ملخص
اعتمد ترمب في ولايته الثانية على شبكة من المبعوثين الخاصين المقرّبين من عالم الأعمال، متجاوزاً المؤسسة الدبلوماسية التقليدية، وبرز توم براك، مبعوثه إلى سوريا، كأكثرهم إثارة للجدل بتصريحات صادمة، أبرزها إنكار وجود "حلفاء" لأميركا في الشرق الأوسط، ومن ثم توجهنا بالسؤالإلى الخارجية الأميركية عما إذا كانت تصريحات براك تعكس سياسات واشنطن أم مجرد رأي شخصي؟ وهل يُضعف المبعوثون مكانة وزير الخارجية ويجعلون السياسة الخارجية رهينة شخصيات جدلية ومثيرة للمتاعب.
في مارس (آذار) 2020، وبينما كان يقف خلفه وزير الخارجية مايك بومبيو، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب مازحاً خلال حديثه للصحافيين في البيت الأبيض، عن وزارة الخارجية الأميركية "وزارة الدولة العميقة"، وهى عبارة تعكس كل الجد من جانب ترمب الذي دأب على الإشارة إلى قوة تعمل ضده داخل أجهزة الدولة، بما في ذلك بعض الدبلوماسيين.
انعكست قناعة ترمب أو عدم ثقته في الدبلوماسيين المهنيين لدى وزارة الخارجية الأميركية، من خلال اعتماده بشكل أساس في إدارته الثانية على سلسلة من المبعوثين الخاصين الذين انتقاهم من دائرته الخاصةوعلى الغالب من مجتمع الأعمال الذي ينتمي له الرئيس، وتتمثل مسؤولياتهم الأساسية في تنفيذ أية مهام يكلفهم بها مباشرة، وأبرزهم ستيف ويتكوف الذي يجمع بين مهمتي المبعوث الخاص للشرق الأوسط والمبعوث الخاص لمهمات السلام، إذ يقوم برحلات مكوكية بين روسيا وأوكرانيا والشرق الأوسط، وماوريسيو كلافير-كاروني المبعوث الخاص لأميركا اللاتينية، ومسعد بولس والد صهره الذي عينه أولا كبير مستشاريه للشؤون العربية والشرق الأوسط ثم مستشار أول لشؤون أفريقيا، بل حتى جاء تعيين السفير الأميركي لدى فرنسا من الدائرة نفسها، حين أولى مهمتها لرجل الأعمال اليهودي تشارلز كوشنر والد صهره جاريد كوشنر.
على رغم ذلك، يبقى مبعوث ترمب إلى سوريا، توم براك، الشخصية الأكثر إثارة للجدل، بتصريحات تراوح ما بين الاستفزازية أحياناً، والمهينة في بعض المواقف، وصولاً إلى مواقف منفّرة للحلفاء بل ناكرة لصفة التحالف أصلاً، فالرجل السبعيني لم يتكلف عناء تلطيف كلماته حين صرح في مقابلة تلفزيونية الأسبوع الماضي بأن المصالح الأميركية لا تتوافق مع أية دولة في الشرق الأوسط، معتبراً أن وصف أية دولة في المنطقة بـ"الحليف" خطأ، مضيفاً "أنا لا أثق بأي منها".
براك يعكس سياسة أميركا أولاً
تصريحات براك تثير كثيراً من التساؤلات لا سيما عما إذا كانت تعكس بالفعل سياسات الإدارة الأميركية الحالية نحو حلفائها في المنطقة أم أنه مجرد رأي شخصي.
"اندبندنت عربية" توجهت بالسؤال أولاً إلى وزارة الخارجية الأميركية التي بدورها ردت مؤكدة تصريحات المبعوث الأميركي قائلاً "مثلما قال السفير براك: بالتأكيد، مصالحنا في اتجاهات عدة، أليس كذلك؟ هناك معايير، هناك أمور نتوافق حولها، وأخرى لا نتوافق في شأنها، لذا لا يوجد توافق شامل، فهي ليست الولايات المتحدة الإسرائيلية، وليست الولايات المتحدة الخليجية، وليست الولايات المتحدة التركية، نحن نبحث عن توافق عندما تفرضه الضرورة والمصلحة، وعندها نتقارب، أما الثقة العمياء بأي طرف منهم، فأظن أن أحداً امتلكها يوماً،وهى بالكاد توجد حتى بين ولاياتنا نحن أنفسنا".
وأضافت الخارجية الأميركية في ردها على سؤالنا، قائلة "وعندما قدّم (براك) العلاقة مع إسرائيل قال: إسرائيل قصة مختلفة، إسرائيل حليف مهم، نحن ندعمها بمقدار 4 إلى 5 مليارات دولار سنوياً، لها مكانة خاصة في قلب أميركا، ونحن نعيش الآن مع حال الارتباك الناتجة مما يجري خلال هذه المرحلة الانتقالية، لذا الأمر معقد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) الماضي، تثير السياسة الخارجية لترمب نحو الحلفاء والأعداء كثيراً من الدهشة والانتقادات على حد سواء، كذلك فإن مبعوثيه كثيراً ما أثاروا الريبة والمتاعب لدى الحلفاء، فعندما أدلى براك بتصريحاته حول حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، جاء ذلك بعد بضعة أسابيع قليلة من اعتذاره عن استخدام كلمة "حيواني" أثناء توجيه الصحافيين اللبنانيين بالتزام الهدوء خلال مؤتمر صحافي في بيروت، والشهر الماضي استدعى وزير الخارجية الدنماركي أعلى دبلوماسي أميركي في البلاد للرد على تقارير أفادت بأن ثلاثة أشخاص في الأقل لهم صلة بترمب كانوا يقودون عملية تأثير سرية في غرينلاند، الإقليم الدنماركي الذي يرغب ترمب في ضمه إلى الولايات المتحدة.
ويقول الزميل لدى مركز الشرق الأوسط في واشنطن، براين كاتولس، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن الرئيس الأميركي وكبار مسؤولي إدارته غالباً ما يدلون بتصريحات كثيرة ومختلفة في وقت قصير إلى درجة أنهم يقللون من قيمة كلمات معينة في تصريحاتهم، لذا من غير الواضح حقاً مدى أهمية تلك التصريحات وعما إذا كانت تعني شيئاً للسياسة الأميركية، وأضاف "هل يتذكر أحد متى ادعى ترمب أنه سينهي حرب أوكرانيا في يوم واحد، أو كيف ستتولى أميركا السيطرة الكاملة على غزة بعد إخراج جميع الفلسطينيين؟ في الحقيقة، لا أحد يتذكر، بسبب ما نعانيه جميعاً من قصور الانتباه الجماعي، وبسبب التلاعب المستمر بالحقائق من قبل هذه الإدارة بالتحديد".
مثير للمشكلات
وفي تعليق سابق على تصريحات براك التي انتقد فيها سياسة إسرائيل تجاه "حزب الله" في لبنان، قال الزميل لدى مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات حسين عبدالحسين، إن أسلوب توم براك في الدبلوماسية يخلق المشكلات بدلاً من حلها، وانتقد السلطة الواسعة دون محاسبة التي يحظى بها المبعوث الأميركي، قائلاً إنه يخاطر بتصعيد التوترات ما دام يتدخل في مسائل تتجاوز نطاق صلاحياته، فبراك بعد كل شيء هو سفير أميركا لدى تركيا ومبعوثها إلى سوريا، ولا تشمل صفة عمله لبنان أو العلاقات اللبنانية – الإسرائيلية، ومع ذلك يتنقل بين أنقرة وبيروت محاولاً حل النزاع بين بيروت وتل أبيب.
وأضاف عبدالحسين أن نهج براك يشبه دبلوماسية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما المعيبة، الذي غالباً ما مدح خصوماً مثل إيران و"حزب الله" بينما انتقد حلفاء مثل إسرائيل، وقد فشلت دبلوماسية أوباما فشلاً ذريعاً، وارتكبت أخطاء غير مبررة وخلقت مشكلات يمكن تجنبها نتيجة نقص الخبرة الإقليمية.
المشادات الأخيرة لمبعوثي ترمب لقيت صدى في واشنطن بسبب خطرها في زيادة التوترات بين الحلفاء الغربيين، بينما تتنافس الولايات المتحدة والصين على التفوق الاقتصادي، ومع ذلك دافع البيت الأبيض عن مبعوثيه، إذ رفضت المتحدثة باسم البيت الأبيض آنا كيلي، فكرة أن المشكلات الدبلوماسية الأخيرة قد أضرت بمكانة ترمب العالمية أو قللت ثقته بمبعوثيه.
وقالت كيلي في تعليقات أواخر الشهر الماضي "لقد أعاد الرئيس ترمب مكانة أميركا على المسرح العالمي، وإنجازاته في السياسة الخارجية تتحدث عن نفسها"، وأضافت مستشهدة بصفقات ترمب التجارية، وضربه المنشآت النووية الإيرانية، وإطلاق سراح الأميركيين المحتجزين في دول أخرى كمثال، مشددة "لديه ثقة كاملة بفريقه بأكمله لدفع أجندة السياسة الخارجية لأميركا أولاً".
مهام خاصة
وعلى رغم أن المبعوثين الخاصين لا يمكنهم أن يحلوا بديلاً عن السلك الدبلوماسي الاحترافي، فإنهم قد يكونون إضافة قيمة، لا سيما في أوقات الأزمات،وتعيين مبعوثين خاصين من خارج المؤسسة الدبلوماسية أمر ليس طارئاً أو مستحدثاً على البيت الأبيض، فالعادة الأميركية في الحزبين الديمقراطي والجمهوري هي تولي الأصدقاء والمتبرعين بالانتخابات لمناصب مهمة بغض النظر عن خبرتهم الدبلوماسية، لكن ترمب وسع هذا النهج ليشمل مجالات أخرى في إدارته.
وبحسب السياسي والدبلوماسي الأميركي السابق فيليب كريستينسون، فإن هناك غرضاً مشروعاً لهؤلاء المبعوثين، ففي الماضي تم استخدامهم في مهام قصيرة الأجل لدعم الدبلوماسية الأميركية، كما حدث عندما أُرسل جيمي كارتر وسام نون وكولن باول إلى هايتي في منتصف التسعينيات، أو عندما سافر روبرت جيه دول إلى كوسوفو عام 1999للمساعدة في إحلال السلام في تلك المنطقة، كما يُستخدم المبعوثون غير المدفوعي الأجر لتمثيل الرئيس في حفلات الزفاف والجنازات وحفلات التنصيب والتتويج وغيرها من المناسبات مثل المؤتمرات.
ومع ذلك، انتقد كريستينسون في مقاله المنشور بصحيفة "واشنطن بوست" عام 1999، الاعتماد المفرط من قبل الرئيس الأميركي بيل كلينتون آنذاك، على المبعوثين الخاصين، بخاصة ممن ينتمون لمجتمع الأعمال، مشيراً إلى أنه لم تعتمد أية إدارة حديثة أخرى على هؤلاء المبعوثين إلى هذا الحد في عملياتها الدبلوماسية الرئيسة، في هايتي وأيرلندا الشمالية والبلقان، وقال إن هؤلاء المبعوثين الخاصين هم صانعو سياسات أكثر أهمية من معظم السفراء أو مساعدي وزراء الخارجية، ولكن من خلال تعيينهم في مناصب غير مدفوعة الأجر، تتجنب الإدارة تدقيق تضارب المصالح والإفصاح المالي وموافقة مجلس الشيوخ، والمتطلبات القانونية الأخرى التي تنطبق على الدبلوماسيين الكبار.
وعلى النقيض، ألغى جورج دبليو بوش نصف المناصب المسندة للمبعوثين الخاصين، بما في ذلك تلك المتعلقة بالسلام في الشرق الأوسط والتصديق على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، وخلال إدارته الأولى، التزم بوش إلى حد كبير الدبلوماسية البيروقراطية عبر وزارة الخارجية، وباستثناء بعض المهام البارزة، مثل تعيين وزير الخزانة السابق جيمس بيكر للتعامل مع ديون حرب العراق، والسيناتور السابق والسفير اللاحق لدى الأمم المتحدة جون دانفورث للمساعدة في إحلال السلام في السودان، فقد ابتعد البيت الأبيض عموماً عن الوسطاء الدبلوماسيين والممثلين الخاصين.
ويقول مدير برنامج القضايا العالمية في معهد لوي للسياسات الدولية في سيدني مايكل فوليلوف، إن هذا النهج كان متسقاً مع وسائل وأهداف السياسة الخارجية لبوش، فقد رأت إدارته أن نشر أشخاص من خارج الجهاز الحكومي طريقة غير مناسبة لتنفيذ السياسة الخارجية، فهذا ليس أسلوب حكم الناضجين.
تراجع روبيو عن المشهد
وعلى رغم تأكيده أهمية دور المبعوثين الخاصين بخاصة في أوقات الأزمات، يؤكد الحاجة إلى التعامل معهم بحذر، فإضافة إلى ضرورة اختيار أشخاص ذوي خبرة وكفاءة مناسبة في الدبلوماسية أو السياسة، فإن فوليلوف الذي عمل مستشاراً سابقاً لرئيس وزراء أستراليا، يقول إن كثرتهم في جولات دبلوماسية حول العالم تُحرج وزير الخارجية وتُظهر ضعف الإدارة.
وخلال الأشهر التسعة الماضية بدا دور وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو متراجعاً في المشهد الدولي لصالح ويتكوف، الذي توسعت صلاحياته ليشمل أكثر من دوره الرسمي كمبعوث خاص إلى الشرق الأوسط، أدى ويتكوف دوراً رئيساً في بعض أبرز نجاحات ترمب في السياسة الخارجية، مثل إطلاق سراح الرهائن في إسرائيل ووقف إطلاق النار في غزة فبراير (شباط) الماضي، وقيادته المحادثات الخاصة بغزة، كذلك أصبح وسيطاً رئيساً في محادثات إنهاء الحرب في أوكرانيا والتقى بوتين مراراً، وفي وقت سابق، قال شخص مطلع لشبكة "سي أن أن" الأميركية، إن ويتكوف "يتصرف وكأنه وزير الخارجية، فهو يتمتع بثقة ترمب التامة"، من جهته، انكب روبيو على مهامه من خلال زيارات إلى أميركا الوسطى لمناقشة قضية الهجرة، والشرق الأوسط وأوروبا وكندا لمناقشة الحروب في غزة وأوكرانيا، والالتقاء مع شركاء مجموعة السبع.
ويقول براين كاتوليس في حديثه إلينا، إنه ليس واضحاً ما إذا كان أي من هؤلاء المبعوثين يطغى على روبيو، الذي يشغل منصبي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية في الوقت نفسه، لأن الحقيقة البسيطة هي أن الرئيس ترمب يطغى عليهم جميعاً، ولا يهم كثيراً ما يقولونه أو يفكرون فيه، ويضيف "المؤهل الأساس للحصول على تعيين رفيع في الإدارة الثانية لترمب هو الولاء لرؤية ترمب للعالم، مهما كانت هذه الرؤية متغيرة كما نرى في تصريحاته الأخيرة حول حرب أوكرانيا".
ويشير زميل معهد الشرق الأوسط أن السمات المميزة للمبعوثين والمسؤولين الكبار في الإدارة الثانية لترمب هي أنهم "مثل الحرباء مستعدون لتغيير شكلهم ليتوافق مع أي جدول أعمال يحدده ترمب، وحتى لو حاولوا العمل بصورة مستقلة في قضية معينة عندما لا يولي ترمب اهتماماً، فإنهم في النهاية يفتقرون جميعاً إلى شجاعة الوقوف في وجه رئيسهم عندما يختلفون معه، بهذه الطريقة، يعمل كبار مسؤولي السياسة الخارجية في إدارة ترمب بطريقة قد تبدو مألوفة بصورة مريبة لدى الملوك والديكتاتوريين العرب الذين يعرفهم كثير من الناس في الشرق الأوسط معرفة جيدة".