Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف شغل "أنور السادات" السعوديين حيا وميتا؟

المؤلف محمد السيف يوثق معارك أمثال القصيبي وجمال والعمير حوله... وهذا ما يقوله شبكشي وآخرون لـ"اندبندنت عربية" عن تناقضات الأمس واليوم حول الشخصية المثيرة للجدل

الملك فهد والسادات (وسائل التواصل)

ملخص

الانقسام حول تاريخ الرجل الذي قاد حرب التحرير الوحيدة التي ظفر فيها العرب ضد إسرائيل في 1973، غير مفهوم بالنسبة إلى كثير من الأجيال اللاحقة، لكنه يعود باختصار إلى اتفاقية السلام مع إسرائيل التي عرفت بـ"كامب ديفيد"، إذ لم يغفر العرب بكل أطيافهم له تلك الخطوة، بحجج مختلفة.

بحلول السادس من أكتوبر (تشرين الأول) هذا العام يكون قد مضى على رحيل الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات 44 عاماً، إلا أن تلك الأعوام لم تزده إلا حضوراً في الجدل السياسي والإقليمي في المنطقة، بفضل عودة العلاقة بإسرائيل فلسطينياً وعربياً إلى ذروة الاهتمام، وهو الذي كان فيها البطل والخائن والمحنك والساذج، مما بعث الاهتمام بقراءة "السادات" مجدداً.

إلا أن التناول الجديد ولا سيما في الصحافة السعودية كان يغلب عليه حسب تعبير الكاتب المخضرم حسين شبكشي "الحنين"، بخلاف القديم الذي كان الهجوم والشيطنة هو السائد، وحين يخرج شخص ما عن القاعدة، فإن عليه أن يواجه سيلاً من التخوين والتشكيك، على خطى الزعيم المغدور في ذكرى انتصاره، فكيف حدث هذا التباين؟

الانقسام حول تاريخ الرجل الذي قاد حرب التحرير الوحيدة التي ظفر فيها العرب ضد إسرائيل في 1973، غير مفهوم بالنسبة إلى كثير من الأجيال اللاحقة، لكنه يعود باختصار إلى اتفاقية السلام مع إسرائيل التي عرفت بـ"كامب ديفيد"، إذ لم يغفر العرب بكل أطيافهم له تلك الخطوة، بحجج مختلفة، إلا أنها أصبحت لاحقاً مادة لحرب شعارات ومزايدات يلتقي عندها حتى المختلفين في كل شيء، مثل التيار القومي (الناصري) والإسلاموي (الإخواني) الذي أعقبه.

محاكمة غيابية

أكثر شيء يخبرنا عن تلك الحقبة ما وثقه الكاتب السعودي محمد السيف في إصدار جديد، سماه "ضربة مرفق"، تضمن ردوداً ملتهبة بين مواطنيه في قضايا سياسية وثقافية عدة، أبرزها "السادات"، الذي أجج مقتله وقائع محاكمته صحافياً.

البداية كانت بمقال للصحافي الإسلامي يومئذ أحمد محمد جمال في "الشرق الأوسط" اللندنية، دعا فيها القراء بعد نحو 10 أيام من مقتل الرئيس إلى "ذكر محاسن الموتى"، من موقعه كاتباً من أسرة علمية عريقة، بدا أن الهجاء الذي حفلت به الساحة العربية ضد السادات تجاوز حدود اللياقة في نظره، فقرر السباحة ضد التيار، ليس على طريقة المقولة الشائعة "الضرب في الميت حرام"، وإنما دفاعاً عن مسار الرجل بمنطق وحجة.

 

وأكد أن السياسة العربية "تفتقد منذ عقود طويلة عنصر الجرأة في الفعل، إذ ظلت غارقة في الاجتماعات والخطب من دون نتائج تذكر، مما أتاح لإسرائيل أن تزداد قوة ونفوذاً"، بينما رأى أن السادات قرر الخروج عن ذلك المسار، حين بادر عام 1977 إلى طرح حل عملي لاستعادة الأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية، داعياً القادة العرب إلى "المشاركة في المفاوضات مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لكنهم قابلوا دعوته بالرفض والاستنكار وقطع العلاقات، لتخسر الأمة فرصة كانت ربما الأهم منذ هزيمة 1967".

"لم يخن العرب"

وخلص جمال في مقالته التي ضمنها ترحماً مقصوداً على الراحل، إلى أنه "لم يخن العرب ولا تنازل عن القضية الفلسطينية"، بل طالب في معاهدة السلام مع إسرائيل بحكم ذاتي للفلسطينيين يتدرج نحو الاستقلال.

بل وجه اللوم إلى منتقديه من القادة العرب عام 1977 ممن قال إنهم لو "شاركوه مسعاه نحو السلام، واستجابت منظمة التحرير لدعوته إلى إقامة حكومة في المنفى، لكان ممكناً أن تتطور المطالبة بالحكم الذاتي إلى قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة"، غير أن المقاطعة العربية والفلسطينية لمبادرته "أضعفت موقفه التفاوضي، وأتاحت لإسرائيل المماطلة في تنفيذ التزاماتها"، حسب قوله.

 

لم يكن دفاع الكاتب عن السادات وهو المنتمي للتيار الأكثر سخطاً على السادات، المفاجأة الوحيدة لمقلب صفحات ذلك التاريخ كما جمع بعضها "ضربة مرفق"، وإنما أيضاً بروز أصوات محسوبة على تيار التنوير المضاد مثل غازي القصيبي، للرد القاسي على جمال، وكيل التهم له كما لو أنه قال منكراً من القول وزوراً، مما أشعل أوار معركة، احتاج الوسطاء كما يظهر من مقالتي عثمان العمير وحمد الجاسر إلى وجهات نظر أقل انحيازاً لإطفاء نيرانها.

كيف يدافع "صاحب فضيلة" عن السادات؟

ما زاد رد القصيبي قسوة أسلوبه التهكمي الساخر الذي أظهر فيه قدراته المعهودة، كما لو أنه يعير جمالاً بفكره الإسلامي الذي يناقض ما نادى به من ذكر محاسن السادات، فكان العنوان "محاسن الموتى ومساوئ التاريخ" معرباً عن خيبة أمله بعد جولة عاصفة من الحجاج، إثر صدور الدفاع عن الرئيس المصري من شخص يحمل التوجه الإسلامي الذي كان السند الذي بنى عليه المقاطعون حجتهم.

 

وقال "أعتقد أن الموقف الإسلامي من الكيان الصهيوني واضح لا لبس فيه، فهو الكيان الذي احتل القدس، ووضع نجمة داوود على المآذن، وأحرق المسجد الأقصى، وشن حرباً على الإسلام في كل مكان"، وأضاف "كنت أتصور أن فضيلة الأستاذ أحمد محمد جمال سيكون أصدق من يجسد هذا الموقف ويدافع عنه، لكن بعدما كشف عن آرائه، يحق لنا أن نقول إنها تمثله شخصياً، ولا تمثل الفكر الإسلامي أو الموقف السعودي من قريب أو بعيد، فلكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، ونسأل الله أن يوفق الأستاذ إلى مراجعة موقفه، ويهدينا وإياه إلى سواء السبيل".

احتاج الطرفان جمال والقصيبي إلى ردين آخرين على بعضهما بعضاً أشد قسوة، فهي أقرب إلى التجريح والتشفي منها إلى النقاش الفكري كما يظهر من عنواني "عقدة التخلف عند الدكتور غازي القصيبي" و"هذا الرجل... المأساة"، كذلك فإن المعركة تطورت إلى أطراف أخرى كلها مضادة، مثل عبدالله بن خميس وجاسر الحربش، سوى الجاسر والعمير، اللذين كانا أكثر تحفظاً، إلا أن الأخير غمز من قناة الكاتب المستتاب بوصفه غير متخصص في "علم السياسة" الذي شدد على أنه "لا يقبل الاجتهاد ولا التشويش أو التستر بأي رداء!".

وقال رئيس تحرير "إيلاف" اللندنية عثمان العمير في اتصال مع "اندبندنت عربية"، إن زميله جمال لم يغفر له ذلك التعقيب المتحفظ، وظل لاحقاً عندما أصبح رئيس تحرير "الشرق الأوسط" يحرض ضده ويعتبره عدواً للإسلاميين. ويفسر موقف الطرفين بأن "ثمة أسباباً وجيهة لبعض الحدة، فجمال له ميول إخوانية والسادات قربهم، وغازي له اتجاه قومي، كما أن السادات ناقم في تلك المرحلة على السعودية وله خطب في ذلك، جعلتنا نحتد"، لكنه استدرك بأن الراحل "رجل عظيم بغض النظر عن رأينا فيه".

ولدى سؤال "اندبندنت عربية" المؤلف محمد السيف عن ما فاجأه في سياق الجدل الذي نقل حول السادات، أضاف "أنا من جيل لم يُعاصر تلك المرحلة وتلك المقالات، لكن موقف المثقفين السعوديين ومنهم غازي القصيبي جاء متسقًا مع الموقف السائد حينذاك من اتفاقية كامب ديفيد وأفكارهم القومية. لكن الذي فاجأني في البداية هو موقف أحمد محمد جمال، وهو الكاتب الإسلامي، من السادات ومن الاتفاقية. وبرأيي هو موقف خاص به ولا يعبِّر عن موقف الإسلاميين بعامة".

إلا أن الأكثر مفاجأة له هو ما قال إنه تبيّن تاليًا، من كون جمال "مؤيد وبقوة لقرار تقسيم فلسطين، وقد يكون هو المثقف السعودي الوحيد الذي كتب مؤيدًا لقرار التقسيم، لأنه يرى، وهو الكاتب الإسلامي، أنه لو حصل الفلسطينيون على دولة لاستطاعوا وهم على أرضهم القضاء على إسرائيل ورميها بالبحر! وذلك من خلال عدة مقالات كتبها في الخمسينات الميلادية".

وأكد أن الجدل حول موقف السادات ليس خاصًا بالكُتَّاب السعوديين "بل يعمُّ جمهرةً من الكُتَّاب العرب، وخاصة المصريين، الذين كان لهم موقفهم المناوئ والحاد من السادات. ومقالة أحمد محمد جمال جاءت ردًا على عدد من المقالات التي نُشرت في الصحافة المصرية هاجمت السادات بعد وفاته مباشرةً، وقد حاول أن يذكِّر أولئك بأن يذكروا محاسن الموتى".

حديث "غنائم الحرب"

بعد طي صفحات الماضي، والعودة إلى المرحلة الحالية، نجد موقفاً مضاداً كلية، إذ جرى النظر إلى السادات بوصفه، أشبه ما يكون بذلك "النبي الذي كفر به قومه"، وفق تعبير الكاتب حسين شبكشي الذي تحدث إلى "اندبندنت عربية" عن الظاهرة القديمة في الحنق الشديد على الرجل والإعجاب الراهن به، وقال "عليك أن تعذرهم، لأن الرئيس أنور كان سابقاً زمانه، فرجل مثله خدع إسرائيل مرتين كما لم يفعل أحد قبله ولا بعده في العصور المتأخرة، حين ضللهم وهاجم بغتة، وحين استعاد سيناء أرض التوراة المقدسة، مثل هذا الرجل يستحق أكثر من الانطباع والشيطنة التي حاصره العرب بها".

 ولفت إلى أن هذا الاستنتاج كان حاضراً في ذهنه باكراً، يوم زار مصر في شبابه ووجد نفسه في جدول الرحلة داخل متحف أو معرض "غنائم الحرب" التي استولى عليها الجيش المصري في حرب 1973، فظلت تلك الصورة مقيمة في ذاكرته على رغم ما أحيط به السادات من سخط عارم.

ورأى أن "المواقف القديمة كانت عاطفية وشعبوية، من جانب الأكثرية، ولذلك لم يستطع معظم الكتاب التحرر من العواطف السائدة يومئذ"، وذلك رداً على سؤالنا حول ما يدفع شخصاً تنويرياً مثل القصيبي ظل مستقلاً في مواقف عدة، أن يميل مع الموجة الغالبة بأن السادات في حينه خدع العرب وخذل قضيتهم.

أما لماذا أبصر جمال ما غاب عن أقطاب التنوير في عهده، أجاب "كان واسع الاطلاع، وربما له اهتمام انقطع لمثله بالشأن المصري، والتقط الفكرة باكراً، وهذا شأن الصحافة والفكر، شخص يغفل وآخر ينتبه لهذه المسألة أو تلك".

في حين نظر السيف للأمر من زاوية مغايرة، فهو لا يرى لموقف أحمد "أي علاقة أو ارتباط بمسألة التنوير، وجودًا وعدمًا. ففي كلا الحالتين يبقى غازي القصيبي تنويريًا بغض النظر عن موقفه القديم، ويبقى أحمد محمد جمال أصوليًّا بغض النظر عن موقفه من السادات، فكما أشرتُ فهو له تعليل خاص به تجاه قرار التقسيم فما بالك بمسألة التطبيع"؟

من الشيطنة إلى التبجيل

وكان شبكشي وممدوح المهيني من بين سعوديين كتبوا مقالات عدة أخيراً أعادوا فيها الاعتبار للرئيس المصري، خصوصاً في "الشرق الأوسط" التي انقدحت فيها الشرارة الأولى قبل عقود، فأشار شبكشي إلى حال تشبه "الحنين إلى السادات" باعتباره "فهم قواعد اللعبة مبكراً، قرأ الوضع السياسي بدقة وعمق، راهن على قدرة جيش بلاده على توجيه ضربة عسكرية صادمة وحاسمة للعدو الإسرائيلي بعد إعداد الجيش المصري جيداً ليتجاوز صدمة نكسة 1967".

لكل ذلك لم يستغرب الاهتمام الذي وصفه بـ"غير العادي وحتماً غير المسبوق من عدد غير قليل من الكتاب والمؤثرين بالراحل"، في موجة لاحظ أنها شهدت "استرجاعاً باحترام وتقدير لكثير من مواقفه التي سبق بها وقته ودفع ثمنها سياسياً وكذلك كانت وراء اغتياله أيضاً".

فيما تناول المهيني عبر الصحيفة نفسها إنجازات الرئيس النادرة من زاوية المقارنة مع سلفه عبدالناصر، إلا أن ذلك لم يشفع له عند المزايدين عليه، وظل "هدفاً لحملات تشويه، واغتيال معنوي، لكنه لم يلتفت إليها، ومضى في طريقه"، غير أن تلك الصورة تبدلت أخيراً كما يقول، إذ بعد عقود "يتضح اليوم أن السادات كان محقاً في رؤيته السياسية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الرأي الجديد مستقل أم مساير؟

لكن تأخر القراءة المنصفة للزعيم المصري تدفع إلى التساؤل عما يضمن ألا تكون النظرة الحالية هي الأخرى مبالغاً فيها ومدفوعة بالظرف السياسي الإقليمي، في ظل موجة التطبيع مع إسرائيل، حتى من دون حل القضية الفلسطينية، على خطى السادات، على رغم إظهار تل أبيب بطشاً غير مسبوق بعد هجمات أكتوبر، دفعها إلى الحديث رسمياً عن ترجمة أحلام "إسرائيل الكبرى" إلى واقع، وإخضاع المنطقة لنفوذها بما في ذلك الخليج.

وهل كان ذلك يعزز صدقية من رأى خروج مصر بثقلها عن إجماع التكتل الضاغط على إسرائيل، خذلاناً للحق الفلسطيني؟ يجيب عن ذلك شبكشي في حديثه مع "اندبندنت عربية" بأن الواقعية السياسية التي انطلقت منها القاهرة أثبتت مع الأيام جدواها، "فهي استعادت أرضها، ولا تزال حتى في الأزمة الحالية في غزة أكثر الداعمين لصمود أهل غزة، ومنع تهجيرهم إلى سيناء".

وأشار إلى أن الموقف المصري من القضية لم يكن العائق للتسوية، "فالشعب الفلسطيني لا ينقصه الأنصار، حاجته إلى التوحد، وهي على كل حال داعمة ولا تزال".

وكانت تسريبات متلاحقة لجمال عبدالناصر أظهرت أخيراً مواقف صادمة للمهتمين بالتاريخ السياسي للمنطقة، جاءت مناقضة لما كان يعرف عنه من شعارات تعبوية وشعبوية ضد السلام مع إسرائيل، وأقرب إلى مواقف خلفه السادات "المزايد عليها" وفق تعبير الكاتب المهيني، مما زاد من موجة الانبهار المتأخرة بأنور، المغضوب عليه.

وفي هذا السياق يشير العمير إلى أن "السعوديين كانوا خدعوا من السادات، فلم يكن ينسق معهم خطواته، على رغم دور السعودية الكبير في إحراز نصر 1973، وحصلت إثر ذلك مواقف وقرارات سياسية، بررها المصريون بأنهم أبلغوا كمال أدهم، إلا أنه بدوره لم يعط الموضوع أهمية، مما تسبب في إقالته بحسب ما يتردد".

واستبعد أن تكون النظرة الحالية للرئيس المصري المختلف عليه من جانب الكتاب السعوديين، مبالغاً فيها كذلك، فهو "يكفيه أنه أنقذ مصر، ونقلها من الاتحاد السوفياتي إلى المحور الغربي العقلاني، وأخرجها من دائرة الحروب العبثية، وعزل المحيط عن نغمة عبدالناصر الشعبوية".

فيما اعتبر السيف أن "تغيُّر موقف الكُتَّاب العرب، ومنهم السعوديين، الذين عاصروا تلك المرحلة هو موقف مرتبط بمراجعتهم للكثير من أفكارهم وقناعاتهم. أما الكُتَّاب من الجيل الذي لم يعاصر تلك المرحلة، فيأتي موقفهم الإيجابي من السادات لأنهم ينشدون السلام بين العرب وإسرائيل بعد صراع مرير وطويل لم يجن منه العرب إلا الهزائم تلو الهزائم".

 وهل يتوسع هذا الموقف عربياً بما ينعكس على الواقعية نحو الصراع في الإقليم بعد السابع من أكتوبر؟ رد الناشر الصحافي المخضرم العمير قائلاً "لا أثق بالوعي في المنطقة".

الحربش: ما زلت أرى "السادات قامر بالعرب"!

أحد أطراف السجال السابقين المناوئين للسادات، كان الطبيب والكاتب السعودي جاسر الحربش، لذلك سألته "اندبندنت عربية" بشكل مباشر: هل لا تزال ترى خطوة السادات للسلام مع إسرائيل غير مجدية، أم أنك تعتقد مثل آخرين غيّروا رأيهم أنها أثبتت جدواها، وأنه كان سابقاً لعصره، فهو استعاد سيناء المحتلة وأوقف التمدد الإسرائيلي، ونتج عن ذلك استقرار وتنمية مصر؟

أجاب عن ذلك بتفصيل، وقال: "دعنا لا نتحدث عن حقيقة أو خطأ الاعتقاد بأنه ساهم في تحرير سيناء واستقرار الاقتصاد المصري، فذلك ما لا أستطيع إبداء رأيي فيه، لكن جوابي المباشر على سؤالك هو: نعم، ما زلت أرى خطوة السادات للسلام مع إسرائيل غير مجدية".

وذهب أبعد من تقييم الحادثة القديمة إلى اعتبارها مسؤولة عن مجازر اليوم، وقال: "بل أراها مقامرة تطبيعية طوعية ساهمت بوضوح في فتح الأبواب لما بعدها، مما نراه اليوم من مجازر وتجويع واستهتار بالأمة العربية والإسلامية في غزة والضفة، وفي احتقار السياسيين في إسرائيل وأميركا للعرب وتسميتهم أمام الإعلام العالمي بالحيوانات".

وأشار إلى أنه، ليبرر موقفه من الراحل، سوف يقسم الأحداث إلى ثلاث مراحل: "أولاً: مرحلة ما بين هزيمة ١٩٦٧م وانتصار ١٩٧٣م. وثانياً: مرحلة ما بعد انتصار ١٩٧٣م وتطبيع السادات مع حكومة الإرهابي الليكودي مناحيم بيغن. وثالثاً: مرحلة ما يشبه نفض الأيادي في بعض الدول القُطرية العربية من القضية الفلسطينية فعلياً، وبداية تفكك الاهتمام العربي الموحّد بالقضية الفلسطينية".

بشيء من التفصيل، رأى أن المرحلة الأولى ما بين ١٩٦٧م و١٩٧٣م ارتبك فيها الوضع العربي السياسي والشعبي، "لكن القيادات العليا في الدول القُطرية كانت، رغم خلافاتها الجيوسياسية والأيديولوجية، على قلب واحد فيما يخص القضية الفلسطينية، وعلى مستوى عالٍ من الالتزام بالمسؤوليات القُطرية والإقليمية والعربية. ذلك الالتزام بالمسؤوليات العليا لم يترك مصر لوحدها بعد الهزيمة؛ فالمملكة العربية السعودية مثلاً وقفت اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً بالكامل مع شقيقتها مصر، وكان الملك فيصل بن عبدالعزيز إلى جانب الرئيس جمال عبدالناصر، رحمهما الله، في الالتزام كعمودين أساسيين بالموقف العربي المتضامن، والتعهد بلاّءات الخرطوم الثلاث التاريخية".

ورفض أن يُنسب حتى فضل حرب 1973 للرئيس المصري، فهو يعتبر أن "المواقف العروبية على مستوى القيادات القُطرية العليا والشعوب هي التي أوجدت الإمكانات لانتصار ١٩٧٣م وتحرير سيناء، وبداية التفاؤل الحقيقي بإمكانية الانتصار على الغزاة المحتلين وتحرير فلسطين".

في المرحلة الثانية، يرجّح أن ما سماه "مقامرة الرئيس السادات بالتطبيع الطوعي مع المحتل الإسرائيلي" نسفت التضامن العربي المتماسك آنذاك، وعصفت بتفاؤل ما بعد انتصار ١٩٧٣م، وشتّتت التفاؤل العربي، وقدّمت تطبيعاً استسلامياً دون مبررات ودون استشارات عربية – عربية، وفتحت الأبواب للإرهاب المتأسلم بذريعة الدفاع عن الأمة الإسلامية.

أما المرحلة الثالثة، فصنّفها على أنها تشبه "إعلان البراءة من القضية الفلسطينية كمشروع عربي – عربي من قبل عدة دول قُطرية، وبروز زعامات قُطرية متمرّدة مارست الغزو للدول العربية المجاورة بمزاعم الخيانة والعمالة".

وأضاف: "انفرطت السبحة وانقطع خيطها المنتظم، وبدأت التطبيعات المجانية من بعض الدول العربية مع العدو الصائل في أسوأ مراحله العدوانية، بتنكيله الشامل بالفلسطينيين، وإعلانه الصريح نية التوسع في كل دول الجوار كمشروع توراتي سنحت له الفرصة التاريخية لتحقيقه".

وتابع: "من كل ذلك أقول: نعم، ما زلت على موقفي الرافض لمقامرة السادات، وأزيد على ذلك بالزعم بأن جيلي وما قبله كان عروبيّ التربية في البيت والشارع والمناهج المدرسية وتقاسم المسؤوليات، بخلاف جيل الشبكة العنكبوتية والتواصل الاجتماعي المعولم والمخترق من قبل آلة العدو الإعلامية الهائلة. كان جيلنا جيل ثبات وثقافة عالية الإدراك، بينما ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي المنفلتة في إحداث بعض التغيرات غير الإيجابية في الأجيال التالية. ولله الأمر من قبل ومن بعد".

موقف الدولة من السجال والسادات

على الجانب الرسمي تكشف الوثائق الأميركية والبريطانية المفرج عنها حديثاً أن صانع القرار السياسي لم يكن بعيداً من ذلك السجال، فهو يدرك مغزى خطوة السادات ويدعمها، إلا أن ثمنها الشعبي يقتضي أن تتم بغير الطريقة التي نظر إليها عربياً بـ"الاستفزازية"، ولذلك سريعاً ما تبلورت فكرة سلام سعودية تبناها الملك فهد عندما كان ولياً للعهد، نضجت لاحقاً في "قمة فاس"، أحيطت هي الأخرى بعاصفة من الجدل والتخوين، لكنها مهدت الطريق أمام منظمة التحرير دولياً، وعودتها إلى وطنها بعد الطرد.

 تطورت الفكرة إلى "مبادرة السلام العربية" 2002، التي ظلت مرجعية مشروع "حل الدولتين"، الذي دفعت به الرياض بالشراكة مع حلفائها إلى مرحلة متقدمة، أطلقت موجة اعترافات واسعة بالدولة الفلسطينية 2025 تعززت بـ"إعلان نيويورك" في الأمم المتحدة، الذي خط "مساراً لا رجعة فيه" لإقامة الدولة المنشودة.

 

ففي إحدى الوثائق الأميركية التي رفعت عنها السرية بعد عقود، تورد الوثيقة أن الملك فهد شرح خلال جلسة استمرت ساعتين في منزله بجدة الـ24 من أكتوبر 1978م، بالتفصيل الإجراءات التي يتخذها هو والحكومة السعودية لتقديم الدعم الكامل لجهود الرئيس كارتر الرامية إلى تنفيذ اتفاقات كامب ديفيد. وتشمل الإجراءات المتخذة أو الجارية ما يلي:

* رسالة دعم "قوية" إلى السادات تتضمن تأكيدات لاستمرار الدعم الاقتصادي والسياسي، بما في ذلك التزام تقديم 108 ملايين دولار كمساعدة لشراء مركبات عسكرية، و"تخصيص" 350 مليون دولار كدفعة أولى لشراء طائرات F-5.

 * زيارة وزير الخارجية سعود الفيصل إلى دول الخليج لتوضيح الموقف السعودي وكسب الدعم له.

وأضاف ولي العهد حينها أنه سيستدعي ياسر عرفات إلى السعودية ليقول له بوضوح لا لبس فيه إن "السعودية تدعم اتفاقات كامب ديفيد وتوصي بشدة أن تقوم منظمة التحرير بالمثل".

أما الوثائق البريطانية فكانت أقرب إلى الرصد التحليلي لهذا الحراك السعودي، ففي تقرير سري من السفارة البريطانية في جدة إلى وزارة الخارجية بتاريخ ديسمبر (كانون الأول) 1978، ورد توصيف لافت يشير إلى أن "السعوديين مصممون على تجنب انهيار كامل في التنسيق العربي بعد كامب ديفيد، ويعمل قادتهم، ولا سيما ولي العهد فهد، على الحفاظ على مكانة مصر مع الإبقاء على مسافة خطابية في العلن. وتمتاز دبلوماسية السعودية بالإقناع الهادئ، والالتزامات المالية السخية، والاعتراف الضمني بأن السلام العملي أفضل من حرب أخرى".

معارك الصحافة السعودية

وكانت الصحافة السعودية في وقت مبكر من تاريخها عرفت طابعاً سجالياً بين أرباب الفكر والقلم، كثيراً ما عكس في جانب منه اختلاف المشارب والغنى الثقافي الذي تتوفر عليه البلاد، فضلاً عن مناخ الحرية الذي ظل بين مد وجزر، إلا أنه لم يحجب قط تنوع الآراء أو يصبغها في لون واحد، بغض النظر عن مستوى الثمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أحياناً.

ومع غياب مشروع جامع حتى الآن، يروي "سردية الصحافة" الكلية ودورها الفعال في التنمية والتنوير عبر العقود الماضية، إلا أن جهوداً شخصية بارزة أظهرت جانباً من ذلك، بما يعطي صورة بانورامية عن المشهد، في مثل كتب أمين الريحاني عن الملك عبدالعزيز في بداية التأسيس، وعلاقة ملوك السعودية المتعاقبين بالصحافة وتفاعلهم معها، حتى اعتبر الملك سلمان "صديق الصحافيين" لكثرة ما كانت علاقته وطيدة بهم تشجيعاً وتصويباً ودفاعاً عنهم.

الدفعة الكبرى في هذا السياق كانت إخراج مذكرات أول وزير للإعلام في السعودية جميل الحجيلان، الصادرة عن دار "رف" 2024 في جزأين كبيرين، اطلعت عليهما "اندبندنت عربية" منذ أن كانت مسودة، وفيها وثق كثير من المحطات التي كانت بنيوية في تاريخ الإعلام والصحافة في السعودية، وما يصاحبها من قصص وتحديات، مثل نقل الصحف من عهد الأفراد إلى المؤسسات، على ما هي عليه حتى اليوم، وتأسيس الإذاعة والتلفزيون، وما تخلل ذلك من السجالات داخل المجتمع الصحافي نفسه وخارجه، بأسلوب أدبي وقصصي فريد، مدعم بالوثائق والمواقف المسكوت عن بعضها في ذلك الحين.

لكن الحجيلان الذي ترك منصب الإعلام منذ 1970م، لم يسعه تغطية ما جاء بعدها من تطورات، كان جانباً منها محل عناية الكاتب السعودي محمد السيف، الذي صار متخصصاً في كتابة السير، وصدر له عن دار "جداول" هذا العام، كتاباً لافتاً، جمع فيه "مطارحات عنيفة وردود ملتهبة"، شهدتها الصحافة السعودية عبر السنين، وقد سماه "ضربة مرفق"، تضمن سبع معارك رئيسة بين أرباب القلم من أمثال حمد الجاسر وعبدالكريم الجهيمان وعبدالله خميس وغازي القصيبي وعابد خزندار وأحمد محمد جمال وآخرين. على أن يلحق الإصدار بأجزاء أخرى، يتعقب فيها سجالات الصحافة الغنية في بلاده، التي احتفظ بها في أرشيفه، من دون أن يلزم نفسه بملاحقة كل السجالات.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات