ملخص
قصيدة "سيدة البحيرة" التي تعتبر أشهر قصيدة كتبها والتر سكوت في 10 أناشيد لتصدر في كتاب في عام 1810 مبدعة نوعاً "جديداً" في الأدب الإنجليزي هو الرواية المكتوبة شعراً
ربما كان السير والتر سكوت واحداً من أشهر كتاب الرواية التاريخية في القرن الـ19، وذلك بشهادة الناقد المجري جورج لوكاش في القرن الذي يليه. وربما كان الإنجليز القارئون يحتفلون به دائماً، بحسب مؤرخ الأدب باتريك بارندر في كتابه العمدة "الأمة والرواية"، باعتباره أكبر كتاب لغة شكسبير من الذين بنوا روح الأمة في رواياتهم، غير أن عموم القراء يحتفلون به أكثر من ذلك بكونه شاعراً. وهم على أية حال، الذين جعلوا خصوصاً من قصيدته "سيدة البحيرة" مرجعية شعرية في التاريخ البريطاني، حتى من دون أن تكون لها في نهاية الأمر سمات القصيدة الوطنية. فحتى اليوم لا تزال "سيدة البحيرة" تعتبر قصيدة شعبية كبيرة، حتى وإن لم يكن لها في الأدب ميزة احتكار عنوان تشاركها فيه، في الأدب البوليسي الأميركي في الأقل، رواية باتت لا تقل عنها شهرة لرايموند تشاندلر التي تفرعت، وتحت العنوان نفسه عنها، إلى فيلم بات لا يقل عنها شهرة.
ولكن في مجال النوع نفسه من التفرع لا يمكن القول إن "سيدة" والتر سكوت كانت أقل حظاً، فهي بدورها تفرعت إلى أوبرا لجاكومو روسيني. ومن هنا كان التعادل لطيفاً بين سكوت وتشاندلر، غير أننا هنا لن نهتم إلا بسكوت بالنظر إلى أنه في ما يجري الحديث غالباً عن رواية الكاتب البوليسي الأميركي باستفاضة، قليلاً ما يؤتى في زمننا هذا، على ذكر قصيدة سكوت الذي، وحتى من قبل لوكاش، يغلب على الحديث عنه حديث الروايات التاريخية، وينسى أنه كان في الأصل شاعراً.
تمهيد شاعري لرواية كبيرة
ومهما يكن من أمر هنا، لا بد لنا دائماً من أن نتذكر أن قصيدة "سيدة البحيرة" التي تعتبر أشهر قصيدة كتبها والتر سكوت في 10 أناشيد لتصدر في كتاب في عام 1810 مبدعة نوعاً "جديداً" في الأدب الإنجليزي هو الرواية المكتوبة شعراً، إنما أتت أصلاً من جذور روائية، لتصب في نهاية الأمر وقبل موسقتها الأوبرالية على يد روسيني، في الخط الروائي، إذ إنها ليست في حقيقتها سوى الأصل الممهد لرواية "ويفرلي" التي منذ صدورها عام 1814 ستعتبر مأثرة والتر سكوت الكبرى في عالم الرواية التاريخية.
وهذا بالنسبة إلى مآلها، أما بالنسبة إلى أصولها فهي تعود للحماسة التي استبدت بالكاتب، إذ عثر وهو يقرأ المدونات القديمة حول حكايات الملك آرثر أصلاً أسطورياً يتحدث عن الجمال المطلق للمناطق التي تضم بحيرة عند الجانب الغربي من مقاطعة بارث الإنجليزية وخرافة عن فتاة فائقة الجمال لها حكاية متداولة هناك.
صحيح أن حكاية هذه الفتاة ليست بالضرورة حكاية تلك التي ستصبح بطلة قصيدة "سيدة البحيرة"، لكن الاستلهام كان واضحاً. وهو ما يقال على أية حال عن المنطقة نفسها، فلئن كانت المنطقة التي تحدثنا القصيدة عنها كمكان لأحداثها تقع في منطقة أخرى تمتد في منطقة حدودية بين اسكتلندا وإنجلترا، فإن المواصفات تكاد تنطبق على المكان الخرافي الجمال إلى الغرب من بارث، وهو واحد من أماكن سكوت الأثيرة. ويقيناً أن هذا كله لا يهم ما دام أن سكوت كان يؤمن بالقول المأثور "يحق للشاعر ما لا يحق لغيره" فكانت ولادة قصيدته، انطلاقاً من استحواذه على هذا الحق.
صراعات في القمة
وما استخدمه السير والتر سكوت لكتابة هذه القصيدة، إنما هو على أية حال حكاية من حكايات زمن الملك آرثر، وتدور من حول فارس يقدم نفسه باسم جيمس فيتز جيمس. وهو مستضاف حين تنطلق القصيدة لدى الفارس رودريك، المعروف بكونه مقاتلاً وزعيماً شجاعاً يسيطر على المنطقة الحدودية بين اسكتلندا وإنجلترا الواقعة في محاذاة بحيرة كاترين، وهو في الأصل محب لضيفه، لكن ضيفه يعاني هياماً غير متوقع بالحسناء إيلين، إنه اللورد قاطع الطرق على طريقة روبن هود، جيمس دوغلاس.
لكن الحكاية ستغدو بالغة التعقيد في الحقيقة، بالنظر إلى أن إيلين مغرمة بحبيبها الفارس مالكولم، كما بالنظر إلى أن رودريك بدوره مغرم بها ويتطلع إلى الحصول على يدها. وهكذا تتشعب حكاية الغرام بين ثلاثة لا تريد إيلين في حقيقة أمرها أن تختار بينهم، فهي تحب مالكولم ونقطة على السطر.
وهنا تتدخل العوامل السياسية والعسكرية في زمن كان يشهد كثيراً من الصراعات الإقطاعية والعائلية، ورودريك نفسه كان يخشى في ذلك الحين هجوماً منتظراً من جانب الملك، لذلك نراه يجمع جنوده وحلفاءه للمجابهة. غير أن دوغلاس الذي يشعر بأن الهجوم الملكي إنما يستهدفه هو بالذات، يتخذ قراره بالتوجه إلى ستيرلنغ بهدف تسليم نفسه للبلاط الملكي، درءاً للفتنة وإسالة الدماء. وبالتالي يتدخل جيمس فيتز جيمس الضيف الغامض، بعد غياب لا يقل غموضاً، ليقترح أن يصحب إيلين إلى مكان آمن خوفاً من تعرضها لسوء إن اندلع القتال، لكن الصبية تنتهز الفرصة هنا، لتبلغه بكل صراحة أنها تفهم ما يرمي إليه وترفض حمايته، نظراً إلى أن لها حبيباً يمكنه تولي حمايتها، ينسحب جيمس بكل مروءة وتهذيب، ولكن بعد أن يعطي الفتاة خاتماً يخبرها أن في إمكانها أن تطلب به من الملك أي شيء تشاء حين تشاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراع و"قلبة" مسرحية
وإثر ذلك ينطلق فيتز جيمس عائداً لغموضه، حتى اللحظة التي يصطدم بها في مساره برودريك، وما إن يلتقيان حتى يشتبكان في قتال يصاب رودريك في نهايته بجراح خطرة يقبض عليه على إثرها ويقاد أسيراً إلى ستيرلنغ. وهناك في الحاضرة الملكية حيث تصل إيلين بدورها، تتوجه هذه الأخيرة إلى القصر الملكي وقد عزمت على أن تستخدم الخاتم لتطلب العفو لأبيها. وتكون "القلبة" المسرحية الكبرى هنا، حين يتبين لها أن الملك ليس في الحقيقة سوى فيتز جيمس نفسه، الذي كان متنكراً في إقامته لدى رودريك الذي سيموت من جراء جراحه في خضم ما يحدث، وفي الوقت الذي كان فيه دوغلاس والد إيلين يستغفر الملك الذي سيبادر إلى العفو عنه بل التصالح معه، جاعلاً رضاه عن زواج إيلين بحبيبها مالكولم، عربون تلك المصالحة الشاملة، ويكون أن تنتهي القصيدة على تلك المصالحة وعلى زواج الحبيبين.
والحقيقة أن هذه القصيدة قد نالت في بريطانيا عند ظهورها للمرة الأولى قدراً كبيراً من النجاح الشعبي، أولاً لبعدها التفاؤلي بل التصالحي، ولكن أيضاً لبساطة اللغة التي صاغها والتر سكوت بها، متوخياً منها أن تكون سهلة على الحفظ والإلقاء على شاكلة حكايات المقاهي الشعبية، وتنضح بموسيقى رنانة تثير شهية القراء والمستمعين إلى الشعر المرتل. وهي أثارت تلك الشهية بالفعل، وباتت على كل شفة ولسان خلال الأعوام التي تلت ظهورها ككتاب.
وبقدر ما استقبل الجمهور العريض القصيدة بترحاب، استقبلها كذلك جمهور النخبة وحتى النقاد الذين أثنوا على "التجديدات المتسمة بأبعادها الموسيقية التي طورها سكوت من خلالها شكلياً"، كما بكونها عملاً درامياً، لكنه يخلو - وكان هذا مستحباً - من نزوع إلى الفجائعية والغموض اللذين كان يسمان هذا النوع من القصائد الآرثرية منذ زمن.
ولا شك في أن ذلك الاستقبال المتشعب والإيجابي الذي كان من نصيب قصيدة "سيدة البحيرة" هو الذي جعل الشاعر / الكاتب يعود ليستخدم الموضوع نفسه والشخصيات ذاتها في رواية "ويفرلي" كما أشرنا أعلاه، التي اشتغل عليها بحماسة ودأب خلال السنوات التي تلت ظهور "سيدة البحيرة". وكان استلهاماً موفقاً من مبدع عاش بين 1771 و1832، وسيعتبر دائماً واحداً من كبار مؤسسي الرواية التاريخية في الأدب الإنجليزي، ولكن أيضاً في الأدب العالمي، إذ من المعروف أن معظم أدباء العالم الذين كتبوا روايات تاريخية، وحتى عن حكايات بلادهم مهما كانت بعيدة من موطن سكوت وميدان رواياته، يدينون لسكوت بالكثير. ومنهم بالطبع كاتبنا العربي جرجي زيدان، الذي قال غير مرة إنه ما كان من شأنه أن يكتب سلسلة رواياته عن تاريخ الإسلام، لولا جرعة الحماسة التي تلقاها من خلال قراءته المبكرة لروايات السير والتر سكوت.