ملخص
يعاني عشرات الأسرى والمعتقلين في سجن "راكيفت"، الذي أعاد وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير فتحه في عام 2023، مشكلات صحية وتعذيباً يومياً. ويسيطر على هؤلاء القلق من ألا يذكرهم أحد في كل ما يحدث من مفاوضات في صفقة الأسرى، وأن يبقوا تحت الأرض مدفونين وهم أحياء.
نظرات رعب وقلق تشع من عيون حفر الجوع والتعذيب والعزل، فيها هزالة وضعف جعل جسد كل منهما، من رأسيهما حتى أخمص أقدامهما، كمن ينازع الموت. الضعف وخسارة الوزن رسما خرائط شرايين وعظام، لجسد ما عاد قادراً على التحمل.
طرق السجان باب الزنزانة ينادي أحدهما بصراخ فاهتز جسده، خوفاً من أن يكون قد حان وقت التعذيب أو التحقيق مع الاستخبارات، "ارتعبت عندما طلب مني أن أرافقه، بصعوبة تمكنت من الوقوف بسبب تكبيل يدي وقدمي منذ اعتقالي قبل سنة ونصف سنة، وجلوسي في زنزانة صغيرة جداً مع أسيرين آخرين بالكاد تتسع لواحد منا. وبينما كنت أسير إلى جانب السجان توقعت كل ما لا يمكن تصوره من تعذيب وتحقيق ينتظرني، كما واجهنا ونواجه يومياً في هذا السجن، هكذا قال الأسير الفلسطيني، مضيفاً "ما كنت أتوقع أن يكون هذا اللقاء، إنها المرة الأولى التي نتحدث فيها مع شخص من خارج السجن".
كان هذا حديث واحد من أسيرين من غزة نجحت المحامية سجا مشرقي برانسي، من لجنة مناهضة التعذيب، في الحصول على موافقة للقائهما بعد صراع طويل مع مصلحة السجون والمحاكم الإسرائيلية. حديثهما هو الأول الذي يخرج من ذلك "الصندوق الأسود الذي يعيشون فيه تحت الأرض"، كما وصفه أحدهما. وأضاف الثاني "نحن في قبر تحت الأرض، إنه حقاً قبر، هذا هو وضعنا، نشعر أننا نعيش في قبر تحيطه جدران، ومنذ اعتقالي قبل سنة ونصف سنة لم نخرج من مكاننا ولم نر الشمس، أما الضوء فبالكاد يصل إلينا".
معركة قضائية شاقة
مسار طويل وعراقيل وصعوبات بيروقراطية، وكل ما يمكن قوله من تعامل من المسؤولين الإسرائيليين، حتى تم التوصل أولاً إلى معرفة مكان وجود هذين الأسيرين ثم لقائهما. فقد خاضت المحامية "سجا مشرقي برانسي" معركة قضائية واسعة للقائهما بعد توكيلها من عائلتيهما في غزة للبحث عنهما، بعدما اعتقدتا بأنهما قد قتلا في الأحداث بعد أشهر من اندلاع حرب القطاع، إذ اختفت آثارهما، واعتقدت عائلة كل منهما أن الجيش الإسرائيلي احتجز جثتيهما.
"أخذ الأمر وقتاً من الاتصالات والبحث في ملفات المؤسسات ذات الشأن، حتى فوجئنا بأن اسم هذين الفلسطينيين (طلبا عدم نشر اسميهما) موجود ضمن المعتقلين في سجن ’راكيف‘ في النقب، عندها خضنا معركة جديدة أكثر صعوبة من أجل زيارتهما"، تقول المحامية سجا في حديث لـ"اندبندنت عربية".
هذا السجن الذي قرر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير فتحه في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2023، وأدخل إليه من اعتقل منذ اندلاع حرب القطاع، وتعتبره إسرائيل من "النخبة" أو ممن شاركوا في تنفيذ هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ومن ثم دخل إليه عدد من الفلسطينيين، الذين اعتقلوا من قلب غزة خلال المعارك التي أدارها الجيش في قلب غزة، وهذا ما حصل مع الأسيرين اللذين التقتهما المحامية.
حتى اليوم، لم يعلم أي أسير فلسطيني، وكذلك هذان الأسيران، التهم الموجهة ضدهم، إذ لم تقدم ضد أي منهم لائحة اتهام، وأدرج جميع أسرى هذا السجن ضمن قائمة "مقاتلين غير شرعيين".
قبل أشهر وفي سياق تشديد السياسة التي فرضها بن غفير على الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، قرر الوزير زيارة هذا السجن والتقط الصور، وحرص في اللقطات الأخيرة له في السجن على أن يهدد بجملة مختصرة وهو يقف وخلفه عشرات الأسرى الفلسطينيين مكبلي الأيدي والأرجل راكعين ورؤوسهم موجهة إلى الأرض، ويؤشر باتجاههم "هذا ما يستحقونه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصدمة ما بين الأسيرين والمحامية
"ما سمعناه يصعب وصفه، يصعب تخيله، والأخطر أنه منذ نحو عامين على افتتاح السجن لا أحد يعلم من فيه. من توفي بسبب تدهور وضعه الصحي، وهناك عشرات ممن يعانون مشكلات صحية ولا يتلقون سوى أدوية مسكنة للألم، وحتى هذه لا يستطيعون الحصول عليها عند الحاجة. لا أحد يعلم كم من القاصرين بينهم"، تقول المحامية، وتضيف "حتى الرقم الدقيق يصعب الحصول عليه، يقولون إن هناك 70 أسيراً جميعهم من دون أي استثناء يذوقون يومياً مرارة العيش. صحيح أن سياسة التعذيب والتنكيل والتجويع تطبق في جميع السجون الإسرائيلية، إذ يرزح أسرى أمنيون فلسطينيون، ولكن في 'ركيفت' الأمر مختلف والشهادات تعكس وضعاً في غاية الخطورة يتطلب تدخلاً دولياً لإنقاذ هؤلاء. وبحسب ما لاحظنا فإن الأسيرين خشيا من الحديث عن كل شيء أمامنا، بسبب وجود السجان بالقرب منهما واستطاعته سماع ما قد يتحدثان به". فخلافاً للقانون، وقف السجان في مكان محاذ للغرفة التي جلس فيها الأسيران مع المحامية، واستقصد أن يراه كل أسير خلال حديثه مع المحامية "حتى يخاف من قول كل الحقيقة"، بحسب المحامية مشرقي برانسي، التي لم تخف في حديثها ذهولها، بل صدمتها مما شاهدته في السجن وسمعته من الأسيرين، مؤكدة صعوبة نقل كل ما سمعت لما فيه من بشاعة في التفنن بالتنكيل والتعذيب سواء الجسدي أم النفسي أم المعنوي.
كذلك تم الكشف عن تعذيب واعتداءات جنسية بمختلف الوسائل، بما في ذلك تدريب كلاب لتنفيذ مثل هذه الاعتداءات على الأسرى. حتى النوم لم يكن مسموحاً، وقد اتبع القيمون على السجن سياسة وضع فرشات النوم داخل الزنزانة من الساعة الـ11 ليلاً حتى الخامسة صباحاً فقط، ثم يأخذها السجانون، وخلال النهار لا يسمح لهم بالنوم.
صندوق أسود
في السجن استقبلنا سجانان ملثمان لا يضعان إشارة إلى اسمهما، بحسب ما هو معمول به في السجون، حتى لا تتاح إمكانية معرفة تفاصيلهما الشخصية وتقديم شكوى ضدهما، لما يرتكبانه من جرائم وتصرفات مخالفة للقانون مع الأسرى.
"لقد كانت المسافة التي نزلناها تحت الأرض طويلة ومن الصعب تقديرها"، قالت المحامية مشرقي برانسي. وأضافت "بعد ذلك بدأنا نشاهد الجدران الأسمنتية الكثيفة من دون ضوء أو أشعة شمس، لدرجة أن الإنسان يشعر في مرحلة معينة بالخوف لوجوده في مثل هذا المكان، في عمق الأرض".
وتنقل لنا المحامية ما لم تصدقه عن وضع أحد الأسيرين الذي حدثها عن معاناته لأيام طويلة بسبب وضعه الصحي، فقال "أصبت في رأسي بجرح عميق في غزة وقد نقلوني إلى هنا فور اعتقالي وكنت أنزف. لم يجر نقلي إلى طبيب أو عيادة، واستمر النزف حتى توقف، ثم مع الوقت أغلق مكان الجرح الكبير". وزادت المحامية أنه "في مكان الإصابة لا يوجد شعر، وواضح جداً كيف أن الجرح لم يجر تضميده وبقي من دون علاج وقد بات شكله مرعباً".
ومثل هذا الأسير هناك عشرات الآخرين، كما علم من الأسيرين، الذين يعانون مشكلات صحية وتعذيباً يومياً. والقلق الذي يسيطر عليهم من ألا يذكرهم أحد في كل ما يحدث الآن من مفاوضات في صفقة الأسرى، وأن يبقوا تحت الأرض مدفونين وهم أحياء. وناشد أحد الأسيرين الرأي العام والمجتمع الدولي التدخل والمطالبة بالإفراج عنه وعن زملائه، إذ لا تهمة موجهة ضدهم ولا لائحة اتهام لإدانتهم، بل إن إسرائيل منعت الصليب الأحمر من الدخول إليهم، وإذا ما بقي الوضع على حاله، فإن مصير هؤلاء سيبقى مجهولاً مع خطر كبير يحوم حول كل واحد منهم.