ملخص
إذا كانت الضوابط السعودية قد أغلقت الباب أمام استغلال الأطفال محلياً، فإن النقاش العالمي حول ما يُعرف بـ"فرط المشاركة الأبوية" يكشف أبعاداً أوسع لهذه الظاهرة. ويعود المصطلح إلى عام 2010، حين صاغته الصحافية الأميركية ستيفاني روزنبلوم في صحيفة "نيويورك تايمز" لوصف الميل المتزايد لدى بعض الآباء إلى الإفراط في نشر صور ومقاطع عن أبنائهم على المنصات الرقمية.
عمّ السكون حسابات بعض مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي في السعودية أخيراً، وتوقفت الكاميرات عن ملاحقة الأطفال، بعدما أُغلق الباب أمام استغلال براءتهم في صناعة المحتوى اليومي، وذلك بعدما شددت هيئة تنظيم الإعلام ضوابط النشر على المنصات الرقمية، في خطوة تهدف إلى صون قيم المجتمع وحماية الذوق العام.
لكن هذا الهدوء لم يطل كثيراً، إذ سارعت بعض الأسماء المعروفة إلى البحث عن بدائل جديدة، فأطل الأزواج والأقارب بدلاً من الأطفال والعمالة المنزلية في المشاهد اليومية التي بدت أقرب إلى محاولات لملء الفراغ أكثر من كونها أفكاراً إبداعية.
وخلال التجول بين المنصات الاجتماعية يلاحظ المتابع أن بعض الحسابات قلصت محتواها اليومي بعد أن كانت تغرق المتابعين بسيل من مظاهر التفاخر وترف الأغنياء، أما بعض الفاشينستات اللواتي طالما اعتمدن على أجسادهن الممشوقة كمرتكز رئيسي لشهرتهن، فخفت بريقهن وتلاشت صورهن واحدة تلو الأخرى.
فيما اكتفى آخرون بمنشور يتيم طوال اليوم، فقط لإثبات الحضور وعدم الغياب، في مشهد يعكس حالة من الترقب والحذر بعد موجة الاستدعاءات التي طاولت عدداً من صنّاع المحتوى. وكان اللافت أن كثيراً من هؤلاء المشاهير بادروا بعد استدعائهم إلى نشر رسائل شكر للهيئة، مثنين على الخطوات التنظيمية الجديدة، ومؤكدين دعمهم للضوابط التي تهدف إلى حماية الذوق العام والحفاظ على القيم المجتمعية.
ضوابط المحتوى
وتأتي هذه التفاعلات في سياق الضوابط الجديدة التي وضعت خطوطاً حمراء واضحة، أبرزها منع تصوير الأطفال أو العمالة المنزلية واستخدامهم كجزء من المحتوى، واعتبار ذلك تجاوزاً لا ينسجم مع المسؤولية الإعلامية والأخلاقية.
كما نصّت على أن استخدام اللغة المبتذلة أو التباهي بالأموال والسيارات والممتلكات الشخصية يُعد مخالفة صريحة، إذ يُسيء إلى الذوق العام ويتعارض مع القيم الاجتماعية.
وشددت التعليمات على حظر أي محتوى يكشف خصوصيات الأسرة أو يعرض خلافاتها الداخلية، مؤكدة أن من يخالف ذلك سيتعرض لإجراءات نظامية. كذلك شملت قائمة المحظورات كل ما يتضمن تنمراً أو إساءة أو ازدراءً للأشخاص، إلى جانب أي تصوير للعائلات أو الأفراد في الأماكن الخاصة أو من دون إذنهم.
وتوسّعت الضوابط لتشمل أيضاً منع بث أي محتوى يتعارض مع الهوية الوطنية أو يسيء إلى القيم الاجتماعية والوطنية، أو يتضمن معلومات مضللة، أو رسائل ابتزاز، أو استغلالاً للأطفال بأي وسيلة.
أما في ما يتعلق بالمظهر العام، فأكدت الهيئة أن كل لباس يُظهر الجسد بطريقة مبتذلة يُعد مخالفاً، إضافة إلى أي لباس غير محتشم أو يتعارض مع القيم السائدة.
وكانت الهيئة قد ضبطت حالتي مخالفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تمثلت الأولى في قيام أحد المشاهير بنشر محتوى يتضمن التباهي بالأموال وتضمّن معلومات غير دقيقة، فيما تعلقت الثانية بشخص أعاد نشر المحتوى المخالف بذريعة التبليغ، وقد استدعت الهيئة المستخدمين المعنيين لاستكمال الإجراءات النظامية بحقهم.
المحتوى الهابط
وفي سياق ذلك، أكد وزير الإعلام السعودي سلمان الدوسري أن وعي المجتمع يشكّل خط الدفاع الأول والأكثر فاعلية ضد المحتوى الهابط، مشيراً إلى أن "أفضل عقوبة لمروّجي هذا النوع من المواد تتمثل في التجاهل ورفض متابعتهم كلياً، وهو ما يؤدي بطبيعته إلى اضمحلالها واختفائها".
جاء ذلك خلال المؤتمر الصحافي الحكومي أمس (الإثنين)، إذ أوضح الدوسري أن الضوابط الصادرة عن الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بشأن تنظيم المحتوى وضعت محددات واضحة لصنّاع المحتوى، بما يجنّبهم الوقوع في المخالفات الإعلامية.
وأشار إلى أن الهيئة عقدت ورش عمل مع المؤثرين لتعريفهم بهذه المحددات، مبيّناً أن مواجهة المخالفات تتطلب الحزم من جهة، والوعي المجتمعي من جهة أخرى، عبر الامتناع عن إعادة نشر أو التفاعل مع المحتوى السلبي.
وأوضح الوزير أن الضوابط الجديدة جاءت بعد رصد مقاطع تضمنت مخالفات إعلامية، إذ حظرت استخدام اللغة المبتذلة، والتباهي بالأموال والسيارات والممتلكات الشخصية أو الأنساب القبلية، إضافة إلى أي محتوى يثير العنصرية أو الطائفية أو يسيء إلى القيم الاجتماعية والوطنية.
وشدد الدوسري على أن "صيانة القيم والهوية المجتمعية تمثل منطلقاً وطنياً أصيلاً ومبدأً ثابتاً"، مشيراً إلى أن المحتوى الإيجابي يشكل الغالبية العظمى من المواد المتداولة في الفضاء الرقمي، بينما لا يتجاوز المحتوى السلبي "1 في المئة"، وهو ما يعكس طبيعة المجتمع السعودي الذي وصفه بأنه "شعب قيم وهوية".
فرط المشاركة الأبوية
وإذا كانت الضوابط السعودية قد أغلقت الباب أمام استغلال الأطفال محلياً، فإن النقاش العالمي حول ما يُعرف بـ"فرط المشاركة الأبوية" يكشف أبعاداً أوسع لهذه الظاهرة. ويعود المصطلح إلى عام 2010، حين صاغته الصحافية الأميركية ستيفاني روزنبلوم في صحيفة "نيويورك تايمز" لوصف الميل المتزايد لدى بعض الآباء إلى الإفراط في نشر صور ومقاطع عن أبنائهم على المنصات الرقمية.
ومنذ ذلك الحين، تحوّل المفهوم إلى موضوع جدل واسع بين الباحثين والمنظمات الحقوقية، نظراً لما يحمله من إشكاليات تتعلق بخصوصية الطفل، وحمايته من التنمر والاستغلال التجاري، فضلاً عن المخاوف من تحويل الطفولة إلى مادة استهلاكية مفتوحة للجمهور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي سياق متصل، أظهرت دراسة لمركز "بيو للأبحاث" أن مقاطع الفيديو التي يظهر فيها أطفال دون سن الثالثة عشرة تجذب مشاهدات تزيد بثلاثة أضعاف مقارنة بالمقاطع الخالية منهم، وهو ما فتح الباب أمام بروز جيل جديد من "المؤثرين الصغار"، بعضهم لم يتجاوز عامه الثاني بعد، ليصبحوا نجوماً يتابعهم الملايين عبر منصات التواصل.
وترى منظمة "هيومانيوم" الدولية، المتخصصة في حقوق الطفل، أن ظاهرة "المؤثرين الصغار" تحولت إلى صناعة ضخمة تدر أرباحاً هائلة، لكنها تثير جدلاً واسعاً حول استغلال الطفولة وتحويلها إلى سلعة رقمية.
وذكرت في تقرير أن الأطفال غالباً ما يُعاملون كأدوات تسويق، حيث تُعرض حياتهم اليومية وخصوصياتهم أمام جمهور واسع من دون موافقة واعية منهم. ومع غياب أطر قانونية واضحة، تبقى حقوقهم في اللعب والخصوصية والحماية عرضة للانتهاك.
وعلى رغم ذلك، بدأت بعض الدول بالتحرك، إذ أقرّت فرنسا قانوناً يُلزم العائلات بتخصيص نسبة من أرباح أطفالهم المؤثرين في حسابات محمية حتى بلوغهم سن الرشد، بينما ما زالت دول أخرى متأخرة في هذا المضمار.
وبحسب التقرير، فإن الضغوط المستمرة لإنتاج المحتوى قد تحرم الأطفال من طفولتهم الطبيعية وتعرّضهم للتنمر الرقمي أو اضطرابات نفسية طويلة الأمد، مما يعزز الحاجة إلى وضع معايير دولية تضمن أن تكون مشاركة الأطفال في الفضاء الرقمي قائمة على حماية حقوقهم لا على استغلال شهرتهم العابرة.
"الأم المثالية"
في جانب موازٍ، ارتبطت صورة "الأم المثالية" على منصات التواصل الاجتماعي بقدر من الاستعراض، إذ تحرص بعض الأمهات على الظهور أمام الكاميرا بوصفهن نماذج يُحتذى بها من خلال مشاهد منتقاة مع أطفالهن. غير أن هذه الصورة اللامعة تُخفي واقعاً مختلفاً، حيث تُقاس الحياة بمعايير زائفة لا تعكس حقيقة التحديات اليومية للأمومة.
وفي هذا الإطار، كشفت دراسة نُشرت في مجلة "سلوك الإنسان الحاسوبي"، وهي مجلة دولية متخصصة في تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل على السلوك البشري، بعنوان "كيف تؤثر الصور المثالية للأمومة في إنستغرام على الأمهات الجدد"، أن المحتوى الرقمي الذي يعرض الأمومة بصورة مثالية يولّد شعوراً بالضغط والقلق لدى الأمهات. وأوضحت أن هذه المواد تدفع الكثير منهن إلى مقارنة حياتهن بمعايير غير واقعية ترسمها الصور والفيديوهات، مما يزيد من شعورهن بالنقص وعدم الكفاية، لكونهن يواجهن نموذجاً مثالياً يصعب تحقيقه، بعيداً من حقيقة الأمومة بما تحمله من مشقة وصعوبات يومية.