Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فيتامين السعادة" لكارفر: عن أحزان الحلم الأميركي المتلاشي

حكاية كاتب صور الحياة كما هي في عاديتها وتعاساتها وتفاصيلها غير المملة أحياناً

مشهد من فيلم روبرت آلتمان المقتبس عن كارفر (موقع الفيلم)

 

ملخص

حين رحل رايموند كارفر ترك وراءه عشرات القصص القصيرة التي ضمتها مجموعات صدرت وترجمت وإن ضمن حدود خلال حياة صاحبها.

يعرف الذين شاهدوا تحفة أليخاندرو إينياريتو السينمائية الهوليوودية "بيردمان" أن هذا الفيلم ذا اللقطة الطويلة الواحدة يدور من حول مسرحية لكاتب أميركي هو رايموند كارفر تقدم من خلال الفيلم. كُثر لم يدركوا حينها أن المسرحية حقيقية لكاتب حقيقي.

والحقيقة أن هؤلاء نسوا بالأحرى أن السينما كانت هي التي أوصلت كارفر إلى العالمية، قبل "بيردمان" بأعوام أي عام 1994 حين اشتغل المخرج الأميركي روبرت آلتمان على مجموعة من قصصه القصيرة محولاً إياها إلى فيلم سينمائي حمل عنوان "مقاطع قصيرة".

وعلى الفور يومها اكتشف "العالم الخارجي" كتابة كارفر وتحرشها الاستفزازي المتواصل بأوهام "الحلم الأميركي". وراحت أعمال كارفر تترجم إلى لغات عديدة وتقرأ بشغف. غير أن المؤسف أن الكاتب نفسه نفسه لم يستفد مما حاصل لأنه كان رحل عن عالمنا حزيناً غاضباً يائساً قبل ذلك بأقل من عقد من السنين، أي عام 1988.

وحين رحل رايموند كارفر ترك وراءه عشرات القصص القصيرة التي ضمتها مجموعات صدرت وترجمت، وإن ضمن حدود خلال حياة صاحبها. وكان في أواخر سنوات حياته قد بدأ يعد من أبرز كتاب جيله إنما فقط بالنسبة إلى الباحثين الأكاديميين الذين راحوا يفلون أعماله ليكشفوا عما تحمله خلف قناع البساطة الأولى البادي عليها.

صور من الذاكرة

كانت النتيجة أنهم تلمسوا صورة الحياة الأميركية كمزيج من مشاهد تذكر حيناً بلوحات إدوارد هوبر، وحيناً بنظرة تشيخوف الفاحصة داخل سراديب الحياة الروسية، وأحياناً بأسلوب آرنست همنغواي القاسي/ الحنون في الوقت نفسه. وليس هذا بالأمر الغريب، إذ إن كارفر نفسه كان يعلن أن تشيخوف وهمنغواي هما أستاذاه الكبيران. كان يقول هذا ثم يتساءل بدهشة "ولكن أي جديد في هذا؟ هل ثمة من لا يحب تشيخوف وهمنغواي؟".

 

والحال أنه حتى لو أخذ نقاد على قصص كارفر أنها غير ذات مواضيع واضحة، فإن من فضائلها أن الكاتب يضعنا منذ فقراتها الأولى، وسط مناخات محددة. وحسبنا هنا أن نتأمل بدايات بعض قصصه البارزة حتى ندرك فحوى عالمه والأسباب التي جعلت لأدبه كل هذه القيمة.

ففي قصة "ريش" المستقاة من مجموعة "فيتامين السعادة" يدخل كارفر عالمه على هذا النحو: "رفيق في العمل يدعى ’باد’ دعانا إلى العشاء، فران، زوجتي وأنا. لم أكن أعرف زوجته وهو لم يكن يعرف زوجتي. وعلى هذا النحو كنا على قدم المساواة كنت أعرف أن لـ’باد’ طفلاً صغيراً في الثامنة. آه كم مرت تلك الأشهر بسرعة! أذكر اليوم الذي وصل فيه ’باد’ إلى العمل ومعه علبة سيجار وراح يوزع ما فيها على الرفاق بعد الغداء وقد لف كل سيجار بخاتم أحمر كتب عليه ’إنه حبي!’". بعد هذا لن يحدث في القصة شيء مهم، سوى وليمة العشاء نفسها وتعرف الراوي وزوجته على زوجة "باد" وطفله الذي سيتبدي لهما "أقبح طفل شاهداًه في حياتهما".

حكايات الحياة

وفي قصة "فيتامين السعادة" نفسها يبدأ كارفر على هذا النحو، "كان لدي عمل، أما باتي فلم يكن لديها أي عمل. كنت أشتغل بضع ساعات خلال الليل في المستشفى. وظيفة غير ذات أهمية على الإطلاق كل ما في الأمر أنه كان عليَّ أن أوقع على ورقة الحضور التي تفيد بأنني أمضيت ثماني ساعات في العمل، ثم أذهب بعد ذلك لأشرب. في لحظة من اللحظات أبدت باتي رغبتها في العمل. قالت إنها في حاجة إلى أن تعمل تحقيقاً لكرامتها. وبدأت تتجول عارضة على الناس شراء الفيتامينات".

وفي قصة "انتباه" يطالعنا لويد الذي "بعد أن ناقش الأمر طويلاً – مناقشة كانت زوجته إيناز تطلق عليها صفة ’تثمين الوضع’ – ترك البيت الزوجي واتخذ لنفسه شقة هي عبارة عن غرفتين وصالة وحمام في الطابق الثاني من مبنى يتألف من طابقين. كان السقف من الانخفاض بحيث إنه كان يتعين على لويد أن يخفض رأسه حين يمشي وكان عليه أن ينحني على نفسه إذا ما أراد أن يطل من النافذة".

 

وفي قصة "القطار" يخبرنا كارفر بأن "المرأة كانت تدعى الآنسة دنت، وأنها باكراً خلال تلك السهرة كانت قد سددت مسدساً نحو شخص ما وأجبرته على الانبطاح فوق الوحل وهو يرجوها أن تتركه على قيد الحياة. وفيما كان هو يبكي بدموع غزيرة كانت هي تهدده قائلة له إنه ليس بإمكانه أن يستمر إلى الأبد لاعباً بعواطف الخلق".

ما بعد الحلم الأميركي

هذه النماذج التي سُقناها هنا على هذا النحو مستقاة من بعض عوالم رايموند كارفر، فتكشف عن عالم حافل بالتعاسة. والحال أن القاسم المشترك بين شخصيات قصص كارفر، هو أنها تعيش حاضراً يستبد بها ويختلف كل الاختلاف عما كانت تحلم به. عالم كارفر حافل بالعاطلين من العمل، وبالخادمات العاملات في المقاهي، وبالعلاقات الزوجية التي تنتهي إلى الطلاق، والأسر التي تعيش متشردة لأن المصارف قد استولت على ما تملكه، وبرجال الشرطة الذين يفشلون في ممارسة حياتهم العادية. غير أن هذا لا يمنع تلك الشخصيات من أن يكون لديها ما يثير إعجابنا بها.

والواقع أن رايموند كارفر لا يعامل شخصياته بقسوة، بل بمنتهى الحنان، فهو إذ يلتقطها في لحظة عادية من لحظات حياتها نراه يعطيها سمات الناس الاستثنائيين، ويجعل من لحظاتها الأكثر عادية وحميمية، لحظات استثنائية، ولعل هذا ما جعل روبرت التمان، المخرج الذي اشتهر بالقدر الكبير من السخرية الذي يطل به على طقوسيات الحياة الأميركية، يختار من بين قصص كارفر تلك التي تقدم أكبر قدر من الاستثنائية من داخل عاديات الحياة اليومية.

أباً عن جد

لكن، لماذا كان رايموند كارفر قادراً على ممارسة كل هذا الرصد الدقيق لحياة الناس العاديين؟ لأن كارفر الذي ولد عام 1938 في مدينة كلاتسكاني بولاية أوريغون نشأ وترعرع في مدينة باكيما شرق ولاية واشنطن حيث كان والده عاملاً في منجرة للخشب، أما والدته فكانت تمضي في البيت الوقت الذي لم تكن تعمل فيه كخادمة مقاه حيناً، وبائعة في بعض المحال أحياناً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولسوف يظل كارفر يتذكر حتى سنواته الأخيرة أن أكثر الأحاديث التي كان يسمعها في البيت كانت تدور من حول "أعصاب" والدته وأزمتها وعدم قدرتها على العثور على عمل دائم. هذه البيئة وهذه الطفولة كان من شأنهما أن يجعلا من حياة كارفر حياة في منتهى العادية لطفل عادي. فكيف تحول ذلك الطفل إلى كاتب؟ إن كارفر نفسه يتحدث عن هذا الأمر وببساطته الأخاذة، في الحوار الطويل الذي أجرته معه مجلة "ذي باريس ريفيو". ففي معرض جوابه على سؤال طرحته عليه المجلة حول الكيفية التي بها جاءته رغبة الكتابة يقول كارفر، "إن التفسير الوحيد الذي يمكنني أن أعطيكم إياه هنا هو واقع أن والدي كان لا يكف عن رواية الحكايات لي حين كنت لا أزال صغيراً: حكايات حوله، وحول أبيه وحول جده".

من هو حبيب رموز؟

ولعل هذا ما أنتج مجموعاته التي باتت كبيرة الشهرة الآن من "اسكت من فضلك" إلى "فيتامين السعادة" إلى "لا تحول هذا إلى حكاية" إلى "حدثني عن الحب" وبخاصة مجموعة "النيران... النيران" التي كانت واحدة من آخر النصوص التي وضعها وشاءها نوعاً من التاريخ لسيرته الذاتية فوضع فيها عدة دراسات أدبية كتبها في أزمان متفرقة وترسم بصورة واضحة مساره الأدبي والتأثيرات التي كانت لبعض الأدباء عليه، وصورة حية لبعض أبناء جيله من كتاب سنوات الستينيات والسبعينيات.

بعد ذلك تأتي 50 قصيدة كتبها كارفر لمناسبات مختلفة منها قصيدة تدور أحداثها في مدينة يافا وأخرى يتحدث فيها عن عمر الخيام وجبران، بل ثالثة شديدة الغرابة بعنوان "حميد رموز (1818 – 1906)" يحدثنا كارفر فيها عن شخص عربي لا نعرف نحن العرب عنه شيئاً. ويقول كارفر في القصيدة "هذا الصباح بدأت كتابة قصيدة عن حميد رموز، جندي، باحث، قصاص أثر في الصحراء أطلق رصاصته على رأسه وهو في الـ88 سنة. حاولت أن أقرأ ما كتب في القاموس حول هذا الرجل الغريب حاولت أن أقرأ هذا أمام ابني – فيما كنا نبحث عن معلومات تتعلق برالي، لكن ابني فقد صبره وكان محقاً في ذلك. حدث هذا قبل أشهر، أما الآن فإن الطفل عند أمه".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة