ملخص
بعد نصف قرن من صدوره، عاد فيلم "باري ليندون" ليكتشف من جديد بوصفه تحفة سينمائية ناضجة، تجاوزت فشلها التجاري الأول لتصبح رمزاً لجمال بصري عميق وتأمل فلسفي في طبيعة الإنسان والزمن.
لقد كان فيلم "باري ليندون" Barry Lyndon زلة كبيرة في مسيرة ستانلي كوبريك، وإخفاقاً وحيداً في سجل هذا المخرج العظيم، فقد كان الفيلم بطيء الإيقاع وخالياً من الحيوية ومليئاً بأخطاء في اختيار الممثلين لا يمكن تجاهلها، ووصفه النقاد بأنه أشبه بكتاب عديم المحتوى يوضع على طاولة القهوة للزينة، أو عرض صور أنيق، أو جولة لا تنتهي في متحف عتيق تفوح منه رائحة العفن.
بدا ألا أحد شعر بالحماسة تجاه "باري ليندون" عندما عرض في دور السينما في ديسمبر (كانون الأول) 1975، وقد تزامن صدور الفيلم مع فترة أعياد الميلاد وشهد إقبالاً قصيراً، ثم سحب من العرض بهدوء لينسى مع الزمن.
واليوم يعود "باري ليندون" ليحتفل بعيد ميلاده الـ 50 بنسخة جديدة مرممة بعناية، والمفاجأة أنه رائع والسمعة التي رافقته سابقاً باتت مجرد دعابة ساخرة.
قد يكون من السهل إلقاء اللوم على نقاد ذلك الزمن لأنهم قادونا إلى فهم خاطئ، لكنني أدرك أيضاً أنني شاهدت "باري ليندون" حين كنت طالباً ولم أكن معجباً به كثيراً، وربما بعض الأفلام، كما هو الحال مع الشباب، لا تنال حقها من التقدير من قبل المشاهدين الصغار، وربما تكتسب بعض الأعمال عمقاً ونكهة مع مرور الزمن، وفي هذه الحال فإن "باري ليندون" ليس مجرد كتاب أو محاضرة ولا جولة متعبة في متحف اللوفر، بل هو خمرة معتقة لأعوام طويلة، احتفظ بها لتكون هدية ثمينة تنتظر مستقبلاً مشرقاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من المحتمل أن كوبريك نفسه لم يكن مولعاً حقاً بفيلم "باري ليندون" ذلك الوقت، فالرجل كان يطمح إلى إخراج فيلم سيرة ذاتية عن نابليون لكن المشروع تعثر، وجاء "باري ليندون" كجائزة ترضية أو مشروع بديل يضمن ألا يذهب بحثه سدى.
الفيلم المأخوذ بتصرف عن رواية ويليام ثاكري يتتبع مغامرات محتال إيرلندي في أرجاء أوروبا خلال القرن الـ 18 على هامش "حرب الأعوام السبعة"، وصولاً إلى قصر ريفي مترف حيث يجري قص جناحيه وإعادته لحجمه الطبيعي، وتتجاوز مدة العمل الثلاث ساعات بقليل، لكن لا يمكن وصف إيقاعه بالبطيء بقدر ما هو مدروس بدقة متناهية، مثل رقصة "فالس" متقنة لا تترك شيئاً للصدفة، إذ يمتلك كوبريك الثقة الكاملة في ترك مشهد حاسم يغلي على مهل، أو منح لقطة ساحرة الوقت الكافي لتستقر وتتنفس.
وحتى أكثر منتقدي الفيلم يعترفون بأنه عمل بالغ الجمال على رغم أنهم غالباً ما ينجذبون إلى فخامته الداخلية المضيئة بالشموع، ويغفلون عن روعة مشاهده الخارجية، ومن زاوية رؤيتنا المعاصرة يرسم "باري ليندون" مشهداً من الريف الأوروبي خلال سبعينيات القرن الـ 20 بأسيجته الكثيفة وحقوله الشعثاء وطرقه الغائرة التي يمكن أن يعتقد المرء بسهولة أنه يعود لسبعينيات القرن الـ 18، على رغم أن معظم هذا المشهد اختفى الآن من الواقع، وهذه إحدى المتع الجانبية لإعادة إصدار الفيلم لمناسبة مرور 50 عاماً على وصوله إلى الشاشة، إنه فيلم ينسج عصر نابليون مع ماض قريب نسبياً، ويتحدانا، وإن بغير طريقة صريحة، أن نكتشف مكان التحام الأزمنة.
ويعلق الراوي، بصوت مايكل هوردرن، على بطل الفيلم الذي لا يتمتع بصفات البطولة التقليدية قائلاً "كان لدى باري عيوبه"، وتلك عبارة مخففة إلى حد كبير. فريدموند باري (الذي سيصبح لاحقاً باري ليندون)، هو محتال ومخادع، لص ومتنمر، رأى النقاد في ذلك الوقت أنه شخصية سطحية تفتقر إلى التعاطف وألقوا باللوم على أداء رايان أونيل، معتبرين أنه لم يمنح الشخصية عمقاً كافياً، لكن في حقيقة الأمر هذا الحكم يغفل عن جوهر المسألة، لأن باري لا يحتاج أن يكون مركباً، إنه شخصية بلا عمق لكنها خالية من الزيف أو الادعاء، يتصرف بغريزة، كقطة، أنيق ومراوغ، يتنقل بين ريف إيرلندا وقصور إنجلترا بالابتسامة الغامضة الهادئة نفسها، لا تتبدل سواء كان صاعداً أم ساقطاً، غنياً أو معدماً.
يصفه الناقد روجر إيبرت بأنه "رجل تحدث الأشياء لمصلحته"، ومع ذلك فحتى هذا الوصف لا يلامس الحقيقة تماماً لأنه يواجه كل ظرف مباشرة من دون تردد، وعند الحاجة يكون ملاكماً أو مبارزاً، عشيقاً ونبيلاً، إنه لا يتهرب بل يواجه ويتعامل مع المواقف بذكاء، وغالباً يحول الموقف لمصلحته، ولا أستطيع أن أتخيل أحداً غير أونيل يجسد هذا الدور، فلقد تقمص باري إلى درجة يبدو فيها وكأنه لا يمثل على الإطلاق.
ينسج فيلم كوبريك نبرته من خيوط بطله نفسه، فهو بارد ومتجرد من العاطفة وعديم التأمل في ذاته، ويبدو أن تلك العبارة الشهيرة من مسلسل "ساينفيلد" Seinfeld "لا عناق، لا تعلّم" قد وُلدت أولاً في "باري ليندون".
عادة ما يفضل الجمهور الأفلام التي تقدم شخصيات مرسومة بوضوح ومحاطة بحواجز أخلاقية صلبة، لكن فيلم كوبريك، على رغم مظهره النقي وجماله الشكلي المتقن، يخفي داخله عالماً فوضوياً ومنفلتاً يكاد يكون عدمياً، فهو يوحي بأن البشر انتهازيون بطبعهم لا طيبون ولا أشرار، وقد لا تكون هذه رسالة مريحة تماماً لكنها تمنح الفيلم طابعاً غريباً ومتوحشاً ومثيراً بشدة.
وأتساءل الآن: هل كانت فخامته البصرية هي التي تسببت في فشله التجاري؟ لقد كان قدر "باري ليندون" أن يُعرض في ذروة عصر "هوليوود الجديدة" خلال السبعينيات، حين كانت الأفلام غير محكمة البناء وواقعية بدرجة بشعة، ونادراً ما تنظر إلى الماضي، وعندما وصل إلى جوائز الـ "أوسكار" عام 1976، إضافة إلى أفلام مثل "ناشفيل" Nashville، "ظهيرة يوم قائظ" Dog Day Afternoon، "الطيران فوق عش الواق واق" One Flew Over the Cuckoo’s Nest و"الفك المفترس" Jaws، فإنه وجد نفسه في المكان والزمان الخاطئين، ففشل الفيلم في شباك التذاكر الأميركي وحقق أداء أفضل قليلاً في أوروبا، وإن لم يُعتبر يوماً نجاحاً جماهيرياً حقيقاً.
شعر كوبريك بمرارة التجربة إلى حد دفعه نحو خوض مغامرة مضمونة العائد، فوافق على إخراج فيلم "البريق" The Shining، مستنداً إلى قناعته بأن فيلم رعب مبنياً على رواية رائجة سيحقق في الأقل مكسباً مادياً، لكن "باري ليندون" لم يدخل طي النسيان بل بدأ يلعب لعبة طويلة المدى، فغموضه العميق لا يزال يستدعي المشاهدين للعودة له مراراً.
في استطلاع أجرته مجلة "سايت آند ساوند" Sight and Sound عام 2022 لأعظم الأفلام في التاريخ، حل "باري ليندون" في المرتبة الـ 45 في اختيارات النقاد، والمرتبة الـ 12 لدى المخرجين، أما مارتن سكورسيزي، فعلى رغم حبه لأفلام كوبريك الأكثر شهرة مثل "سبارتاكوس" Spartacus و"دكتور سترينجلوف" Dr. Strangelove و"أوديسا الفضاء: 2001" 2001: A Space Odyssey و"البريق"، لكن الفيلم الذي لا يتوقف عن الرجوع له هو "باري ليندون".
ومن المؤسف القول إن ريدموند باري، ذلك الشاب المتواضع الأصل، لا يظفر بنهاية سعيدة، فيصعد بشق الأنفس على السلم الاجتماعي الزلق ليهوي من جديد إلى القاع، لكن حكاية كوبريك القاسية لا تقتصر على صعود وسقوط الرجل بل تظهر لنا أن الفيلم نفسه فعل العكس تماماً، فلقد تجاوز بطله ونجا من مخرجه واستمر في النضوج والتوغل في الذاكرة السينمائية، إنه الناجي الأعظم في تاريخ الفن السابع، يزداد ثراء وجموحاً مع مرور كل عام.
تعرض النسخة المرممة بدقة عالية من فيلم "باري ليندون" في صالات السينما البريطانية
© The Independent