لا تشبه شجرة الأرز غيرها من الأشجار، لما لها من رمزية وطنية للبنان ولتميزها بالصلابة والصمود، والقدرة على العيش آلاف السنوات، إذ تعتبر شجرة الأرز معمرة، مما يفسر كونها تتوسط العلم اللبناني لتعكس الصمود في تاريخ وثقافة الوطن. وأكثر بعد، اكتسبت شجرة الأرز مكانة روحية وثقافية في الأديان. أما غابة الأرز في بشري في شمال لبنان، فأشهر غابات الأرز في البلاد وأكبرها، وهي إحدى أقدم غابات الأرز في العالم، وتكثر المساعي للحفاظ عليها وصونها. ونظراً إلى تميزها وأهميتها التاريخية والطبيعية، أدرجتها "يونيسكو" في قائمة التراث العالمي للإنسانية، خصوصاً أنها تضم أشجاراً معمرة يصل عمر بعضها إلى آلاف السنوات، لذلك مع مرور السنوات تحولت إلى معلم ثقافي وطبيعي استثنائي.
رمزية وتاريخ عريق
تضم غابة أرز بشري قرابة 427 شجرة أرز معمرة يراوح عمرها بين 1000 و1500 سنة، إضافة إلى بقية أشجار الأرز الموجودة فيها، ويحيط بها سور حجري قديم بني عام 1870 لحمايتها. لهذه الغابة أهمية تاريخية، بخاصة لكونها الغابة الأساسية التي قطع الفينيقيون الأخشاب منها لبناء سفنهم ومعابدهم وليتاجروا بها مع المصريين والآشوريين، ومنها تم بناء هيكل سليمان أيضاً. اليوم تعتبر غابة الأرز في بشري محمية طبيعية لإنقاذ الأرز اللبناني، وقد تكون مبادرة "غابة العرابين" من المبادرات اللافتة التي أقيمت لحماية شجر الأرز. وقد انطلق المشروع الهادف إلى الحفاظ على غابة الأرز بأشجارها كافة عام 1985، وكانت الغابة قد تحولت آنذاك إلى ما يشبه "المحطبة" (أي لتقطيع الحطب)، وتزايد الإهمال فيها مع ارتفاع أعداد زائريها وزيادة المهرجانات التي تقام فيها، وفق ما أوضح نائب رئيس لجنة أصدقاء غابة الأرز جوزيف فنيانوس رحمة، فأطلقت المبادرة مجموعة من الشباب في منطقة بشري بعد تأسيس لجنة أصدقاء غابة الأرز. وبإذن من رئيس الجمهورية وقائد الجيش، كان من الممكن إقفال غابة الأرز أمام الزوار لمدة خمس سنوات لإزالة الأغصان اليابسة والحطب، ومعالجة أشجار الأرز بالأدوية بإشراف خبراء من اليابان وفرنسا وغيرهم من الخبراء الدوليين، إضافة إلى اختصاصيين في مجال الهندسة الزراعية من لبنان. وأضاف فنيانوس رحمة "خلال خمس سنوات، كان من الممكن معالجة الغابة بالكامل، وإقامة ممرات على طول 10 آلاف متر مع استراحات للزوار، وأصبح لدينا برنامج ثابت لإعادة تأهيل الغابة والعناية بأشجارها بالغابة كل خمس سنوات، حفاظاً على صحتها، بما أنها مفتوحة للزوار وعرضة للأضرار".
تحول عمره عقود
التحول الأكبر الذي حصل من خلال مبادرة لجنة أصدقاء غابة الأرز كان عام 1997، إذ تبين لأعضائها أن الغابة محاطة بصحراء تؤثر فيها سلباً، وهي عرضة للتلوث والأذى الناتج من الشاحنات المارة من مناطق محيطة، فأقيم مشروع لتحويل الطريق بالقرب من الغابة ومنع مرور الشاحنات على مقربة منها، وتجنب الأذى الناتج منها، كان الهدف آنذاك حماية الغابة من التلوث. في الوقت نفسه، رأى النور مشروع زراعة أشجار الأرز في غابة أخرى حول غابة أرز بشري الرئيسة. وفي عام 2000 بدأ العمل على إقامة "غابة العرابين" التي يمكن فيها لمن يرغب من لبنان أو من الدول الصديقة للبنان تبني أرزة لقاء مبلغ 16 دولاراً أميركياً آنذاك، ليكون من الممكن رعايتها ومعالجتها إلى أن تنمو وحدها، وتعالج نفسها بنفسها بعد 10 سنوات. وأصبح في "غابة العرابين" 172 ألف شجرة أرز يراوح عمرها بين سنة و25 سنة، ولها 15 ألف عراب أو صديق لأشجار الأرز.
وأشار فنيانونس رحمة إلى أنه عام 2007، فتحت اللجنة المجال للمؤسسات والجمعيات لزرع أشجار الأرز في الغابة، "بدأ عندها يزيد عدد الممولين، منهم ألفرد حلو الذي له نحو 56 ألف شتلة أرز، كذلك لمنظمة فاو 24200 أرزة وللوكالة الأميركية للتنمية الدولية 58900 شتلة أرز. حتى أن ثمة شركات تتبنى أشجار أرز، مثال على ذلك شركة الصباح للإنتاج التي تبنت 200 أرزة لتوضع عليها أسماء الممثلين والمتعاقدين معها. كذلك بالنسبة إلى لجنة جبران خليل جبران التي زرعت أشجاراً تحمل أسماء كتب جبران، ووصل عدد المؤسسات التي زرعت أشجار الأرز بأسمائها 155000 مؤسسة. ومن الإجراءات التي اتخذت أيضاً إقامة مشروع هدفه توفير المياه اللازمة لري أشجار الأرز في موسم الربيع بعد أن تكون قد تجمعت فيها من فصل الشتاء، إذ أقيمت بركة طبيعية لري الأشجار سعتها 20 ألف متراً مكعب، كما أقيم بيت بيئي لدراسة التربة والمناخ، مع مشتل حديث يمكن من خلاله الري أوتوماتيكياً، وبدأ الزرع بتقنيات متطورة تساعد في نمو شجر الأرز بسرعة كبرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توازن بيئي
كان الهدف من هذه الجهود كلها الحفاظ على شجر الأرز الخالد لرمزيته الوطنية وقيمته التاريخية، وعبر حماية الأرز من التلوث كان من الممكن تأمين محيط صحي له، بعد أن كانت الغابة مهملة وعرضة للضرر بسبب الزيارات والأنشطة التي تقام في الغابة بطريقة عشوائية.
يعرف عن شجر الأرز كونه أنه يعمر طويلاً جداً، وعلى رغم ذلك يحتاج إلى التوازن البيئي في محيطه، وهذا ما كان بالإمكان تأمينه عبر تحقيق التوازن بين الحشرات الضارة وتلك النافعة. وقديماً، لم تكن تقدم أية عناية لشجرة الأرز لاعتبار أن التدخل في نموها الطبيعي كان من المحرمات، إلى أن أثبتت دراسات علمية أتت بها اللجنة أن شجرة الأرز تحتاج أيضاً إلى الرعاية والمعالجة، ويجب إزالة الأغصان اليابسة منها ومن محيطها، ودهنها بمادة معينة تحميها من الأضرار. وكان من الممكن توفير الرعاية اللازمة بصورة خاصة في الفترات التي منع فيها دخول الزوار للحفاظ عليها، وإزالة النفايات والأعشاب اليابسة والحطب، ومع الوقت استعادت الغابة عافيتها بأشجارها كافة، وأصبحت تعالج نفسها بنفسها تلقائياً. وبعد تجنب كل التحديات التي تهدد عافية غابة الأرز بأشجارها، أصبحت الغابة صحية وتعافت بالكامل.
يمتاز شجر الأرز بصموده في مواجهة التحديات من أمراض وعوامل خارجية ومناخ، على رغم ذلك لا ينكر فنيانوس أن "صمود شجرة الأرز لا يمنع كونها عرضة للأذى، وتواجه تحديات وأمراضاً تسبب كثيراً من الأذى لها. أما بعد المعالجة، فيعتبر شجر الأرز قادراً على معالجة نفسه تلقائياً بعد تلقي العناية اللازمة لفترة معينة محدودة، لذلك لم تعد أشجار الغابة تتعرض إلى أمراض إلا نادراً جداً. مع الإشارة إلى أنه بعد أن نمت الغابة الرئيسة وتعافت، لم يعد يزرع مزيد من الأشجار فيها كما في السابق، كونها لم تعد تتسع لمزيد من أشجار الأرز، وأصبحت هناك حاجة إلى الابتعاد من الأشجار الموجودة أصلاً".
يعيش شجر الأرز المميز بصموده ما يقارب 1500 سنة، ويمكن كشف عمر شجرة الأرز وفق قاعدة حسابية معينة تستند إلى دراسة معينة لجذعها، أما ارتفاع أعلى شجرة أرز في الغابة فيصل إلى 52 متراً وما دون بحسب عمرها، ولأن شجر الأرز قد تأثر بالتغيير المناخي، باتت هناك حاجة إلى زرع الشجر على ارتفاع أعلى. بصورة عامة هو يزرع على ارتفاع 1800 متر تقريباً، أو أقل قليلاً.
حالياً، يستمر مشروع الحفاظ على أشجار الأرز بشتى الطرق مع استمرار الدعم له. وفي كل عام، يقام يوم العراب الذي يحضر فيها جميع عرابي أشجار الأرز إلى الغابة للاحتفال، وتفقد الأشجار التي تحمل أسماءهم. علماً أن المبلغ المتوجب على كل عراب حالياً أصبح 100 دولار أميركي، بهدف زرع الأرزة وتقديم الرعاية اللازمة لها ومعالجتها. في الوقت نفسه، يكفي أن يوقع العراب توكيلاً يؤكد فيه أنه سيعتني بالأرزة ويحافظ عليها، أما في ما عدا ذلك فاللجنة تقدم كل وسائل الرعاية والاهتمام بها طوال الفترة المطلوبة.
حالياً، تشجع اللجنة الراغبين من بلدات وجمعيات على التقدم لزراعة أشجار الأرز من المشتل الخاص بها، بما أن الهدف الأساس هو تحقيق انتشار أشجار الأرز على نطاق واسع، أملاً بربط شجر أرز بشري بغابة أرز تنورين (شمال) عبر زرع قرابة مليون أرزة. علماً أن الأشجار تزرع بصورة بذور توضع مع التربة وتعالج في أكواب وفق تقنية حديثة معتمدة، وحين تنمو خلال ستة أشهر توضع في أكياس من النايلون إلى أن تنقل لتزرع بعد عامين في الأرض.