ملخص
شركات الذكاء الاصطناعي وعدت بثورة علمية وشفاء الأمراض، لكنها تحولت إلى سباق تجاري لإنتاج مقاطع فيديو تافهة تولدها الخوارزميات، بينما يتراجع الإبداع الإنساني وتستغل وعود بإنجاز "الذكاء الاصطناعي العام" لجمع الأموال أكثر من تحقيق التقدم العلمي الحقيقي.
لأعوام، كانت شركة "أوبن أي آي" OpenAI وغيرها تبحث عن استثمارات من خلال التهديدات المخيفة والوعود المبهرة. لقد حذرت الشركات من أن الذكاء الاصطناعي قادم، وسيكون له تأثير كبير، على رغم أن هذا التأثير لم يكن واضحاً دائماً: هل سينتج منه آلة حاسوبية شريرة أم علاجات للسرطان؟ وغالباً ما كان الجواب يشير إلى كلا الاحتمالين.
كل هذا كان من المفترض أن يحدث عندما تحقق الشركات الهدف الموعود منذ زمن طويل وهو "الذكاء الاصطناعي العام" ولا أحد يعرف ما الذي يعنيه بالضبط، لكنه يشير على نحو تقريبي إلى نقطة يغدو فيها الذكاء الاصطناعي قادراً على إجراء عمليات الحوسبة عبر ذكاء واسع يماثل ما يحوزه البشر.
في الحقيقة، كان كل هذا بمثابة نداء للحصول على التمويل. فقد استحوذت فكرة "التوسيع" على صناعة الذكاء الاصطناعي – أي زيادة البيانات والطاقة وأجهزة الحاسوب المستخدمة لتشغيل الذكاء الاصطناعي – مع الادعاء بأن مزيداً سيؤدي في النهاية إلى نتائج أفضل، بل إلى نتائج مذهلة قد تغير كل شيء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن هذه الفكرة بدأت تواجه صعوبات خلال الأسابيع الأخيرة. فقد روج رئيس "أوبن أي آي"، سام ألتمان، لإصدار "جي بي تي 5" GPT-5 لأشهر عدة – مشيراً إلى أن الشركة حققت الذكاء الاصطناعي العام في العمليات الداخلية، وأن قوة النسخة الجديدة ستكون قادرة على إحداث تغييرات هائلة – ولكن عند إطلاقها، كانت ضعيفة ومخيبة للآمال، مما أظهر أن تزويد الأنظمة بمزيد من البيانات والحواسيب لا يضمن تحقيق قفزات نوعية في الأداء.
ولكن الشركة استمرت في التشديد على أنها ستصل إلى النقطة المرجوة [الذكاء الاصطناعي العام] في نهاية الأمر، ومع مزيد من المال – حيث يقال إن سام ألتمان يأمل في الحصول على تريليونات الدولارات لتمويل هذا المشروع – فإن الحواسيب ستتمكن في النهاية من منافسة البشر.
وفي المقابل، يبدو أن ألتمان يعتقد الآن أن المشكلة الملحة تتمثل في نقص مقاطع الفيديو القصيرة. فخلال الأيام القليلة الماضية، أطلقت شركتا "ميتا" و"أوبن أي آي" مجموعة من الطرق الجديدة لإنشاء هذه المقاطع. وتملك الشركتان كلتاهما تطبيقاً يمكنك بسرعة كبيرة من صنع مقاطع فيديو باستخدام الذكاء الاصطناعي وفق أية نكهة تريدها، مهما بلغت غرابتها أو تفاهتها.
وعلى رغم القلق المتزايد من أن "تيك توك" و"يوتيوب شورتس" يسهمان في تقليص مدى انتباهنا وإغراق أدمغتنا بالدوبامين، وتدمير الفهم المشترك للحقيقة، فإن الشركتين بدتا وكأنهما أجلتا مشاريعهما الكبرى لعلاج الأمراض أو تقليص الحاجة إلى العمل، وركزتا بدلاً من ذلك على منحنا مزيداً من مقاطع الست ثواني.
وبعد انتشار انتقادات على "تويتر" لهذه التطبيقات، أشار ألتمان إلى أن هذه المقاطع القصيرة جزء من خطة أوسع للوصول إلى "الذكاء الاصطناعي العام"، لكنها تهدف أيضاً إلى "إسعاد الناس". وكتب بأسلوبه المعتاد الخالي من الحروف الكبيرة: "أفهم المشاعر هذه، لكننا في الغالب في حاجة إلى رأس المال لبناء ذكاء اصطناعي يمكنه إجراء أبحاث علمية، ونحن بالفعل نركز على ’الذكاء الاصطناعي العام‘ في معظم جهودنا البحثية. ومن الجميل أيضاً أن نعرض على الناس تقنيات ومنتجات جديدة ومثيرة خلال مسارنا هذا، ونرسم الابتسامة على وجوههم، ونأمل في أن نحقق بعض الأرباح نظراً إلى حجم الحوسبة المطلوب. عندما أطلقنا ’تشات جي بي تي‘، كان هناك كثير من التساؤلات: من يحتاج هذا؟ وأين هو ’الذكاء الاصطناعي العام‘؟ الواقع أكثر تعقيداً عندما يتعلق الأمر بالمسارات المثلى للشركات".
لكن حتى الآن، لم يكن هناك كثير مما يدعو إلى الابتسام. فبعد إطلاق "ميتا" لتطبيقها الجديد "فايبز" Vipes، انتشر منشور غريب مأخوذ من "فيسبوك" بسرعة مذهلة — نص يصعب تصديقه أو حتى شرحه بالكلمات — ومع ذلك شاركه آلاف المستخدمين بحماسة. ثم حين أطلقت "أوبن أي آي" تطبيقها "سورا" Sora الذي يتيح للمستخدمين طلب مقاطع فيديو ومشاهدتها في واجهة تشبه "تيك توك"، نشر ألتمان تدوينة طويلة ركز فيها على طمأنة الناس بأن التطبيق لن يستخدم لأغراض سيئة.
تكمن قيمة الفيديوهات ليس في وجودها بحد ذاته، فبإمكان أي شخص إنتاجها، وهاتفي يقوم بذلك تلقائياً في جيبي. في الواقع، هناك محتوى أكثر بكثير مما يمكن لأي شخص أن يشاهده. ومن بين الهواجس الأساس في الحياة، بالنسبة لي في الأقل، هي المعرفة المستمرة بأنك لن تتمكن أبداً من مشاهدة كل ما هو جيد.
وكان من أعظم إنجازات خوارزمية "تيك توك" وطريقة التصفح فيه أنها تجعلك تشعر بوجود محتوى لانهائي، وأن المقطع التالي قد يكون هو ما كنت تبحث عنه طوال الوقت. قوتها تكمن في أنها لا تمنحك خياراً حقيقياً لما تشاهده، لكنها تعدك بأنك سترى أفضل ما هو موجود.
والطريقة الوحيدة التي تجعلنا نتعامل مع هذا الكم الهائل من الفيديوهات هي الإيمان بأننا نصل إلى بعض من أفضلها. وتلك الفيديوهات الجيدة ليست مجرد محتوى – حتى لو وُلِّدت آلياً بمساعدة الحاسوب – بل هي تعبير عن العالم، وعن الأشخاص فيه. ولهذا السبب، فإن الفيديوهات التي نحبها قد تكون منتقاة من أعداد تكاد تكون لا نهائية، لكنها لا تبدو عشوائية، فهي توثيق لشيء حدث، أو شيء تخيله شخص ما، أو وثيقة لأفكار في عقل فرد أو مجموعة.
وفي الفيديو عن إطلاق تطبيق "سورا" (وجرى توليده بواسطة الذكاء الاصطناعي)، وصف ألتمان ذلك التطبيق بأنه "أقوى آلة للخيال بنيت في الأزمنة كلها" (ومن المشكوك فيه أنه من المستطاع اعتبار "سورا" أو الفيديوهات التي يصنعها "متخيلة" بالفعل، لكنه نقاش فلسفي عموماً). وفي المقابل، إن الخيال من دون أفكار يضحي مجر صور اعتباطية، وثمة سبب بأن الأحلام نادراً ما تثير الاهتمام، ولا تضحي الأخيرة كذلك إلا إذا عرفت من هم الذين يحلمون بها ومعنى الرؤى التي قد تحملها.
إن مقاطع الفيديو القصيرة المولدة تلقائياً اليوم تجسد رؤية لصناعة إبداعية بلا مبدعين (مرة أخرى، ثمة سؤال فلسفي آخر عن مدى صحة ذلك الأمر إذا أخذنا بعين الاعتبار ضرورة أن تدرب منظومات الذكاء الاصطناعي على أشرطة فعلية موجودة ومن صنع البشر). حينما أطلق "سورا"، بدت تلك الإزالة للبشر أمراً مثيراً بالنسبة إلى بعض المعلقين. ونال فيديو ذلك الإطلاق مشاركة رافقتها رسائل مبتهجة على غرار "وداعاً هوليوود" [بمعنى موت صناعة الأفلام الأميركية]. ويعني ذلك أنك لا تكتفي باستبعاد صناع الأفلام، بل لا ترغب في أن يختار أي شخص الفيديوهات حينما تعرض على الناس بعد تمحيصها على يد الخوارزميات (واقترحت "آي جاستين" iJustine، وهي منشئة محتوى تقني، ضمن فيديو عن إطلاق "سورا"، أن التطبيق "مريح" لأنه يتيح لك معرفة أن كل ما فيه من إنتاج الذكاء الاصطناعي، فهو لا يقصي صانعي الأفلام والمبرمجين فحسب، بل يقصي أيضاً الحاجة إلى التفكير في ما إذا كانت الأشياء حقيقية أم لا).
وتكمن جاذبية هذه المقاطع في كونها قابلة للتعديل لتعبر عن خصوصية كل فرد. فإمكانية إضافة وجوه المستخدمين – عبر ميزة "كاميوز" Cameos – تعني أنها قد تكون شخصية بالكامل، مما يجعلها شائعة خصوصاً في المحادثات الجماعية وما شابه (وقد تصبح نسخة جديدة وأكثر غرابة من تطبيق "جيب جاب" JibJab، الذي كان يتيح للناس إنشاء فيديوهات تدمج فيها وجوههم، أو مثل فلاتر "سناب تشات" Snapchat). إنها نوع من النكتة الداخلية الفورية والمعقدة.
لكن الفيديو المهم حقاً هو ذاك الذي يتجاوز اللحظات العابرة، ويقدم طريقة جديدة للتعبير والرؤية. قد يبدو هذا وصفاً مبالغاً فيه داخل عالم تعد فيه الصور المتحركة الأكثر شعبية هي سلسلة "سكيبيدي تويليت" Skibidi Toilet، وهي مجموعة من الفيديوهات عن مرحاض يغني، وتجسد المعنى الحرفي لانحطاط العقل بلا معنى.
ومع ذلك، فإن الإثارة في هذه الفيديوهات، على ما يبدو، تكمن جزئياً في الفرح الجماعي بمشاهدتها، إلى جانب ردود الفعل المتعجبة من أولئك الذين لا يفهمونها. حتى كبار السن الذين يشاهدون بسعادة هذا المحتوى الغريب الذي يبدو وكأنه يسيطر على "فيسبوك"، يفعلون ذلك عبر منصة صممت للمشاركة والاستمتاع الجماعي.
وسط المراحيض الغناءة والمحتوى العشوائي، يظل العنصر البشري يتسلل ويظهر من جديد.
نشرت نسخة من هذه المقالة ضمن النشرة الإخبارية "إندي تيك". وباستطاعتك المشاركة فيها وبقية تحديثات "اندبندنت" هنا.
© The Independent