Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"العزبة" رواية كاتب الجنوب الأميركي الأكبر الأكثر "فولكنرية" في ميزان مسيرته

هل ترك صاحب "الصخب والعنف" وصية غامضة في واحد من نصوصه الأخيرة؟

ويليام فولكنر (1897 - 1962) (غيتي)

ملخص

الحقيقة أن أياً من النقاد والباحثين لم يصل إلى حد الإجابة عن هذا السؤال الذي يبقى غامضاً بالنظر إلى أن فولكنر نفسه لم يرد أبداً أن يجيب عنه. غاية ما في الأمر أن النقاد والباحثين الأكثر جدية نظروا إلى شخصيتي مينك وفليم سنوبس بوصفهما، في نهاية الأمر، وجهين لكينونة واحدة، معتبرينهما الشخصيتين الأكثر تراجيدية بين كل الشخصيات التي تسكن أدب ويليام فولكنر، والأكثر "بساطة"، ومباشرة كذلك، مستشهدين بالدور الذي تلعبه ليندا بينهما بوصفها يد الأقدار التي في "عماها" تقود الأحداث إلى خواتيمها المنطقية.

سؤال بسيط لا يمكن لأي باحث في أدب الأميركي ويليام فولكنر (1897 - 1962) (وتلفظ فوكنر بالطبع) أن يطرحه على نفسه بعد انتهائه من قراءة واحدة من رواياته الأخيرة، "العزبة"، التي صدرت عام 1959 قبل سنوات قليلة جداً من رحيله: ماذا لو كانت هذه الرواية التي بالتأكيد لن تصل في مسار الكاتب الروائي إلى مكانة "الصخب والعنف"، أو "في ما كنت ممددة أحتضر" أو، حتى، "أبسالوم أبسالوم"، ماذا لو كانت روايته الأكثر "فولكنرية"، أي الأكثر ارتباطاً به؟ ويقيناً أن الحديث هنا ليس عن موضوعها ولا عن أسلوبها ولا عن لغتها البسيطة، مقارنة باللغة المعهودة لدى الكاتب، بل عن ارتباطها المباشر بأدبه إلى درجة قد تبدو معها نوعاً من "أنطولوجيا" لهذا الأدب ولو من خلال ما يرصده فيها القارئ من عودة لبعض الشخصيات التي سبق له أن التقاها في نصوص سابقة لفولكنر، حتى وإن كانت لا تلعب هناك، ولا هنا بالتأكيد، دوراً ذا أهمية استثنائية، كشخصية جيسون كامبسون في "الصخب والعنف"، وشخصية غافين ستيفنس في "صلاة لبتول"، وصولاً مثلاً إلى مس ريبا من رواية "الأرض الحرام". وذلك من دون حتى أن يبدو أن الكاتب يتعمد ذلك أو يحاول أن يضفي على هذه الرواية أية أهمية أدبية خالصة. فهي في مظهرها في الأقل، وبعد كل شيء رواية تكاد تكون حدثية عادية تدور في العالم المعتاد، أي الجنوبي المتخيل لفولكنر، بل تكاد تكون رواية كتبت كي تتحول إلى فيلم سينمائي، مما يشي إلى حد ما بشيء من التبسيطية في أحداثها وبناء شخصياتها الرئيسة.

انتقام من دون غرام

ففي نهاية المطاف تتحدث رواية "العزبة" عن حكاية انتقام تكاد تكون عادية. وهو الانتقام الذي يسعى "بطل" الرواية، مينك سنوبس، إلى تحقيقه بعدما أمضى سنوات شبابه كلها، 38 سنة، أي بين سن الـ25 والـ63، في السجن. والحقيقة أن حسن سلوك مينك في سجنه كان وراء تخفيف عقوبته من المؤبد. فهو وعلى رغم كل ما يحدث له، رجل لطيف ليس قادراً على أن يؤذي نملة. ومع ذلك ها هو يخرج من سجنه عجوزاً محطماً لكنه عازم على أن يقوم بعمل واحد: أن ينتقم من ابن عمه فليم سنوبس، الذي سيخبرنا مينك في تيار وعيه أن الجريمة التي اقترفها في حقه ليست، من باب أولي جريمة قاتلة، "كل ما في الأمر أنه لم يمد لي يد المساعدة حينما كنت في حاجة إليه". بالتالي أمضي مينك معظم سنوات سجنه حالماً بالساعة التي يبارح فيها ذلك السجن ليعاقب فليم على ما لم يفعله، بيد أن الأمر لم يكن على تلك البساطة، أو أن هذا ما سيتبين لنا تدريجاً ولا سيما من خلال القسم الثاني من الرواية والمعنون "ليندا"، والذي يفترض به أن يعيدنا كل تلك السنين الطويلة إلى الوراء كي نفهم ما الذي حدث حقاً؟ ولماذا أمضي مينك سنين سجنه يعيش خارج الزمن، بل في صلب زمن أفرغه هو من أي تاريخ ليجعل منه حياة غير الحياة وزمناً غير الزمن؟ بحسب ما يقال لنا عند نهاية القسم الأول وفي مجرى الانتقال إلى القسم الثاني، ولعل ما سيبدو لنا غريباً أول الأمر هو أن ليندا التي أعارت القسم اسمها عنواناً، لن تظهر فيه بصورة مباشرة، بل ستخلي المكان لعرس فليم على امرأته أولاً فرنر، وهو العرس الذي ستكون نتيجته بعد سنوات، ليندا ابنة الزوجين التي يروى لنا هنا كيف أنها باتت محور "أحداث" هذا الجزء من الرواية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في غمرة نضال ما

والحقيقة أن هذا الجزء من "العزبة" في معظمه سينسينا مينك وحكايته، بل حتى حكاية رغبته في الانتقام من فليم، ليسهب في وصف احتقار ليندا حين تكبر، لثروة أبيها الطائلة ومكانته الاجتماعية ولا سيما منذ ترتبط بحبيب فنان ترافقه إلى أوروبا، وتحديداً إلى إسبانيا، حيث يناضلان معاً في صفوف الجمهوريين، وتعود ليندا من تلك التجربة لتشتغل عاملة في مصنع، وتعلن اعتناقها المبادئ الشيوعية. وهذه الحكاية التي لن نفهم هنا تماماً ما علاقتها بحكاية بطلنا "السجين" ستكون هي ما يعيدنا إلى الخط الروائي الأصلي في القسم الثالث المعنون هذه المرة "فليم" على اسم ابن عم مينك وطريدته ووالد ليندا. وينطلق هذا القسم من اللحظة التي عايشناها في القسم الأول حين علم مينك أن ليندا هي التي دفعت الكفالة التي أخرج من السجن بموجبها. وخلال الأيام التالية لذلك الانعتاق سيمضي مينك أيامه متشرداً متنقلاً من مكان إلى آخر مدهوشاً، بل مرتبكاً وضائعاً أمام التغيرات التي طرأت على المدينة بل حتى على الناس وأخلاقهم، باحثاً عمن يبيعه مسدساً. فهو وسط تلك الحالة الجديدة وعلى رغم استحواذ التغيرات عليه، لم ينسَ أبداً أن لديه مهمة لم يخرج من السجن أصلاً إلا للقيام بها. وما المسدس المنشود سوى وسيلة وصوله إلى تلك الغاية. وهو لكي يحصل على المسدس يشتغل حيناً في مزارع حلج القطن وحيناً في السكك الحديد وفي غير ذلك من أعمال متعبة الغاية منها وضع دولار فوق دولار بغية تحقيق "حلم حياته"... وهو يشعر يوماً بعد يوم بأنه يدنو من غايته بصورة ممنهجة ولا رجوع عنها. وفي الوقت نفسه تستعيد الرواية هنا، ومن خلال رصد مينك نفسه شؤون طريدته، تستعيد حكاية فليم الذي نعرف الآن أنه بات مسيطراً على واحد من أضخم البنوك في المدينة.

مصير رأسمالي شرير

لكن فليم لم يحقق ذلك بطريقة اعتيادية بالطبع، بل من خلال تدميره عدداً كبيراً من اناس، وجلهم أصدقاء له، بل كل من دنا منه ولو من مسافة بعيدة. وهذا الدمار الذي نشره من حوله وفي أوساطه كان طريقه للتحول إلى ذلك الرأسمالي الكبير. ولكن بقي أن نعرف علاقة مينك بذلك كله، ولماذا تقف ليندا في صف مينك على الضد من أبيها حتى من دون أن تعرف، حقاً، شيئاً عن غايته التي يسعى إليها؟ لن نعرف الحقيقة على أية حال في تفاصيلها الدقيقة، ولكن حين يتمكن مينك في نهاية الأمر من تحقيق غايته وقتل فليم ذات لحظة، يبدو لنا معها أن هذا الأخير ولأسباب تظل شديدة الغموض، بل تتناقض مع ما كنا عرفناه عنه وربما منه، من كونه يرمز في شخصه إلى كل تلك الهزيمة الأخلاقية التي أصابت الشمال الأميركي عبر انتصاره على الجنوب في حرب الانفصال التي ستبدو لنا في نهاية الأمر شبحاً يخيم بذكرياته وتأثيراته ليست فقط في هذا القسم الختامي من الرواية، بل في الهم الذي يحمله مينك في عمق أعماقه، ليس عند خروجه من السجن، بل منذ دخوله أصلاً إليه، يبدو لنا أن فليم قد استسلم لما سيفعله مينك به، من دون أن يتساءل هو الآخر عن السبب، ولكن يبدو لافتاً لنا هنا ما يدمدم به المسافر ردكليف، وكأنه راوية الحكاية، من أن مينك عرف كيف يرتاح أخيراً إذ "لم يعد الآن يحلم بأن يقتل أي شخص آخر!... لقد وصل إلى أقصى ما يتوق إليه من حرية". فهل تراه حقق أيضاً وفي طريقه حلم تحرر لابن عمه فليم؟

أعلى درجات الفجائعية

الحقيقة أن أياً من النقاد والباحثين لم يصل إلى حد الإجابة عن هذا السؤال الذي يبقى غامضاً بالنظر إلى أن فولكنر نفسه لم يرد أبداً أن يجيب عنه. غاية ما في الأمر أن النقاد والباحثين الأكثر جدية نظروا إلى شخصيتي مينك وفليم سنوبس بوصفهما، في نهاية الأمر، وجهين لكينونة واحدة، معتبرينهما الشخصيتين الأكثر تراجيدية بين كل الشخصيات التي تسكن أدب ويليام فولكنر، والأكثر "بساطة"، ومباشرة كذلك، مستشهدين بالدور الذي تلعبه ليندا بينهما بوصفها يد الأقدار التي في "عماها" تقود الأحداث إلى خواتيمها المنطقية. الأقدار التي تسير في النهاية في مجراها الطبيعي الذي لا يمكنه إلا أن يكون منطقياً، ولعل هذا ما جعل نقاداً يقولون إن أهمية "العزبة" وضآلة شعبيتها ومقروئيتها بالتالي، تكمن أصلاً في كونها من تلك الأعمال الإبداعية التي لا يكتبها مؤلف إلا في نهاية حياته راغباً منها أن تكون وصيته الأخيرة من دون أن يقول كيف!

المزيد من ثقافة