ملخص
يفتخر صاحب المشروع بتمكنه من تحويل هذا المكان السيئ، الذي "يبث الرعب بقلوب الناس، إلى مكان يصنع البهجة في قلوب رواده".
وتحكي السيدة نجوى التي جاءت من محافظة حمص لمشاهدة هذا المكان، بسبب ذكرى أليمة ترتبط به، إذ احتجز ولدها في المخفر "كان طالباً جامعياً، وخرج بتظاهرة تنديداً بحصار الغوطة بريف العاصمة، لقد أفرج عنه، وهاجر إلى خارج البلاد".
الدعوة إلى فنجان من القهوة لأي مواطن سوري من أجهزة المخابرات والشرطة في زمن الرئيس المخلوع بشار الأسد هي ليست في ظاهرها عاطفية، أو ودودة لدرجة الاطمئنان كما تبدو من الوهلة الأولى، لكنها في باطن الحال دعوة إلى استجواب يصل إلى حدود العنف، واستخدام قوة مفرطة، بوسائل التحقيق إن تطلب الأمر، ولهذا أطلق العامة المثل الشعبي عمن يدخل هذه المراكز "الداخل مفقود والخارج مولود".
ضرب من الخيال
وهو ضرب من الخيال تحويل مكان أمني مارس إرهابه على الناس جسدياً ونفسياً عقوداً من الزمن، إلى مقهى يقدم القهوة والنرجيلة والمرطبات، بعدما كان مجرد المرور من أمام هذا المقر المحاط بالحراسة انتهاكاً لقوانين الأمن ويعرض صاحبه للمساءلة.
هذا ما حدث بالفعل وسط العاصمة دمشق، إذ استفاق أهل المدينة على خبر غير عادي، وأعادهم لأوقات المفاجآت، التي بدأت بهرب الأسد قبل ما يقارب الأشهر التسعة، وطوى الدمشقيون صفحة سوداء في ما يعرف بـ"مخفر الحريقة" القريب من سوق الحميدية، مركز الشرطة صاحب السمعة الغارقة بالتنكيل في حق المحتجزين، وأول سوط رفع في وجه المتظاهرين مع بداية الحراك الشعبي، قد تحول اليوم إلى مقهى بعد أن أعيد لصاحبه.
أدوات التعذيب
أنهى أبو زكريا صاحب المقهى طلاء جدران متسخة ومحترقة، وهدم جدران الطابق الأرضي، بعد أن كنس كل مخلفات المخفر بكل ما يحتويه من أدوات التعذيب المعروفة جيداً لدى الشعب السوري على مدى عقود طويلة، ولم يكتف بذلك، بل نزع أبواب الزنازين.
لقد أقدم الشاب الأربعيني على مغامرة فيها كثير من الشجاعة، بحسب وصف من هم بجوار المقهى القريب من "ساحة الحريقة"، التي اشتهرت بهذا الاسم بعد حريق كبير نشب فيها عام 1929، نتيجة القصف الفرنسي على دمشق، مما أدى إلى دمار واسع في المكان، ويروي تاجر الألبسة أبو توفيق "لا بد من تعميم هذه التجربة، وإعادة المباني لأصحابها الحقيقيين، ويا حبذا تحويل المقار الأمنية الكثيرة إلى جامعات ومدارس علم ومعرفة أو مشاف".
صور صارت من الماضي
لقد تبدل المشهد كلياً، فالجدران السوداء العتيقة الممزوجة بصور "القائد المفدى"، نسبة إلى الرئيس الراحل حافظ الأسد، وابنيه بشار وباسل، وهم بالزي العسكري، التي كانت منتشرة في كل مكان، صارت في الماضي بعد تمزيقها وإحراقها مع سقوط نظام الأسد.
"لقد تخلصت من كل وسائل التعذيب وأعدت المكان لصورته الأولى"، هكذا يسرد خالد زكريا عرابي (أبو زكريا) صاحب المقهى تاريخ المكان الذي تعود ملكيته لمروان اللحام، وكان وقتها مصرفاً، لكن في زمن الوحدة (بين سوريا ومصر) دخل بالتأميم كغيره من المباني والعقارات، وتحول بعدها إلى مركز للشرطة. وروي عرابي مشاهدات، قبل أن يحول المكان من مقر يطلق فيه الناس آهات العذاب والألم إلى مكان يستمتع فيه رواده بالنغم والموسيقى وهم يحتسون فنجان قهوة، "كان المخفر حين وصلنا إليه عبارة عن فوضى عارمة، مؤلف من قبو تحت الأرض، وطابقين أحدهما أرضي، وطابق أول للعميد (رئيس المخفر)، أما القبو فهو مكان يمارس السجانون فيه شتى أنواع التعذيب، والطابق الأرضي يحتوي على مكاتب التحقيق، ومستودع أسلحة ونظارة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذكريات ودموع
يفتخر صاحب المشروع بتمكنه من تحويل هذا المكان السيئ، الذي "يبث الرعب بقلوب الناس، إلى مكان يصنع البهجة في قلوب رواده".
وتحكي السيدة نجوى التي جاءت من محافظة حمص لمشاهدة هذا المكان، بسبب ذكرى أليمة ترتبط به، إذ احتجز ولدها في المخفر "كان طالباً جامعياً، وخرج بتظاهرة تنديداً بحصار الغوطة بريف العاصمة، لقد أفرج عنه، وهاجر إلى خارج البلاد".
يكسر صمت المكان المطبق صوت الموسيقى والمعزوفات الطربية، في وقت يقدم المقهى لزبائنه الشغوفين بمشاهدة "المخفر القديم" مشروبات ساخنة كالقهوة والشاي، وعصائر البرتقال الطبيعي، وسواها.
وفي البناء المهجور روى أشخاص لـ"اندبندنت عربية" ما عانوه خلال احتجازهم فيه من عذابات، إذ انتزعت اعترافاتهم بالقوة تحت التعذيب، والإهانات. أحد الشبان قال "لقد دفعت مبلغاً مالياً هنا للإفراج عني بعد توقيفي ظلماً وبهتاناً، قضيت ثلاث ليال غاية في الصعوبة".
من الزوار أيضاً طبيبة أتت لتشاهد النظارة مكان التوقيف الاحتياطي قبل أن يحال الموقوف إلى القضاء، وروت ما تعرضت له من عذابات.
يتابع أبو زكريا "كثيرون من الناس أوقفوا بصورة تعسفية في هذا المخفر بالذات مع اندلاع أولى التظاهرات التي خرجت في سوريا ضد النظام تنادي بالحرية، هنا في شارع معاوية، لقد قمعوا بهذا المكان".
"سوق الحريق"
وكان البائعون ورواد "سوق الحريقة" قد تقاطروا إلى الساحة ذاتها يهتفون بالحرية بعد عراك بين أحد الباعة وشرطي مرور في الـ27 من فبراير (شباط) عام 2011، قبل اندلاع الحراك الشعبي والثورة السورية في منتصف مارس (آذار) من العام ذاته.
لم يتوقف الشاب محمد، أحد العاملين في المقهى، عن أحاديث وقصص عايشها منذ افتتاح المقهى حديثاً، وتحدث عن زوار المقهى "يأتون ويتحدثون كيف سجنوا، وكيف ضربوا، يلتقطون الصور التذكارية".
لقد استوقفه رجل كبير بالسن دخل إلى المقهى، إذ أخذ يحدق بهذا المكان وتتساقط دموع من عينيه، ليتبين أنه كان مسجوناً هنا وتعرض لكل أصناف الإذلال.