Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيلم "تانغو الشيطان" عن رواية النوبلي كراسنهوركاي: نشيد الانهيار

450 دقيقة سينمائية عن حياة تبدو قيمتها متسربلة بالغموض والشك واللاجدوى

من فيلم "تانغو الشيطان" المستوحى من رواية لا سلو كراسنهوركاي الفائز نوبل (ملف الفيلم)

ملخص

فاز الكاتب المجري لاسلو كراسنهوركاي بجائزة نوبل للآداب، "عن منجزه الأدبي الآسر والرؤيوي الذي يؤكد، في خضم رعب ينذر بنهاية العالم، قوة الفن"، وفق ما قالته، أول من أمس الخميس، الأكاديمية السويدية التي وصفت كراسنهوركاي بأنه "كاتب ملحمي عظيم يندرج في تقليد أوروبا الوسطى الممتد من كافكا إلى توماس بيرنهارد، ويتميز بالعبثية والمغالاة الهزلية".

يمكن تلمس صيحات العبث في كل أعمال الكاتب المجري الفائز بنوبل، وبخاصة روايته الأولى "تانغو الشيطان" (Satantango)، وفي مفتتحها يقول: "في صباح أحد الأيام قرب نهاية أكتوبر، قبل وقت قصير من سقوط أولى قطرات الأمطار الخريفية الطويلة القاسية على التربة المتشققة والمالحة على الجانب الغربي من العقار (لاحقاً ستجعل بحر الطين الأصفر النتنة الممرات غير صالحة للعبور وتبعد المدينة عن متناول اليد)، استيقظ فوتاكي على صوت الأجراس".

الحاجة إلى جمال الجحيم

بهذه اللغة الممتدة التي لا يمكن خلالها التقاط الأنفاس، والمكتظة بالجمل المعترضة، والخالية من علامات الترقيم (التي يمقتها) يكتب كراسنهوركاي "نشيداً لجمال الانهيار، ومرثية للزمن بعدما فقد وجهته"، مقراً بأن رواياته تتوجه إلى قراء "يحتاجون إلى جمال الجحيم".

رواية "تانغو الشيطان"، وتترجم أحياناً "تانغو الخراب" نقلها إلى العربية، بالعنوان الثاني، عام 1985، المترجم السوري الحارث النبهان، إلى جانب "كآبة المقاومة" المنشورة عام 1989، وصدرتا عن "دار التنوير".

"تانغو الشيطان" التي بشرت بكاتب عبقري، ولدت مرتين، الأولى مكتوبة (1985)، والثانية (1994) مرئية بالأبيض والأسود، وبالاسم نفسه في فيلم طويل جداً (سبع ساعات ونصف) بتوقيع مخرج لا يقل عبقرية عن المؤلف، هو المجري بيلا تار، الذي يعد أحد أبرز المخرجين في المجر، وفي أوروبا بعامة.

الفيلم، الذي تستهدف هذه المقالة مقاربته، ظهر في قائمة مجلة (Sight & Sound) التابعة لمعهد الفيلم البريطاني (BFI) لأفضل 50 فيلماً في تاريخ السينما.

وعلى رغم أن الرواية ظهرت في نسختها الإنجليزية في 274 صفحة، فإن الفيلم جسدها في 450 دقيقة. وعبر هذا الزمن الوعر، يستطيع المتابع أن يستطلع المناخات اللاحقة التي دارت فيها كتابات حائز نوبل الذي ما من شك أن بيلا تار، شق له طريقاً إلى التعبير، بعدما حطم الأسوار الشاهقة الفاصلة بين النثر والصورة، وهو ما نظر إليه لاحقاً جيل دولوز من خلال "صورة الحركة" و"صورة الزمن".

نص خلاق ومخرج عبقري

التطابق بين رواية كراسنهوركاي وفيلم تار، يبدو خلاقاً، فكلاهما ألهم الآخر. والأهم أن الفراغات التي تخللت نص حائز نوبل، ملأها تار بالصمت، والجمل الطويلة، والتأملات الروحية المبهمة التي لا تتوخى خطاباً مباشراً، بل استقصاء لمسارات الوجود التائهة.

يبدأ الفيلم بتأمل طويل، لثماني دقائق، تكتبه كاميرا ثابتة تتوجه إلى أبقار تتحرك ببطء، بلا هدف، وبعضها يقوم بالتزاوج. الأبقار تقترب من الكاميرا، ثم تنأى، كأنما يراد أن يقال إن هذا هو حال البشر اللاهثين وراء اللذات الدنيا، في حياة تبدو قيمتها متسربلة بالغموض والشك واللاجدوى.

تجري الأحداث في مزرعة تعاونية زراعية متهالكة في المجر، في فترة غامضة، ويمكن الترجيح بأنها بين أواخر الحقبة الشيوعية وبدايات ما بعدها.

وعبر صمت يستبطن عطباً روحياً غائراً، يشبه "انسياباً بطيئاً من الحمم البركانية"، نشرع في التحديق، على مدار الوقت، في كائنات عاجزة ناقمة تجد متنفساً في الأذى والطمع، في اعتناق الشر. ومن أكثر المشاهد تعبيراً عن فداحة هذا الألم قتل فتاة صغيرة مضطربة نفسياً قطة أليفة بعد غمس وجهها بالسم الممزوج بالحليب. ثمة لذة في التعذيب، مما يحيلنا إلى فرويد وخزائن اللاوعي الملعونة الفياضة بالكبت والرغبات المقموعة. الفتاة تعذب القطة حد القتل، وتقتل نفسها بالسم ذاته.

تشكيل ذائقة المتفرج

الفيلم، في جزء خلاق من مراميه الواعية، يتوخى تحويل المتفرج نفسه، وتشكيل ذائقته، وتحطيم الصورة المستقرة في وعيه عن سينما هوليوود اللاهثة في غالب نماذجها، التي ترنو إلى إجابات سهلة، ومقاربات جاهزة، وحلول سريعة تشبه إيقاع الحياة على نمط الـ"Fast Food".

"تانغو الشيطان" ينتسب إلى سينما الهامش المولعة بصناعة الصمت وتمجيده، والاستغراق في الزمن، ومقت السرعة والأكشن. كما أنها تسعى إلى تقديس الملل والتلذذ بالسأم باعتباره فعل احتجاج ضد تجويف الإنسان روحياً. لعل هذه السينما تصبو إلى شكل من التصوف، لكنه ليس المتشح باللبوس الميتافيزيقي، بل باجتراح "الجمال المؤلم".

في قلب ذلك كله تكمن رغبة في قلب الطاولة، فنياً وريؤياً وإنتاج تقاليد مبتكرة لصناعة السينما ومشاهدتها. وإلا ما معنى أن نبقى محدقين في الصمت والسكون طوال سبع ساعات ونصف، لا تتخللها إلا ومضات من حوار متوتر عابر؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفيلم، في فصوله الـ12، مستوحى من رقصة التانغو: ست خطوات إلى الأمام، وست إلى الخلف. الخطى في الرقص تتقدم وتتراجع، لكنها في الفيلم تتخذ هيئة الزمن الذي يسير في دائرة مغلقة، بلا بداية ولا نهاية، وفي كل مرة ثمة أحداث ترى من زوايا معينة. الوقائع لا تتغير. التغير يصيب الموقع الذي به ومن خلاله تتوالى الحوادث وتتسع ثم تضيق، في إيقاع يبدو للوهلة الأولى مشتقاً من سوداوية كافكا، وانتظارات بيكيت، وتشاؤمية شوبنهاور، وعبثية نيتشه، وعدمية هيدغر، ومن الجهر بغياب جوهر العالم الموضوعي، وافتقار الوجود للمعنى، بالتالي تلاشي هدف الحياة.

 لذلك نوه بيان الأكاديمية السويدية بما أثره في المجري حائز نوبل، الأديب النمسوي توماس بيرنهارد الذي اشتهر بكتاباته التشاؤمية اليائسة، وهو ما يتخلل البنية العامة للفيلم الذي يتوخى بناء زمنياً غير خطي، بغية تحطيم النمط، لأن النمط يحنط الدهشة. وليس أدل على ذلك من مشهد الرقص في الحانة الذي جرى تأديته بطريقة ارتجالية ونفذه ممثلون غير محترفين كانوا فعلاً سكارى، وجرى تمثله من منظورين، الأول السيدة التي تراقب المشهد من النافذة، والثاني من داخل الحانة. في كلا المنظورين يتجلى مفهوم مختلف للزمن، مما يحيلنا إلى "الزمن النسبي" عند أينشتاين الذي يختلف باختلاف السرعة والمراقب، أو "الزمن النفسي" عند برغسون الذي يعتمد على الانتظار والوعي.

سينما المنفيين

بعضهم يحب أن يطلق على هذه السينما "سينما المنفيين" الذين لا يتوقعون التصفيق، ولا الثناء، ولا حصد الجوائز. إنهم وبحسب كمن يلقون رسائلهم في زجاجات تمخر البحار، وربما تعثر على من يكتشفها ويوقرها ويعيد إلى بهوتها شيئاً من التشخص والحضور.

وتعبيراً عن قيم تلك السينما، يبدو الفيلم كأنه مرثية للوجود يكتبها وعي متخم بالهشاشة والفساد البشري. هذه المرثية يعزفها، بلا ملل ولا إملال، أكورديون حزين ينزف موسيقى حتى النهاية، حيث يطفئ الطبيب (أحد شخصيات الفيلم الأساسية) مصباحه ويغرق المشهد في الظلام، في إشارة رمزية بليغة إلى انطفاء الوعي الإنساني وغرقه في العدم.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما