ملخص
عدم وجود سلطة لأحد على آخر في نقاشات الشباب الغاضب على منصة "ديسكورد" يفسر عدم وجود قيادة مركزية لهؤلاء، وبالتالي يميل النقاش نحو نوع من التوافق على نوعية المطالب وقائمة المدن التي تحتضن الوقفات الاحتجاجية، وقد أبدع الشباب في التنسيق من خلاله فرتبوا معظم مواعيد لقاءاتهم في كل المدن، متجاوزين بذلك أنماط التنسيق التقليدية من اتصال هاتفي أو عبر النصوص القصيرة.
تحولت منصة "ديسكورد" Discord من شبكة اجتماعية شبه مهجورة استحدثت في البداية من أجل ألعاب الفيديو، إلى منصة يلتقي فيها شباب في عمر الزهور، سموا أنفسهم "جيل زد 212" أو"Gen Z 212"، أي الشباب المولودين بين عامي 1995 و2012.
وانطلق التنسيق لتنظيم الاحتجاجات من طرف "شباب زد" في منصة "ديسكورد" في البداية ببضعة آلاف من الشباب المغربي فقط، قبل أن يبلغ العدد في اليوم التاسع من الحراك زهاء 170 ألف عضو في هذه المنصة الافتراضية الترفيهية.
حشد شبابي
ولم يكن أحد في المغرب يتصور أن يتحول "ديسكورد" من مجرد أداة ترفيهية مخصصة لألعاب الفيديو إلى وسيلة سياسية واحتجاجية جمعت آلاف الشباب المغاربة تحت لواء "جيل زد"، من أجل مطالب رئيسة مثل تحسين خدمات قطاع الصحة وإصلاح قطاع التعليم ومكافحة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ويرى خبراء أن "ديسكورد" ليست في الأصل منصة للتعبئة والحشد الاجتماعي، غير أنها تمكنت من تجميع آلاف الشباب المغاربة بفضل خاصيتين، الأولى طبيعة هذه المنصة اللامركزية، والثانية سهولة إحداث سيرفرات خاصة وغرف داخلية مخصصة لنقاشات مواضيع بعينها، مثل التعليم والصحة ورد فعل الأمن، وأيضاً غرف دردشة شبابية عامة.
ولم يحصر "شباب زد" تفاعلهم في شبكة "ديسكورد" على الاجتماع والانتقاد وإبداء الآراء ومناقشة المواضيع الاجتماعية داخل الفقاعة الافتراضية فقط، بل انتقلوا إلى التنفيذ بالخروج فعلياً إلى شوارع أكثر من 14 مدينة مغربية في الجهات الـ12 من المملكة.
وتمكن "شباب زد" من دمج الافتراض بالواقع في تنظيم الاحتجاجات عبر "ديسكورد" وذلك بالالتقاء كل يوم وإبداء الآراء والتصويت بالغالبية أيضاً، حيث يجري تحديد أماكن ومدن التظاهرات ومواعيدها المسائية، خصوصاً بين السادسة والتاسعة ليلاً بتوقيت المغرب.
في المقابل يرى مراقبون أن منصة "ديسكورد" تواجه نواقص ومنها أنها "لا تتيح أدوات إدارية قوية مثل التي توجد في تطبيقات النشاط السياسي التقليدية، كما أن خوارزمياتها لا تسهل الانتشار الواسع للمحتوى خارج المجتمعات المغلقة"، وتبعاً لآراء هؤلاء المراقبين أيضاً فإن "خصوصية منصة 'ديسكورد' مفيدة كثيراً في مراحل التنظيم والتنسيق الداخلي للاحتجاجات، لكنها أقل نجاعة عندما يسعى النشطاء إلى إيصال صوتهم للرأي العام أو السلطات السياسية".
أفقي من دون تراتبية
ويعلق الخبير المغربي يحيى اليحياوي قائلاً "إن 'ديسكورد' من برامج التواصل الاجتماعي الموجهة للاتصال وللدردشة وهو تطبيق متاح، أي بإمكان أي كان أن يقوم بتحميله على هاتفه المحمول، فيتمكن من تبادل كل أشكال المعلومات والمعطيات، سواء كان على شكل صوت أو صورة أو نص أو فيديو متحرك"، مضيفاً أن "في داخل 'ديسكورد' قنوات مختلفة لكل منها مشرف يتحكم في شيفرة الوصول ويختار موضوع النقاش ويقوم بتنشيط الحوارات بين المنضوين تحت لوائه".
وأوضح المتحدث، وهو مؤلف كتب عدة حول المنصات الرقمية، أن هذه المنصة أنشئت عام 2015 وكانت موجهة إلى مجتمع الألعاب، لكنها تحولت تدريجياً لضم مواضيع مختلفة أخرى، مردفاً أن "ديسكورد" يؤوي "الشريحة الاجتماعية من الشباب التي يتراوح عمرها بين 15 و29 سنة، وهي شريحة تضم نحو 8 ملايين مغربي".
وأفاد اليحياوي بأن من خصائص "ديسكورد" أنه يعمل بطريقة أفقية ولا يخضع لتراتبية معينة، كما أن سبل الانتقال منه لفائدة شبكات أخرى مثل "إنستغرام" هو لمزيد من السرية، ولا سيما إذا تعلق الأمر بتحديد مواقيت الفعل وأماكنه، مسجلاً أنه "البرنامج الذي استخدمه الشباب في دولة نيبال، فأنشأوا بفضله منصة أقامت برلماناً افتراضياً مع التصويت على قاضية لتتولى رئاسة الحكومة عوض الرئيس السابق".
ويرى الخبير نفسه أن المغاربة الذين سماهم "جيل انتفاضة الحكرة" (القهر) "ليسوا أول من سبق لتوظيف التطبيق لكنهم أبدعوا في التنسيق من خلاله، إذ رتبوا معظم مواعيد لقاءاتهم في كل المدن متجاوزين بذلك أنماط التنسيق التقليدية من اتصال هاتفي أو عبر النصوص القصيرة".
وتوقف اليحياوي عند شعار "شباب زد" قائلاً "نحن لا نمثل أي حزب سياسي ولا نخدم أية أجندة، وصوتنا حر ومستقل وصادق من أجل الإصلاح فقط"، ليؤكد أن هذا الشعار الشبابي يحدد بدقة فضاء الاشتغال والاحتجاج.
ويكمل المتحدث شارحاً "أن 'شباب زد' لم يصطفوا بأي شكل من الأشكال إلى جانب التنظيم الكلاسيكي، وضمنه الأحزاب والنقابات، على رغم مطلبهم القطاعي بخصوص الصحة والتعليم، لأن أفقهم أفق إصلاحي وليس أفق تغيير النظام أو المنظومة، ولأن وعي هؤلاء الشباب حدد مجالهم، إذ عمدوا للاشتغال من داخل النسق وليس من خارجه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التحرر من القيود
من جهته يقرأ الباحث في سوسيولوجيا الرقمنة محمد كباص نشاط "شباب زد" المغاربة في "ديسكورد" بأنه يتسم مثل جميع التعبيرات الاجتماعية والاحتجاجية في عصر الرقمة بسمات رئيسة عدة، أولاها أن التعاطي مع هذه المنصة يكون فردياً، إذ إن كل شاب يستطيع التعاطي والتفاعل مع ما يجري بتعليق أو فكرة أو صورة أو فيديو، أو يشارك ذلك كله مع آخرين.
وأكمل المتحدث عينه بأن السمة الثانية لـ "شباب زد" في "ديسكورد" تحديداً تتمثل في خلع الشاب المحتجين عباءة السياسي أو الأيديولوجي، فلا هم يساريون ولا يمينيون ولا إسلاميون، بل هم شباب لجأوا إلى هذه المنصة للتعبير عما يخالجهم من آمال وآلام، فانبثقت فكرة نقل الشكوى والصراخ من الافتراضي إلى الواقعي.
والسمة الثالثة، وفق الباحث نفسه، تتجلى في عدم وجود سلطة لأحد على آخر في نقاشات الشباب الغاضب على منصة "ديسكورد"، وهو ما يفسر عدم وجود قيادة مركزية لهم، وبالتالي يميل النقاش نحو نوع من التوافق على نوع المطالب وقائمة المدن التي تحتضن الوقفات الاحتجاجية.
أما السمة الرابعة فهي إحساس "شباب زد" في منصة "ديسكورد" بأنهم "متساوون جميعاً في حق التعبير الذي قد لا يكونوا وجدوه بما فيه الكفاية في الواقع"، مستدركاً أن "هذا الجو الحر والسقف غير المحدود في نقاشات 'ديسكورد' قد يفضيان أحياناً إلى تبني مطالب إعجازية أو غير قابلة للتطبيق، أو حتى انزلاق المطالب إلى ما قد يؤثر سلباً في صورة احتجاجات الشباب".