيتين (الشيعة والموارنة)، بما يوفر له يقيناً ثابتاً في محاسن الدولة الحديثة، والاندماج في بناها ومؤسساتها التي أرسى بناءها الرئيس فؤاد شهاب (1902-1973) وكان عنواناً للوطنية والتجرد من الهوى الطائفي والإخلاص للبنان وعروبته. ولربما يذهب بنا الاستنتاج من فيض التاريخ السارد تحولات الموارنة والشيعة، إلى رفع شعار "حبيبتي الدولة" لصاحبه الشاعر محمد العبد الله.