ملخص
تؤكد خدمة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام UNMAS أن العراق يسجل اليوم نحو 2733 كيلومتراً مربعاً من المناطق الملوثة المسجلة، مع تموضع مباشر في الزراعة (26 في المئة) والبنى التحتية (20 في المئة) والطرق (19 في المئة) والموارد المائية (22 في المئة)، أي في قلب أماكن حركة الناس وسبل عيشهم اليومية.
"أمسك أيدي أولادي عند العتبة، لا أتركهم خطوةً واحدة، في أبي الخصيب بالبصرة جنوب العراق، قرب مرقد زيد بن صوحان، رحل ثلاثة أطفال في لحظة واحدة، كانوا يلعبون، كرة وتراب وزقاق مفتوح، انفجر كل شيء، منذ ذلك اليوم أعيد حساب الطريق إلى المدرسة، وأقطع أنفاسي وأنا أسمع ضحكاتهم، يقولون إن المناطق تطهر، طيب، أين أمشي بهم؟ أين أضع أقدامنا؟".
يمشي إحسان وحده أولاً، يراقب الأرض التي انفجرت قبل فترة على ثلاثة صغار في حيه، يتفحص الحواف، يطالع الشقوق الصغيرة ويسمع الخطر تحت الجلد، يظن أن خطوةً واحدة قد تكفي لتغيير بقية العمر، يبعد أبناءه عن الأراضي المهجورة، عن الطرق الترابية والسواقي، لا يثق بفراغ بلا لافتة، لو أنها موجودة قد تنقذ طفلاً إذا لمحته يلعب.
بعد 40 سنة على الحرب العراقية- الإيرانية، لا تزال مخلفاتها تلحق العراقي أينما ذهب، أرض تعلن "ممسوحة"، ثم تعيد ذاكرة الحديد والفتيل عند أول مطر، في الجنوب عبء قديم من الذخائر العنقودية، وفي الشمال والغرب تلوث أحدث وطرقات تعد المفاجآت بالعشرات، العراق لا يزال محفوراً بالألغام، حقول تعطل الزراعة، طرق تهدد الانتقال، وممرات مدرسية لا تعد بالأمان، ثلاثة أطفال رحلوا في لحظة، ويبيت إحسان يعد الخطوات، واحدةً واحدة.
في الـ 15 من فبراير (شباط) 2025، انفجر لغم قرب مرقد زيد بن صوحان في منطقة كوت الفداغ التابعة لقضاء أبو الخصيب- البصرة بينما كان أطفال يلعبون كرة القدم، ثلاثة تلاميذ من مدرسة كوت الزين الابتدائية فارقوا الحياة على الفور، بعدها بشهرين فقط، تعرض طفلان لإصابات خطيرة إثر انفجار لغم أرضي في بادية حقل الصبة جنوب محافظة ذي قار، مما تسبب في إصابتهما بجروح بليغة في البطن والرأس، إضافة إلى بتر في الساقين لكل منهما، والقائمة تطول ولم تحسم هوية اللغمين رسمياً، لكن حوادث متزامنة في البصرة وغيرها نسبت إلى مخلفات حرب الثمانينيات، ما يرجح سلالة الخطر القديمة التي لا تزال تقطع الطرق على الأطفال قبل الكبار.
التطهير الذي لا يعفي من الموت
على رغم إعلانات "المسح/التطهير" المتكررة من قبل الدولة العراقية، يبقى صوت انفجار اللغم المفاجئ هو الجواب، تحذر الأمم المتحدة من أن الألغام ومخلفات الحرب لا تزال تفتك بالأطفال في العراق، خلال خمس سنوات سجل مقتل وإصابة 314 طفلاً، ما يجعل هذه المخلفات سبباً فعلياً وحقيقياً للموت العشوائي في الحياة اليومية، ويتضاعف الخطر مع غياب أو قلة إشارات التحذير والتنبيه في الطرق والحقول، فيمضي الناس بلا خرائط واضحة أو لافتات تنذر بما تحت التراب.
يقول إحسان الساعدي لـ"اندبندنت عربية" وهو يحدق شرقاً "هناك قرية جرف الملح، الناس تسميها قرية البتران، صارت تعرف بعدد سيقانها المفقودة أكثر من عدد نخيلها، عشرات من أهلها خسروا أطرافهم عبر السنين، أول الضحايا كانوا الرعاة الذاهبين إلى المراعي غير المعلمة، ثم لحق بهم شباب يلتقطون الخردة من بقايا المعارك، وأطفال تعثر أقدامهم بشيء لا يبدو لغماً حتى يوقظ القرية بأكملها، الناس يعيشون هنا لأن لا مكان آخر لهم، زراعة متقطعة وطرق ترابية، ولافتات قليلة لا تمسك بكل الخطر، الحرب القديمة لم تغادر، الحديد ما زال تحت التراب، والاحتمال قائم في كل خطوة".
البصرة في الصدارة
تؤكد مديرية شؤون الألغام العراقية التابعة لوزارة البيئة أن محافظة البصرة هي الأكثر تلوثاً بالألغام ومخلفات الحروب في العراق، كما تصف وحدة دعم تنفيذ اتفاقية الذخائر العنقودية البصرة بأنها من أشد المحافظات تلوثاً بالذخائر العنقودية في البلاد، بينما تبرز خدمة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام UNMAS أن العمل جار هناك على "التلوث الإرثي" المتبقي من حرب الثمانينيات، وهذا يتسق مع مراجعة الأعمال المتعلقة بالألغام (مشروع مستقل تديره المساعدات الشعبية النرويجية) التي تظهر تمركز 92 في المئة من تلوث الذخائر العنقودية في الجنوب العراقي وتحديداً محافظات البصرة ثم المثنى وذي قار في المركز الثالث.
وفي الصورة الأوسع، تؤكد خدمة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام UNMAS أن العراق يسجل اليوم نحو 2733 كيلومتراً مربعاً من المناطق الملوثة المسجلة، مع تموضع مباشر في الزراعة (26 في المئة) والبنى التحتية (20 في المئة) والطرق (19 في المئة) والموارد المائية (22 في المئة)، أي في قلب أماكن حركة الناس وسبل عيشهم اليومية.
كيف تعمل المنظمات؟
يقول حميد الصالحي وهو مدير التوعية والمسح غير التقني في منظمة "شاريتيه الإنسانية" إن قصة إحسان من أبي الخصيب ليست بعيدة عن يوميات فرقهم في نينوى، الخوف نفسه يتبدل فقط في الجغرافيا، ويشرح في حديثه مع "اندبندنت عربية" أن فرق المنظمة عملت بين 2021 وحتى يونيو (حزيران) 2025 في مخمور وسنجار وتلكيف والموصل وتلعفر، حيث أعادت فتح مساحات للناس بعد سنوات من الانقطاع، تطهير يدوي لقرابة 4 ملايين و700 ألف متر مربع، وإطلاق أرض بعد المسح بنحو مليون و523 ألف متر مربع، وتحييد 3453 عبوة ناسفة، إلى جانب التعامل مع 2650 ذخيرة غير منفجرة.
وفي الجانب الميكانيكي، يقول المتحدث إن فرق التجريف والكشط ساعدت في المرور الآمن عبر الردم والأنقاض، مع معالجة 115 عبوة ناسفة و8321 ذخيرة غير منفجرة، وتجريف يناهز 55 ألف متر مكعب، وإطلاق مساحات إضافية تقارب 207 آلاف متر مربع.
ويضيف الصالحي "نعمل كي تصل العائلة إلى المدرسة والعيادة والسوق من دون أن تحسب خطواتها، لكن الطريق طويل ويحتاج نفساً أطول"، موضحاً أن الأولويات تحدد مع الجهات المختصة حيث تتكدس الأخطار في الطرق الزراعية ومحيط القرى والأنقاض، وأن التوعية تسير مع المسح خطوة بخطوة لتقليل الحوادث، خصوصاً بين الأطفال وجامعي الخردة، ثم يصمت لحظة قبل أن يكمل "نستطيع أن نفتح أكثر مما فتحناه، الأرقام التي أمامنا تقول ذلك، لكننا نحتاج دعماً مستقراً حتى لا تتقدم الاكتشافات على وتيرة الإطلاق والتطهير".
مساحات جديدة ملوثة
العراق سجل رسمياً 34249 ضحية بين قتيل وجريح منذ 2003 حتى 2024 وفق وثيقة رفعتها الحكومة لاجتماعات معاهدة حظر الألغام في يونيو 2025، وبلغت الضحايا الجديدة في السنة السابقة 44 شخصاً، وسجل انخفاضاً من 56 ضحية في 2023 بحسب التقرير الوطنية، ولا توجد احصائية حتى الآن عن حوادث 2025.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب مديرية شؤون الألغام إن العراق أنجز قرابة 60 في المئة من ملف إزالة الألغام ومخلفات الحروب منذ عام 2003، موضحاً أن المساحات الملوثة في عموم البلاد تراجعت من أكثر من 6 آلاف كيلومتر مربع إلى نحو ألفي كيلومتر مربع حالياً، وتتراوح التقديرات بين 2050 و2080 كيلومتر مربع، وأضاف أن مشروع البتروكيماويات في الزبير/البصرة، البالغة مساحته نحو 4500 دونم والقريب من خط طريق التنمية، أنجز تحت إشراف الدائرة "من دون تكاليف مالية" على الجهة المشرفة.
لكن في 2024 حدد المسح، بحسب مراجعة الأعمال المتعلقة بالألغام Mine Action Review، 31 كيلومتراً مربعاً جديدة من تلوث الذخائر العنقودية غير المسجلة سابقاً، وهو أكثر من ضعف المساحة التي أفرج عنها عبر المسح والتطهير في العام نفسه، في وقت تراجعت القدرة التشغيلية بعد اضطرار المجلس الدنماركي للاجئين (DRC) إلى إيقاف عملياته بنهاية يوليو (تموز) 2024.
ويضيف الصالحي، أن العديد من الحملات انطلقت لإعادة الناس إلى بيوتهم بأمان عبر جلسات توعية ومسوحات غير تقنية ومد قدرات الفرق المحلية، بتمويل من وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية وبالشراكة مع منظمات متخصصة، خلال الفترة من الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 إلى الـ 31 من يوليو 2022، فيما توسع البرنامج لاحقاً ليشمل إزالة ذخائر وتوعية إضافية في المنطقة نفسها على المدة ذاتها وبالجهة المانحة ذاتها.
وفي الموصل ومحيطها، بدأ مشروع أكبر نهاية 2024 بتمويل من مكتب الأمم المتحدة لخدمة المشاريع UNOPS وبالتنسيق مع خدمة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام UNMAS حتى ديسمبر (كانون الأول) 2025، يدمج التوعية والمسح غير التقني والمسح التقني وأعمال الإزالة، مع فرق مختلطة تصل فيها مشاركة النساء إلى نحو 38 في المئة، لأن طريق المدرسة والسوق والعيادة لا تصبح صالحة للحياة بمعدات التطهير وحدها من دون تغيير سلوك المجتمع وفهمه للخطر، وفق ما قال الصالحي.
وذكر الصالحي "نستطيع أن نفتح أكثر مما فتحناه من طرق، المسح يكشف جيوباً جديدة كلما تقدمنا، والناس تريد طريقاً آمناً اليوم، ما نحتاجه هو استدامة تجعل الإطلاق والتطهير أسرع من سرعة اكتشاف الخطر".
وكان بيير لودهامر، المدير الأقدم لبرنامج العراق في خدمة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام UNMAS صرح قائلاً إن المساحة الملوثة تمتد عبر أكثر من 1500 منطقة داخل مدن البلاد، ويوضح أن تنظيم "داعش" زاد رقعة الخطر عبر عبوات مبتكرة مزروعة كألغام في 1522 منطقة موزعة على ست محافظات، منها 1178 منطقة موثقة بدليل مباشر يمكن رؤيته بالعين المجردة، و335 منطقة بدليل غير مباشر، على مساحة تقدر بنحو 522 كيلومتراً مربعاً منذ احتلال نينوى عام 2014.
وأضاف لودهامر أن العراق يعد ضمن أكثر خمس دول تلوثاً بالألغام ومخلفات الحروب عالمياً، مع صعوبة حصر العدد الدقيق للألغام وأنواع المخلفات، خصوصاً بعد سنوات سيطرة التنظيم، وتؤكد تقارير الأمم المتحدة أن مرحلة ما بعد دحر "داعش" أفرزت طبقة أحدث من التلوث في الشمال والغرب على هيئة أحزمة واسعة من العبوات المزروعة كألغام IED belts حول نينوى والموصل وعلى محاور الطرق الريفية، ما يبقي مسارات العودة والعمل والدراسة تحت تهديد يومي.
40 مليوناً لعمليات الألغام
ويتوزع تلوث العراق بالأخطار المتفجرة على أربع فئات رئيسية، ألغام مضادة للأفراد إرث الحدود من الثمانينيات، وذخائر عنقودية تتكدس خصوصاً في الجنوب، ومخلفات حربية غير منفجرة تظل كامنة في الحقول والطرقات والمنشآت، وعبوات معدلة مزروعة كألغام IEDs خلفتها معارك ما بعد "داعش" في الشمال والغرب.
يقول الناشط البيئي محمد ستار إن الخطر الأشيع في مناطق ما بعد النزاع هو العبوات المعدلة الممتدة على أطراف القرى والطرق الزراعية وبين الأنقاض، فيما تواصل الألغام المضادة للأفراد إرهاق الشريط الحدودي، وتبقى الذخائر العنقودية كثيفةً جنوباً.
ويبين ستار إن إقليم كردستان وحده سجل تاريخياً نحو 13.5 ألف ضحية، من ضمنهم مختصون بإزالة الألغام فيما تذكر تحديثات الأمم المتحدة أن العراق من بين الدول الخمسة الأكثر تلوثاً في العالم، مضيفاً أن "الحكومة خصصت 40 مليون دولار في الموازنة العامة لعمليات إزالة الألغام، نصف المبلغ لتطهير الذخائر العنقودية والنصف الآخر لإزالة الألغام الأرضية والمخلفات الحربية".
وتابع المتحدث "بموجب الاتفاقيات الدولية فإن السقف الزمني لإنهاء ملف الألغام في العراق هو نهاية عام 2028 في حال توافر الإمكانيات المالية والبشرية والاستقرار العام في البلاد"، مؤكداً أن عدد الألغام الأرضية المزروعة في العراق، تقدر بنحو 20 مليون لغم، وما بين 2.6 و6 ملايين قنبلة غير منفجرة.
وأوضح ستار "علينا أن نتخيل أن مع كل هذا الرعب الذي يعيشه الملايين، من تهديد أو إصابات، فإن لا تعويض مادياً ولا اهتمام حكومياً جدياً بالمتطلبات الصحية لضحايا الألغام ولا أحد يعلم عنهم شيئاً، ويتم التعامل مع حوادثهم وإصاباتهم على أنها إصابات مدنية فردية وغير معنية بحروب البلاد العبثية".
وكانت وزارة البيئة وتحديداً مديرية شؤون الألغام DMA قدمت طلباً رسمياً لتمديد المهلة القانونية لإزالة بقايا الذخائر العنقودية بموجب المادة 4 من اتفاقية الذخائر العنقودية، حتى الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) 2028، مع الإشارة إلى حاجة تشغيلية للوصول إلى نحو 34 فريق تطهير كي تسير الوتيرة المطلوبة، يحدث هذا كله، وسط تقديرات إنسانية تشير إلى أن نحو 8.5 مليون عراقي يعيشون داخل مناطق تتقاطع فيها هذه الأخطار، مع تفاوت في نوع التلوث من محافظة إلى أخرى.