Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"رقمنة" الفلاحة الجزائرية بين طموحات التنمية وعقبات التنفيذ

إنشاء سجل وطني وبطاقات إلكترونية للمزارعين وإدراج تقنيات جيو-فضائية لرصد الأراضي وتحديد صلاحيتها

تراهن الجزائر على أن تحدث الرقمنة قفزة نوعية في الفلاحة تجعلها أكثر شفافية وفاعلية (مواقع التواصل)

ملخص

البعد التقني لرقمنة قطاع الفلاحة الجزائرية لم يقتصر على السجل الرقمي، إذ تم إدراج تقنيات جيو-فضائية لرصد الأراضي الزراعية وتحديد صلاحيتها، إضافة إلى صور فضائية وخرائط رقمية لمتابعة المساحات الفلاحية والموارد المائية. هذه المقاربة تبدو واعدة، لكنها تثير بدورها تساؤلات حول قدرة المؤسسات على صيانة هذه الأنظمة، وضمان ديمومتها في ظل محدودية الكفاءات التقنية في بعض المناطق.

تضع الجزائر رقمنة القطاع الفلاحي في قلب استراتيجيتها لتحقيق الأمن الغذائي وضمان استدامة التنمية الاقتصادية، إدراكاً منها أن الزراعة لم تعد تعتمد فقط على وسائل تقليدية، بل باتت في أمس الحاجة إلى أدوات رقمية حديثة قادرة على توفير بيانات دقيقة، وتسريع وتيرة اتخاذ القرار، وترشيد استغلال الموارد.

وتراهن الجزائر على أن تحدث الرقمنة قفزة نوعية في الفلاحة، تجعلها أكثر شفافية وفاعلية، وتفتح الطريق أمام تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليص التبعية للأسواق الخارجية، لكن نجاح هذا الرهان يبقى مرهوناً بسرعة التنفيذ، وحسن التنسيق بين المؤسسات، والقدرة على تذليل العقبات التنظيمية والتقنية.

أرقام رسمية

يعد قطاع الفلاحة قطاعاً رئيساً في الجزائر التي تحتل منطقة جغرافية مساحتها تفوق 2.38 مليون كيلومتر مربع، وتتميز بتنوع طبيعي يتجلى في تغير وجوه المناطق على امتداد التدرج الشمالي-الجنوبي ويحدد ثلاث مناطق طبيعية كبيرة مفصولة بسلسلتي جبال مهمتين، وهي جبال الأطلس التلي في الشمال والأطلس الصحراوي في الجنوب.

وتبلغ المساحة الزراعية الإجمالية في الجزائر 48.1 مليون هكتار (0.481 مليون كيلومتر مربع)، أما مساحة الأراضي الصالحة للزراعة فتبلغ 8.6 مليون هكتار (0.086 مليون كيلومتر مربع)، منها 1.47 مليون هكتار (0.0147 مليون كيلومتر مربع) مسقية، وتبلغ مساحة الغابات 4.1 مليون هكتار (0.041 مليون كيلومتر مربع).

وتعد الفلاحة عموداً أساساً في الاقتصاد بسبب مساهمته في التوظيف والناتج المحلي الإجمالي، فهو يوظف نحو 2.6 مليون شخص كعمال زراعيين، والذين يمثلون أكثر من 74 في المئة من اليد العاملة الريفية و24 في المئة من القوى العاملة الوطنية.

وعلاوة على ذلك يضمن الأمن الغذائي للبلاد من خلال تغطية أكثر من 74 في المئة من الحاجات الوطنية من المنتجات الفلاحية.

وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 قال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ50 لتأسيس الاتحاد الوطني للفلاحين الجزائريين، إن قيمة الإنتاج الفلاحي في البلاد بلغت سنة 2024 نحو 37 مليار دولار.

ويمثل هذا الرقم استمراراً في مسار النمو الذي يشهده القطاع، إذ ارتفعت قيمة الإنتاج من 23 مليار دولار في 2019 إلى 25 مليار دولار في 2020، قبل أن تواصل منحاها التصاعدي خلال السنوات الأخيرة.

 

 

كما ارتفعت مساهمة الفلاحة في الناتج المحلي الخام من 12 في المئة عام 2019 إلى 15 في المئة حالياً، مع توقعات بمزيد من الارتفاع خلال المواسم المقبلة، بخاصة أن قانون المالية لسنة 2025 يتوقع نمواً في القطاع بنسبة 4.4 في المئة.

وتعكس هذه المؤشرات حجم الاهتمام الذي أولته الحكومة للفلاحة باعتبارها ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني، ففي بيان السياسة العامة للحكومة لعام 2023، جرى الإعلان عن رفع التجميد عن 74 مشروعاً استثمارياً بقيمة تقارب 91 مليار دينار (700 مليون دولار)، إلى جانب الاستثمارات الجديدة التي تمكنت من تجاوز القيود البيروقراطية.

اهتمام حكومي

وخلال لقائه الإعلامي الدوري، الذي بث في الـ26 من سبتمبر (أيلول) الجاري، عبر القنوات التلفزيونية والإذاعية الجزائرية، أكد الرئيس تبون أن الجزائر تمتلك الإمكانات الكفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي في شعب استراتيجية عدة، مشدداً على أن القطاع الفلاحي لم يعد ينظر إليه كقطاع ذي بعد اجتماعي فحسب، بل كرافعة اقتصادية حقيقية قادرة على تلبية حاجات البلاد والتوجه نحو التصدير.

وأوضح الرئيس أن الجزائر تتقدم بخطوات "ثابتة وعملاق" نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي، وعلى رأسه القمح، بفضل مشاريع وطنية وأخرى مبتكرة بالتعاون مع شركاء من دول بينها إيطاليا وقطر والسعودية، مؤكداً التزامه ببلوغ الاكتفاء الذاتي في القمح الصلب، مشيراً إلى أن النتائج الأولية لموسم الحصاد والدرس تبشر بتحقيق هذا الهدف، على رغم تسجيل بعض التجاوزات من طرف فلاحين لم يلتزموا تسليم كامل منتجهم للدولة.

 

 

وكشف تبون عن أنه وجه تعليمات لوزير الفلاحة لإجراء مسح شامل يضمن مراقبة مسار القمح ومنع تسويقه عبر قنوات موازية، لافتاً إلى أن الإعلان عن الحصيلة النهائية لموسم الحصاد يتطلب وقتاً إضافياً بسبب المساحات الشاسعة المزروعة وتوزعها عبر مختلف المناطق.

وفي سياق آخر تطرق الرئيس إلى مشروع إنتاج مسحوق الحليب بالشراكة مع قطر، الذي يرتقب استكمال أشغاله بحلول نهاية 2028، معتبراً أنه سيسهم في تلبية الطلب الوطني الكبير على الحليب وتقليص فاتورة الاستيراد، كما أبرز الفوائد الاقتصادية والاجتماعية للمشروع، سواء عبر خلق مناصب عمل جديدة أو دعم تربية الأبقار، مع إمكان إطلاق مشاريع مماثلة مستقبلاً بالتعاون مع شركاء من إيطاليا والسعودية.

وشدد تبون على ضرورة الانتهاء من عملية تعميم الرقمنة التي حددت آجالها مع نهاية سنة 2025، منبهاً إلى أن تعميم استعمالها بات ضرورة لا بد منها، رافضاً كل المبررات المقدمة لتأخير الاندماج في المسعى، مشيراً إلى أنه سيقر إجراءات جذرية في حال عدم تجسيد ذلك. ووصف من يتخوفون من العمل بالرقمنة بـ"الخفافيش، التي تحب العمل في الظلام".

هيكلة عميقة

كان قرار الرئاسة الجزائرية تعيين ياسين المهدي وليد (32 سنة) وزيراً للفلاحة والتنمية الريفية، في التغيير الحكومي الماضي، أثار جدلاً واسعاً بمواقع التواصل الاجتماعي، كونه قادماً من قطاع تقني بحت (اقتصاد المعرفة والشركات الناشئة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة)، وتساءل كثر عن سبب توليته قطاع الفلاحة.

وسرعان ما تبددت علامات الاستفهام حول تولي ياسين وليد حقيبة وزارة الفلاحة، إذ قال مصطفى وانجلي في منشور على "فيسبوك" إنه "للمرة الأولى، يجد هذا الوزير نفسه على رأس واحدة من أصعب وأهم الوزارات في الجزائر، فهي وزارة لم تعرف إصلاحاً حقيقياً منذ الثورة الزراعية، إذ ظلت بنيتها الإدارية والتنظيمية شبه جامدة".

وأضاف وانجلي أن "مهمة الوزير اليوم لا تقتصر على التسيير اليومي، بل تتطلب شجاعة في إعادة هيكلة عميقة للقطاع، وقطعاً مع العقليات الريعية القديمة، بما يفتح الباب أمام جيل جديد من الكفاءات والخبرات القادرة على إحداث نقلة نوعية في الفلاحة الجزائرية".

وخرج وزير الفلاحة والتنمية الريفية والصيد البحري ياسين المهدي وليد في اجتماعات مع إطارات الوزارة على المستويين المركزي والمحلي لشرح مهمته المستعجلة لعصرنة القطاع.

ولدى ترؤسه اجتماعاً لإطارات القطاع خصص لحملة الحرث والبذر، قال إن الندوة الوطنية للقطاع المرتقبة أواخر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ستسمح بالخروج بتصور جديد لمستقبل الفلاحة الجزائرية، مع دراسة وتقييم مدى نجاعة البرامج المتبعة إلى غاية اليوم، وإعادة النظر في الآليات المتخذة في القطاع الفلاحي منذ سنوات عدة، ودراسة مدى نجاعتها مع تقديم الأرقام والإحصاءات الحقيقية المسجلة على المستوى المحلي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي تطرقه للعصرنة باعتبارها "أهم تحدٍّ" في المجال الفلاحي في الوقت الراهن، أكد أمام مسؤولي القطاع على وجود "عمل كبير" سيتم تنفيذه في مجال البيانات والإحصاءات، بما يسمح "مستقبلاً باتخاذ القرارات الصحيحة حول مختلف المشاريع والبرامج".

وأعلن وليد عن الشروع خلال الأسابيع القادمة في وضع نظام معلوماتي وطني لقطاع الفلاحة سيعمل على انتقال سلس للمعلومات من القاعدة إلى الوزارة مما سيمكن هيئات وهياكل القطاع من التحقق من مختلف البيانات القطاعية.

ونشر الوزير إعلاناً على حسابه الخاص بـ"فيسبوك" موجهاً للشباب الموهوب الذي يمتلك قدرات في الرقمنة والمالية للالتحاق بالعمل بالوزارة في مشروع عصرنة القطاع، وهو ما اعتبره مراقبون أنه رسالة واضحة لتكريس قطيعة مع أساليب التسيير الماضية داخل الوزارة ووضع نظام عمل جديد قوامه كفاءات شابة.

تحول رقمي

حول الموضوع يقول المتخصص الجزائري في الفلاحة والموارد المائية كريم حسن إن الرقمنة الزراعية في الجزائر تشهد اهتماماً متزايداً كركيزة أساسية لتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي والتنمية المستدامة للقطاع الفلاحي.

وأوضح لـ"اندبندنت عربية" أن الجزائر تستهدف تحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 75 في المئة من الغذاء بحلول 2027، مع التركيز على إنتاج القمح والشعير والذرة بحجم زراعة يصل إلى 2.3 مليون هكتار (0.023 مليون كيلومتر مربع) من الحبوب للموسم المقبل، بزيادة على 1.8 مليون هكتار (0.018 مليون كيلومتر مربع) في 2024.

وأضاف حسن، وهو رئيس المنظمة الوطنية للفلاحة والأمن الغذائي، أن الإحصاءات تشير إلى أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة تبلغ نحو 8.6 مليون هكتار (0.086 مليون كيلومتر مربع)، منها 1.47 مليون هكتار (0.0147 مليون كيلومتر مربع) مروية من إجمالي مساحة 48.1 مليون هكتار (0.481 مليون كيلومتر مربع)، ويدعم التحول الرقمي تحسين استخدام هذه الأراضي بصورة أكثر فاعلية من خلال نظم المعلومات الجغرافية (GIS) والاستشعار من بعد، مما يسهم في تحديد المناطق الأفضل للزراعة وترشيد استعمال الموارد. وأشار أنه من المقدر أن تطبيق التكنولوجيا الرقمية مثل الاستشعار من بعد وأنظمة الري الذكية يمكن أن يزيد من مردودية المحاصيل بنسبة 20 إلى 30 في المئة، ويقلل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 40 في المئة، مما يخفف العبء عن الموارد الطبيعية ويعزز الاستدامة.

 

 

وأبرز المتحدث ضرورة رد الاعتبار للمهندسين الزراعيين الذين يعتبرون الركيزة الأساسية في تطبيق الرقمنة والإحصاء الزراعي، من خلال إنشاء العمادة الوطنية للمهندسين الزراعيين لتحسين تنظيم المهنة وتطوير مهاراتهم، إضافة إلى تأسيس المجلس الوطني الأعلى للفلاحة لتنسيق السياسات الزراعية.

واقترح المتخصص إنشاء معاهد زراعية متخصصة في جميع مناطق الجزائر لتأهيل كوادر تقنية متطورة تدعم الباحثين والفلاحين، وبهذه الخطوات، يسهم التحول الرقمي والإحصاء الزراعي في تعزيز مقومات القطاع الفلاحي الوطني، ورفع كفاءته لتحقيق الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الواردات مع الاستدامة البيئية والتنموية.

ورقة طريق

في هذا السياق شرعت وزارة الفلاحة بالتعاون مع المحافظة السامية للرقمنة، في تنفيذ ورقة طريق تستهدف ربط مختلف المنصات الرقمية بالشبكة المعلوماتية الوطنية. الهدف المعلن هو الانتقال من التقديرات الظنية إلى المعطيات الميدانية في وقتها الحقيقي، مما يفترض أن ينعكس على دقة التخطيط وفاعلية البرامج.

من بين أهم الإنجازات المسجلة الانتهاء من رقمنة السجل الوطني الفلاحي على مستوى جميع الولايات وإصدار بطاقات رقمية للفلاحين، هذه الأداة الجديدة تقدم على أنها حل جذري لمعضلة غياب الإحصاءات الدقيقة، غير أن نجاحها يتوقف على تحديث مستمر للبيانات ومدى التزام الفلاحين بالتعامل مع المنظومة الرقمية.

البعد التقني للخطة لم يقتصر على السجل الرقمي، إذ تم إدراج تقنيات جيو-فضائية لرصد الأراضي الزراعية وتحديد صلاحيتها، إضافة إلى صور فضائية وخرائط رقمية لمتابعة المساحات الفلاحية والموارد المائية. هذه المقاربة تبدو واعدة، لكنها تثير بدورها تساؤلات حول قدرة المؤسسات على صيانة هذه الأنظمة، وضمان ديمومتها في ظل محدودية الكفاءات التقنية في بعض المناطق.

ولأن الرقمنة ليست مجرد أجهزة ومنصات، فقد أوصت الملتقيات الوطنية للفلاحة بمرافقة الفلاحين عبر برامج تكوين، بخاصة الشباب، إلى جانب دعم البحث العلمي والتوجيه الفلاحي، غير أن التحدي الأكبر يظل في كيفية خلق انسجام حقيقي بين العنصر البشري والتكنولوجيا، بعيداً من الاكتفاء بالحلول التقنية التي قد تبقى شكلية من دون مخرجات ملموسة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير