ملخص
بقدر ما شكلته حرب غزة من لحظة اختبار فارقة للمواقف الدولية والإقليمية، كان الأمر مشابهاً بالنسبة للجماعات الإسلامية وبالأخص تنظيم الإخوان المسلمين الذي لطالما قدم نفسه كصوت "المقاومة والرفض" ضد إسرائيل والقوى الداعمة لها. لكن المتتبع لبيانات وتصريحات المنتسبين للجماعة طوال العامين الماضيين، سيجد أن حسابات التنظيم السياسية كانت العامل الحاسم في توجهاتها، بعد تكشف حجم التناقض العميق بين "خطاب عاطفي حماسي" وحسابات سياسية باردة لحركتها على الأرض، وهو ما استدعى التساؤل بشأن قدرة التنظيم على إعادة طرح نفسه من منطلقات القضية الفلسطينية باعتبارها ركيزة الحشد والتعبئة لمؤيديها وأنصارها.
بقدر ما كشفته الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة وتداعياتها الإنسانية الكارثية على مدار العامين الماضيين، من تحولات وتغيرات دراماتيكية على مستويات الأمن والسياسة والفكر، كان لتنظيم "الإخوان المسلمين" والجماعات الإسلامية الموالية أو المنضوية تحته نصيب من تلك المكاشفة القديمة المتجددة في عمر تيارات الإسلام السياسي في المنطقة والإقليم برمته، بعد أن صبغت مواقفهم وسياساتهم طوال عمر الحرب التناقض والمراوحة بين "شعارات المقاومة" حينا، والركون لحسابات السياسة وتعقيداتها أحياناً كثيرة.
تلك البرغماتية وفق توصيف البعض، أو "التناقض بين الخطاب والسياسة" بحسب تعبير آخرين، تأرجحت خلالها مواقف الكثير من تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، حيث تمسكت فصائل منهم بخطاب العنف "سبيلاً للتغير لا مفر منه" ما يمكنهم من استعادة قواعد الحضور الغائب بعد سنوات الملاحقة والأفول، فيما ارتكن البعض إلى محاولات العمل على تطويع المشهد السياسي المركب لخدمة أهداف الجماعة والمنضوين تحت رايتها.
وبحسب كثير من المراقبين، فقد شكلت حرب غزة بتعقيداتها العسكرية والإنسانية، نقطة تحول في التاريخ الحركي والخطابي لجماعات الإسلام السياسي، وهو الأمر الذي انعكس بصورة مختلفة بين فروع وأذرع تلك التنظيمات في البلدان العاملة بها، لا سيما مع ما تمثله القضية الفلسطينية منذ عقود كركيزة أساسية للحشد والتجييش لدى تلك التيارات وبخاصة جماعة الإخوان المسلمين منذ ظهورها.
تناقض تفرضه المصلحة
منذ اللحظة الأولي لاندلاع حرب غزة في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بدا تعاطي تيارات الإسلام السياسي في عموم المنطقة بوجه عام، وجماعة الإخوان المسلمين التي تعاني انقساماً وتشرذماً منذ سنوات، متباينة ومتناقضة في كثير من الأحيان، حتى داخل أذرع الجماعة نفسها، وذلك على رغم الجذور والروابط المشتركة لجماعات الإسلام السياسي من حيث النشأة والاتجاه.
ففي الوقت الذي تحفظت فيه بعض من تيارات الإسلام السياسي في أقاليم بعينها، تبني التنظيم الدولي للجماعة ومعظم فروعه في الدول العربية موقفاً داعماً لعملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها حركة "حماس" باعتبارها أحد فروع الجماعة في قطاع غزة، وذلك على رغم حالة الانقسام بين جناحي لندن وأنقرة، إذ باركت جبهتي تركيا وبريطانيا الخطوة، وانخرط فرعها في لبنان المسمى "الجماعة الإسلامية" في الصراع المباشر مع إسرائيل للمرة الأولى منذ اجتياح بيروت عام 1982، وجاءت المقاربة نفسها على مستوياتها السياسية من الحركات المحسوبة على الإخوان، في الدول العربية كحركة حركة العدل والإحسان والحزب الإسلامي في العراق، والحركة الدستورية الإسلامية في الكويت، وحركة النهضة التونسية، وجماعة العدل والإحسان المغربية، وحركة مجتمع السلم الجزائرية، والتجمع اليمني للإصلاح، والإخوان المسلمين في ليبيا، والحركة الإسلامية في السودان، والجماعة الإسلامية في باكستان، والجماعات الإسلامية في إندونيسيا وماليزيا.
إلى ذلك، وبينما قدّمت العديد من جماعات الإسلام السياسي خطاباً مضاداً لحركة "حماس"، ومعارضاً لعملية "طوفان الأقصى"، وقد جسدت الحركة الإسلامية في إسرائيل وبعض أذرع التيارات الإسلامية بالدول الغربية لتفادي المواجهة من الأنظمة في تلك البلدان، اكتفت تيارات أخرى باتخاذ موقف معارض من الحرب في قطاع غزة، لكن من دون إبداء الدعم لحركة "حماس" والفصائل الفلسطينية الأخرى، لا سيما حركات "السلفية" التي يصنف بعض أفرعها الإخوان كـ"حركة إرهابية".
في مقابل ذلك، شهدت خطابات تنظيمات السلفية الجهادية "كتنظيمات القاعدة وداعش وغيرها" وحزب التحرير تأثراً نسبياً بالأحداث، مع تفاوت في الإشادة بـ"حماس"، فمثلاً في حالة تنظيم "القاعدة"، جاءت الحرب لتزيد من فرصة تجديد خطابها الموجه إلى العالم العربي، وتنشيط استراتيجية "عولمة الجهاد" ضد الغرب وإسرائيل، أما في حالة حزب التحرير وعلى رغم موقفه المعارض لجماعة الإخوان المسلمين، واتهامه إياها بالارتباط بالسياسات البريطانية، فقد اشتبك مع الأحداث من منطلق حجم الحدث وضرورة الانخراط به لتعزيز مصداقيته وخطابه الإسلامي.
هذا التباين والاختلاف بين تيارات الإسلام السياسي بعضها البعض، فسره المراقبون بأنه "خضع لحسابات السياسة والبحث عن إعادة تفعيل أدوار غائية بعد سنوات من التشرذم والانقسام لا سيما في ما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين التي تعاني الملاحقة من سقوط حكمها في مصر في عام 2013".
في تفسيره لهذا التباين، يقول الباحث كريم شفيق، بمركز "تريندز" للبحوث والدراسات أن حرب غزة "أظهرت سياقات جديدة لدوائر الاستقطاب العنيف الذي أعاد تشكيل الاصطفافات السياسية في المنطقة، وربما الأيديولوجية، بنفس درجة الحدة التي شهدها الوضع الميداني، وبما يكشف عن محاولات محمومة من قبل القوى الأصولية باتجاه أسلمة القضايا والصراعات؛ حتى تُتاخم مصالحهم، وتتماهى مع أهدافهم ورؤاهم البراغماتية".
شفيق أوضح في دراسته المعنونة "أفول الميليشيات الإسلامية" أن لهذا السبب "كانت البيانات الرسمية الصادرة عن مختلف القوى تتجه إلى مضاعفة جرعة تديين السياسي، والقفز على الخلافات والتباينات الأيديولوجية بين التيارات الإسلاموية، باتجاه لملمة الصفوف وتشكيل اصطفافات، بداية من توسيع الحرب من غزة إلى الضفة الغربية، ونقل عدوى الصراع بتعبئة الحواضن في دول الجوار ضد الخصوم الإقليميين"، معتبراً إن "تعاطي هذه القوى مع أحداث غزة عكس حرص تلك الجماعات على استغلال هذه الأحداث لاستعادة نشاطها العملياتي داخل المنطقة وخارجها".
استعادة النشاط والحضور، قالت بشأنه شرين فهمي، أستاذ العلوم السياسية بمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية إن حرب غزة وتداعياتها "انعشت خطاب التنظيمات المتطرفة في المنطقة بعد سنوات من التراجع"، موضحة في دراستها المعنونة "الحرب على غزة وخطر التطرف" بمركز كارنيغي للشرق الأوسط، أن "البيانات المتلاحقة التي أصدرتها بكثافة تنظيمات الإسلام السياسية مع بداية الحرب، اتسمت بمحاولات لتوظيف الوضع في فلسطين لمصلحتها لإعادة تنظيم صفوفها في شن هجماتها، واستقطاب مقاتلين جدد، وتجنيدهم باسم الجهاد". مشيرة إلى إن إعلام تلك التيارات والتنظيمات استغلت "الأجواء المشحونة بواقع التأثر بمشاهد استشهاد أطفال فلسطين، من خلال خلط مفاهيم الدفاع عن قضية عادلة بمفاهيم التطرف والعنف، التي تسعى إلى الترويج لها بين قطاع جماهيري أوسع، يصبح قادراً على تنفيذ أهدافها".
الإخوان والبحث عن "إعادة التموضع"
بقدر ما شكلته حرب غزة من لحظة اختبار فارقة للمواقف الدولية والإقليمية، كان الأمر مشابهاً بالنسبة للجماعات الإسلامية وبالأخص تنظيم الإخوان المسلمين الذي لطالما قدم نفسه كصوت "المقاومة والرفض" ضد إسرائيل والقوى الداعمة لها. لكن المتتبع لبيانات وتصريحات المنتسبين للجماعة طوال العامين الماضيين، سيجد أن حسابات التنظيم السياسية كانت العامل الحاسم في توجهاتها، بعد تكشف حجم التناقض العميق بين "خطاب عاطفي حماسي" وحسابات سياسية باردة لحركتها على الأرض، وهو ما استدعى التساؤل بشأن قدرة التنظيم على إعادة طرح نفسه من منطلقات القضية الفلسطينية باعتبارها ركيزة الحشد والتعبئة لمؤيديها وأنصارها.
فمع بدايات الحرب، سعى تنظيم الإخوان الذي يعاني تشرذماً وانقسامات واسعة منذ أكثر من عقد من الزمان بعد أن فقد فرعه في مصر الحكم في عام 2013، وهو الأمر ذاته بالنسبة لفرع الجماعة في تونس والمغرب، لمحاولة لملمة نفسه واستغلال الحدث لإعادة تأكيد وجوده، لا سيما أمام ما تمثله القضية الفلسطينية من ركيزة أساسية في الخطاب الأيديولوجي لها قضية مركزية للأمة الإسلامية، وتكتسب قدسية دينية وسياسية عميقة، إلا أنه مع تطورات الحرب في القطاع، بدأت مواقف الجماعة تشهد تناقضات واسعة بين شعاراتها المعلنة والواقع على الأرض، وهو الأمر الذي تجلى في محطات بعينها لا سيما مع مساعي إسرائيل لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، أو حتى على مستوى الكلفة المادية والإنسانية الكبيرة للحرب.
كذلك بدا التناقض بين الشعارات والحركة الفعلية للتنظيم، إذ على رغم مسارعة قيادات وواجهات إعلامية محسوبة على الإخوان إلى تبني خطاب تعبوي يصف ما جرى بـ"الفتح المبين" و"انتصار المقاومة الإسلامية"، وتقديم أنفسهم باعتبارهم "الداعم المعنوي والشرعي للمقاومة الفلسطينية"، لم يسعي التنظيم إلى أي تحرك ملموس أو مبادرة سياسية يمكن أن تضعه في موقع الفاعل.
وكشفت مواقف الإخوان في عدد من الدول بخاصة في مصر والأردن والمغرب وتونس – عن حذر واضح في التعامل مع الحرب، خشية أن تُستغل مواقفهم لإعادة تصنيفهم كجماعات تهدد الأمن القومي أو تتبنى مواقف متطرفة، ففي مصر، التزمت الجماعة خطاباً مزدوجاً بين دعم معنوي للمقاومة على المنصات الإعلامية المعارضة في الخارج، يقابله صمت رسمي في الداخل تحاشياً لأي مواجهة جديدة مع الدولة، في المقابل حاولت الجماعة في الأردن الحفاظ على موقعها في المشهد السياسي من دون تجاوز الخطوط الحمراء التي تفرضها الحكومة، فرفعت الشعارات، لكنها أحجمت عن أي تصعيد ميداني أو سياسي حقيقي.
في قراءة هذا التناقض الذي خضع لحسابات السياسة وبراغميتها بشكل أكبر، أرجعه إبراهيم غرايبة في دراسته المعنونة بـ"الإسلام السياسي بما هو إضرار بالدين والسياسة" في مركز الدراسات الاستراتيجية التابع للجامعة الأردنية، إلى سعي تلك التيارات لتوظيف الدين في الإطار التي تعمل فيه الجماعة، قائلاً "تشكل جماعة الإخوان المسلمين المساحة الكبرى في ظاهرة الإسلام السياسي، كذلك تشكل لغزاً مربكاً للباحثين والمتابعين كما الأنظمة السياسية العربية والعالمية، فالجماعة تبدي طيفاً واسعاً من الأفكار والمبادئ في داخل القطر الواحد، ومن قطر إلى آخر، وإن كانت تجمعها أيديولوجية واحدة هي التطبيق السياسي للإسلام، لكن يبدو ثمة اختلاف واسع في مستوى وطبيعة هذا الفهم والتطبيق"، موضحاً "في حين يبدي حزب النهضة التونسي (الإخوان المسلمون التونسيون) قبولاً بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة ويلتزم بفصل الدعوي عن السياسي، وبمبادئ وقيم ليبرالية وديمقراطية لا تختلف عن القيم الديمقراطية الغربية، فإن الجماعة في مصر والأردن تبدو أكثر تحفظاً وتعصباً، ويشكل حزب العدالة المغربي (الإخوان المسلمون المغربيون) نموذجاً آخر للمتدينين الديمقراطيين المحافظين ضمن المنظومة السياسية والثقافية والدينية المتبعة في النظام السياسي المغربي، وأما حزب العدالة والتنمية في تركيا الملهم للإخوان المسلمين، فيمكن اعتباره حزباً علمانياً محافظاً. وعلى رغم التزام الإخوان في الشرق العربي بالعمل السلمي والديمقراطي فما زالت كتب وأفكار سيد قطب سائدة وملهمة للجماعة، وهي أفكار مناقضة للديمقراطية، كذلك هي الأفكار والمبادئ نفسها الملهمة للجماعات المتطرفة والمسلحة".
ويعود هذا النهج بالأساس إلى فكرة "توظيف الدين وتسييسه" بالنسبة للإخوان المسلمين، إذ بحسب ما كتبه سونر جاغابتاي وهو زميل أقدم في برنامج "بايير فاميلي" ومدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إن "الإسلام لا يعني الإسلام السياسي، بل إن الإسلام هو الإيمان، والإسلام السياسي هو أيديولوجية متطرفة وعنيفة أحياناً وغير تاريخية تسعى إلى كسب شرعيتها عبر الإسلام وتركز جهود التجنيد التي تقوم بها على المسلمين"، موضحاً في دراسة له نشرها بمعهد واشنطن تحت عنوان "هل المسلمون إسلاميون" أن "العلاقة بين الإسلام والإسلام السياسي هي أقرب إلى العلاقة بين الطبقة العاملة والشيوعية في الحرب الباردة. فقد حاولت الأيديولوجية الشيوعية استخلاص شرعيتها من الطبقة العاملة وسعت إلى التحدث باسمهم. ويحاول الإسلام السياسي أن يفعل الشيء نفسه. ومع ذلك فبما أن الشيوعية لم تمثل الملايين من الطبقة العاملة من الرجال والنساء الذين لم يتعاطفوا مع الشيوعيين فإن الإسلام السياسي لا يمثل المسلمين في أيامنا هذه". وتابع، "تشمل المظاهر الحالية للإسلام مجموعة متنوعة من الحركات الإسلامية، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وعلى رغم أن هذه الجماعات تستخدم تكتيكات مختلفة، فإن ما يجمعها في الأساس هو أيديولوجية مشتركة لا تحترم القيم العالمية ولا تتبناها".
الجماعة وتاريخ اللعب على "التناقضات"
لم تكن حرب غزة بخسائرها المادية والبشرية الهائلة هي الحدث الأول في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين الذي يكشف لعبها على التناقضات ومحاولة توظيفها للأحداث بما يخدم مصالحها وأهدافها، إذ يشير التدقيق في مسار التنظيم الذي أسس في مارس (آذار) 1928 بمدينة الإسماعيلية على يد حسن البنا (اغتيل عام 1949)، إلى أن مسار صعود الجماعة وتراجعها فضلاً عن محطات صدامها وتوافقها مع السلطة في مصر (بلد المنشأ) أو في الخارج، إلى سعي التنظيم بصورة رئيسة إلى تحقيق غاياته وإن استخدم الدين وسيلة في ذلك.
فالتنظيم الذي نشأ بعد أربعة أعوام من سقوط الخلافة العثمانية، وسرعان ما انتقل إلى القاهرة، ثم إلى بقية أنحاء مصر، منطلقاً إلى العالم العربي والإسلامي، ترتكز مفاهيمه في "استعادة الخلافة"، على مقولات حسن البنا بأن "الإسلام دين ودولة"، والتي دخل عبرها لتشكيل نظام عقائدي شامل، استطاع تلخيصه في القول، "الشرعية بكاملها في التنظيم، والواجب الديني يقتضي أن يتولى التنظيم السلطة، فيطبق الشريعة وتقوم الدولة الإسلامية"، مطوعاً الإسلام لمصالحه، بعدما طوع الإحياء والإصلاح، للغرض السياسي ذاته.
ومع بدايات انتشار التنظيم على المستوى المحلي والإقليمي في ثلاثينيات القرن الماضي، مرت "الإخوان المسلمون" بمحطات تقارب وصدام مع السلطة من العصر الملكي إلى العصر الجمهوري، حيث قيام ثورة يوليو (تموز) 1952 وسيطرة حركة الضباط الأحرار على السلطة في البلاد، مستغلاً في ذلك عدداً من الأحداث التي ساعدت على انتشار فكر ووجود التنظيم مثل انطلاق المقاومة في فلسطين عام 1936، والإعلان عن قيام إسرائيل والمشاركة العسكرية في حرب 1948، ومناهضة الاحتلال الإنجليزي.
في تلك الفترة التي لم يكن العالم يتجاوز بعد تبعات الحرب العالمية الثانية وجد التنظيم الفرصة سانحة للانتشار واللعب على التناقضات في الداخل والخارج. فبحسب ما كتبه المؤرخ البريطاني الشهير مارتن فرامبتون في كتابه "الإخوان المسلمون والغرب: تاريخ العداوة والارتباط"، كانت "سنوات الحرب الباردة حاسمة في ما يتعلق بالمرحلة التكوينية لتنظيم الإخوان"، موضحاً أن "التنظيم وزعيمه حسن البنا عزز اللعب على التناقضات بين القصر والملك فاروق من ناحية، والأحزاب السياسية وعلى رأسها الوفد والسعديون من ناحية ثانية، والسفارة البريطانية لدى القاهرة من ناحية ثالثة، والألمان والإيطاليون من ناحية رابعة. وأقام علاقات مع كل هذه الأضداد، بعضها في العلن، وبعضها في السر، مثل الاتصالات بين البنا ومساعديه مع مسؤولين سياسيين أو عناصر استخبارات بريطانية. وفي تحالفاته المتضادة والمتضاربة هذه ضمن التنظيم إبقاءه بعيداً من التطويق، بل على العكس استفاد مالياً وسياسياً من كل هذه الأطراف".
ومن خلال التقليب في وثائق الأرشيف البريطاني ألقى فرامبتون في كتابه الذي رصد فيه نحو 80 عاماً من العلاقة بين الجماعة ولندن، الضوء على الاستراتيجية التي اتبعتها الحكومات المصرية في الأربعينيات حيال تنظيم الإخوان، والتي لخصها المسؤول الوفدي أمين عثمان حينها بـ"قتل الإخوان بالعطف"، قائلاً إنها "الطريقة الأكثر حكمة للتعامل مع الإخوان كي لا يعملوا في الخفاء"، أي مواصلة تقديم إعانات للتنظيم وفتح القنوات معهم كوسيلة لمراقبتهم والاستفادة من براغماتية حسن البنا، موضحاً أن أمين عثمان أخبر البريطانيين بأن "الإعانات المالية المقدمة من الوفد للإخوان المسلمين ستدفعها الحكومة سراً، وستطلب بعض المساعدة المالية في هذا الأمر من السفارة البريطانية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد تلك الفترة، وتحديداً بين عامي 1944 و1949، وثقت مرحلة تحولات كبرى في عمر التنظيم، حيث اللجوء العلني إلى ممارسة العنف لتحقيق مصالح الجماعة، مع تبني عمليات تفجير واغتيال وقتل، مروراً بالتخطيط لحرق القاهرة، وذلك قبل سنوات معدودة من تحولات سياسية دراماتيكية شهدتها مصر بعد الإطاحة بالنظام الملكي ووصول "الضباط الأحرار" إلى السلطة في عام 1952، وهى الفترة التي أعقبتها خلافات كبيرة بين الجماعة والرئيس جمال عبد الناصر، وذلك على رغم الصلات التي كانت تربط الإخوان بتنظيم الضباط الأحرار في السابق.
وبعد وفاة عبد الناصر في عام 1970، شهدت فترات حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك محطات شد وجذب مع الجماعة، حيث التأرجح بين المهادنة والتعاون تارة، والمنافسة والصـراع تارة أخرى، كان أبرز محطات توافقها مشاركة الإخوان للمرة الأولى في انتخابات برلمانية عام 1984، ثم شاركت أيضاً عبر تحالف آخر في انتخابات 1987 البرلمانية، وذلك قبل أن تشهد فترة التسعينيات مرحلة ملاحقة لعناصرهم في ضوء مواجهة الدولة لصعود الجماعات الإرهابية. ومع العقد الأول من الألفية الجديدة، عاد الإخوان إلى المشهد مجدداً وشاركوا في الانتخابات البرلمانية عام 2005، وتمكنوا من حصد 88 مقعداً بنسبة 20 في المئة من المقاعد.
وعن رصد تلك العلاقات الشائكة بين الجماعة والدولة طوال عقود ما بعد ثورة يوليو أوضحت دراسة بعنوان "علاقة جماعة الإخوان المسلمين بأنظمة الحكم في مصر... منذ العهد الملكي حتى عام 2021"، منشورة على مركز "تريندز" للبحوث والاستشارات، أنه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر "مرت علاقة الدولة بالجماعة كذلك بمرحلتين: الأولى مرحلة التعاون والتحالف (1952-1954)، وتميزت هذه المرحلة بنوع من الهدوء الحذر، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الصدام والحل، وذلك بعدما قام الإخوان في الـ26 من أكتوبر 1954 بمحاولة اغتيال عبد الناصـر في الإسكندرية".
أما في عهدي أنور السادات وحسني مبارك فقد اختلفت رؤية وطريقة تعامل كل من الرئيسين، ففي حين حاول السادات "توظيف الإخوان" لمساعدته في مواجهة خصومه السـياسـيين عقب توليه الحكم، ذهب مبارك إلى التعامل معهم بحذر شديد، إلا أنه كانت هناك سمات مشتركة بينهما في سبل تعاملهما مع الجماعة، إذ رفض كلاهما إضفاء الشـرعية القانونية عليها، حتى مع السماح لها بالعمل السـياسـي والاقتصادي والاجتماعي، وفق "تريندز".
إلى ذلك، كانت السنوات التي تلت سقوط نظام مبارك في مصر عام 2011 وبدايات صعود "الإخوان" لسدة الحكم في البلاد للمرة الأولى في تاريخهم مفصلية وكاشفة بالنسبة إلى نيات التنظيم وقدرتهم على "اللعب على التناقضات" لخدمة مصالحهم، كما لم تظهر أي مرحلة سابقة في عمر الجماعة، إذ كانت المصلحة الذاتية هي المحرك الأساس لموقف الجماعة من مختلف التطورات التي شهدتها مصـر في هذه المرحلة. فبدءاً من أحداث "الثورة" اتسم موقف "الإخوان" بالتناقض بداية من تأكيد عدم المشاركة في التظاهرات، مروراً باعتبار مشاركة بعض الشباب في التظاهرات مشاركة فردية، وصولاً إلى ادعاء التحريض على التظاهرات ودفع المواطنين لها، وفي أعقاب نجاح الثورة وإطاحة مبارك، وجدت الجماعة حرجاً كبيراً في مواصلة رفع شعارات "الحاكمية لله وتطبيق الشريعة"، فقررت الخروج من ذلك المأزق عبر طرح جديد يتمثل في إنشاء حزب مدني يستند إلى مرجعية إسلامية أطلقت عليه اسم "حزب الحرية والعدالة"، وخاضت به الانتخابات التي حملت الرئيس السابق محمد مرسي لسدة الحكم في مصر.
وخلال عام وجودهم في السلطة بين يونيو 2012 ويوليو 2013 ظهرت نيات الجماعة الحقيقة تجاه المجتمع ومؤسسات الدولة، إذ تعاظم حجم الصدامات وتوالت الأزمات التي تجلت مظاهرها في محاولة الإخوان إصدار قانون جديد لتنظيم القضاء وأزمة إقالة النائب العام وحصانة مجلس الشورى والجمعية التأسـيسـية لوضع الدستور. ووصل الأمر إلى حد التطاول والاعتداء على السلطة القضائية، والدعوة إلى التظاهر تحت شعار "تطهير القضاء"، مما دفع الشعب المصري للخروج على حكمهم، معتبرين أن شعاراتهم التي جلبتهم للحكم كانت تهدف إلى التلاعب بالمشاعر، وما هي إلا شعارات للحشد والتوظيف والتعبئة.
ويقول سونر جاغابتاي مدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، مستذكراً حالة وصولهم إلى السلطة في مصر عام 2012 وتولي الرئيس المنتمي إليهم محمد مرسي مقاليد الحكم، "حينها بدأت الجماعة حملة لفرض أيديولوجيتها المبنية على عدم المساواة على الشعب المصري. وتولى الإخوان السيطرة على وسائل الإعلام والمحاكم، وأشاروا إلى نياتهم المتعلقة بتنفيذ الشريعة الإسلامية. وأدى ذلك إلى قيام تظاهرات حاشدة في معظم المدن الرئيسة في البلاد، كذلك ثار المصريون ضد ما اعتبروه على نحو محق بأنه الاستبداد الإسلامي السياسي الآخذ في التنامي".
وبعد عام 2013 انزلقت الجماعة في أزمة تنظيمية نتيجة إطاحتها من السلطة، وهو ما ترتب عليه حدوث انقسامات داخلية بلغت ذروتها عام 2021، إذ انقسمت الجماعة إلى تيارين أساسيين ومجموعات صغيرة أخرى. ومع انتقال قيادة الجماعة للخارج، انكشف عدم لياقة نظامها الداخلي للوضع الجديد، وبدأت تعاني مأزقين، يتمثل الأول في ارتباط النزاع بين الفرق المختلفة بالخلاف حول صلاحيات المجلسين (الشورى المصري أو الشورى العام) في إسناد القيادة، أما الثاني، حيث تواجه الجماعة تنسيقاً أمنياً إقليمياً يحول دون تكاملها التنظيمي. وفي ظل هذه الأوضاع، استمر الخلاف حول ملء الفراغ التمثيلي للجماعة مشكلة دائمة، وفق ما كتب جمال عبد الجواد مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في دراسة له تحت عنوان "الإخوان والغرب: سقوط المراهنة على الإسلام الديمقراطي". وكان لافتاً باستمرار تناقض واختلاف لغة الجماعة في توجيه الرسائل المقدمة باللغة العربية والأخرى المقدمة بالإنجليزية، ففي حين حملت رسائل بالعربية تحريضاً على الاحتجاج والعنف كانت الرسائل بالإنجليزية تؤكد الديمقراطية والعمل السلمي، وذلك بعدما اعتمدت الجماعة "العنف" أسلوباً لـ"لاستعادة الشرعية" بعد إطاحتها من الحكم، معتمدة في ذلك على أدوات التعبئة الجماهيرية، وإطلاق العمل العنيف والمسلح، وتشويه رموز الدولة ومؤسساتها.