ملخص
يستضيف غاليري الزمالك للفنون في القاهرة معرضاً كبيراً لأعمال الفنانة المصرية جاذبية سري (1925–2021) بمناسبة مرور 100 عام على ميلادها. يضم المعرض مجموعة واسعة من أعمالها التي تمثل محطات مختلفة من مسيرتها الممتدة على مدى سبعة عقود، وهو مستمر حتى نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.
يأتي هذا المعرض في سياق احتفالي يسلط الضوء على إرث الفنانة جاذبية سري وتجربتها الطويلة في وقت تتراجع فيه المؤسسات الرسمية عن القيام بدورها في تكريم الرموز الفنية، وبذلك يتحول الغاليري إلى مساحة بديلة لإحياء الذاكرة التشكيلية المصرية، عبر استعادة تجارب الرواد والتذكير بقيمتهم في تاريخ الفن الحديث.
منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى سنواتها الأخيرة، شكلت جاذبية سري إحدى الركائز التي قامت عليها التجربة التشكيلية الحديثة في مصر والعالم العربي. كانت في بداياتها منحازة إلى التعبير عن الإنسان المصري البسيط، وعن المرأة على وجه الخصوص، في زمن تفتحت فيه الرؤى القومية، وسادت لغة بصرية تحاول أن تجمع بين الحداثة والهوية. في أعمالها المبكرة، ولا سيما في لوحتها الشهيرة "الإنسان العربي الجديد" (1961)، عبرت سري عن حلم النهضة الذي رافق جيل ما بعد الاستقلال، وقدمت صورة رمزية للرجل العربي الناهض بسواعده الفتية نحو مستقبل متحرر من قيود الاستعمار. كانت الألوان الخضراء والنخيل والبيوت المتراصة رموزاً للنماء والخصب، في وقت كانت فيه اللوحة نفسها بمثابة بيان فني لروح العصر.
ما يقدمه معرض غاليري الزمالك اليوم هو استعادة لهذه المسيرة، ولكن في صيغة انتقائية تتيح تتبع تحولات الفنانة من التشخيص إلى التجريد، ومن انشغالها بالرمز والمكان إلى انفتاحها على فضاءات اللون والضوء. في هذه الأعمال، تظل البيوت أحد الثوابت البصرية التي رافقتها طوال حياتها، إذ تحولت في مراحلها المتأخرة من كتل معمارية إلى كائنات نابضة بالحياة، كأنها ترنو في صمت من خلف الجدران إلى العالم الخارجي. تلك البيوت المتأنسنة كانت في جوهرها مرآة لروح ساكنيها، ومجازاً عن الوطن المأزوم الذي يتنفس من بين الشقوق.
تكشف الأعمال المعروضة عن تطور ملموس في بنية التكوين، وعن نزوع متزايد نحو التبسيط والاختزال. ففي الثمانينيات مالت جاذبية سري إلى رسم الصحراء وفضاءاتها الرحبة، وبدأت تعتمد على عجائن اللون وضربات السكين بدلاً من الفرشاة، لتخلق سطوحاً حيوية متداخلة تشي بحرارة الأداء وتدفقه العفوي. ومع التسعينيات أخذت تجربتها منحىً تجريدياً واضحاً، وصارت ضربات اللون أكثر صفاءً وقوة، وانفتحت اللوحة على فضاء مفعم بالضوء والحركة. كان الضوء في هذه المرحلة هو البطل الحقيقي، إذ منح لوحاتها نوعاً من الشفافية والوهج، وجعلها أقرب إلى التناغم البصري منها إلى التمثيل الواقعي.
من اللافت أن المعرض لا يقتصر على الأعمال المتأخرة، بل يربط بين المراحل المختلفة من حياة الفنانة، كأنه يعيد تركيب السيرة الفنية من جديد عبر لوحات تجمع بين الحنين والتجريد. فالعين المحدقة التي كانت تظهر خلف الجدران في لوحاتها الستينية تعود لتطل في بعض الأعمال الأخيرة وقد اكتسبت بساطة وطمأنينة. كما أن الخطوط المتقاطعة والدرجات اللونية الساخنة تخلق نوعاً من الإيقاع الداخلي الذي يشبه نبض الذاكرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الفنانة التي مثلت نموذجاً للمرأة العربية الطموحة، والتي عرضت أعمالها في مؤسسات كبرى مثل متحف المتروبوليتان بنيويورك ومعهد العالم العربي في باريس، كان الأولى أن تحظى بمبادرة رسمية شاملة تتجاوز فكرة العرض التجاري المحدود. غير أن المبادرة جاءت من مؤسسة خاصة، وهي مشكورة بالطبع، إذ ملأت فراغاً واضحاً في المشهد الثقافي، وقدمت احتفاءً بصرياً لافتاً بتجربة الفنانة جاذبية سري. يتيح هذا المعرض فرصة نادرة للتأمل في تجربة فنانة لم تتوقف عن البحث والتجريب حتى آخر أيامها، تجربة ظلت تنبض بالحيوية، واستطاعت أن تحفظ لنفسها مكانة خاصة في تاريخ الفن المصري الحديث.