ملخص
جاءت عملية إعادة مئات المهاجرين النيجيريين من السودان إلى مدينة كانو شمال نيجيريا لتكشف عن تداخل الأبعاد الإنسانية والسياسية والأمنية في ملف الهجرة غير النظامية، ففي الـ18 من سبتمبر (أيلول) الجاري، أقلعت من مطار بورتسودان طائرة تحمل على متنها الدفعة الثانية من هؤلاء المهاجرين العالقين، في عملية وصفتها المنظمة الدولية للهجرة بأنها "إنسانية بالغة الأهمية"، بعد أن سبقتها رحلة مماثلة في الـ28 من فبراير (شباط) رحلت 148 مهاجراً إلى نيجيريا، ومن المقرر أن تتبعها دفعات أخرى، بما يعكس منهجاً تدريجياً لإدارة هذا الملف المعقد.
عاش المهاجرون النيجيريون على مدار سنوات طويلة على هامش الحياة اليومية في السودان بصمت، كانت حياة الغالبية منهم تتشكل عند تخوم الفقر، حيث التسول والعمل الموقت والبحث عن ملاذ موقت بعيداً من النزاعات أو البطالة في وطنهم الأصلي، هذا الهدوء الظاهري لم يكن علامة على الاستقرار، بل انعكاساً لغياب الصوت والتمثيل، وكان وجودهم في السودان محض عبور هش في فضاء سياسي مضطرب، ظهر في دائرة الضوء بعد تفاقم الأزمة جراء الحرب المستمرة منذ أبريل (نيسان) 2023.
في هذا السياق، جاءت عملية إعادة مئات المهاجرين النيجيريين من السودان لمدينة كانو شمال نيجيريا لتكشف عن تداخل الأبعاد الإنسانية والسياسية والأمنية في ملف الهجرة غير النظامية، ففي الـ18 من سبتمبر (أيلول) الجاري أقلعت من مطار بورتسودان طائرة تحمل على متنها الدفعة الثانية من هؤلاء المهاجرين العالقين، في عملية وصفتها المنظمة الدولية للهجرة بأنها "إنسانية بالغة الأهمية"، بعد أن سبقتها رحلة مماثلة في الـ28 من فبراير (شباط) رحلت 148 مهاجراً إلى نيجيريا، ومن المقرر أن تتبعها دفعات أخرى، بما يعكس منهجاً تدريجياً لإدارة هذا الملف المعقد.
وتعيد هذه الصور الإنسانية المتكررة للواجهة حجم المعضلة التي يواجهها السودان وهو يوازن بين أزماته الداخلية وانكشاف حدوده أمام موجات الهجرة الإقليمية، كما تكشف في الوقت ذاته عن الجهود النيجيرية لاستيعاب العائدين، إذ استقبلت الحكومة الفيدرالية في أبوجا مزيداً من المهاجرين في مايو (أيار) الماضي، وسط ترتيبات لاستقبال آلاف آخرين من دول الجوار، ويأتي هذا الحراك ضمن مشروع أوسع للمنظمة الدولية للهجرة، الممول من الحكومة النرويجية، لتعزيز الحماية وتحسين الوعي بأخطار الهجرة غير النظامية في السودان منذ عام 2014.
يتجلى المشهد في صور متشابكة، مهاجرون تقطعت بهم السبل في بلد مزقته الحرب، وحكومات تحاول احتواء التداعيات، ومنظمات دولية تسعى إلى إعادة تعريف مفهوم الحماية، إنه فصل جديد في رواية الهجرة الأفريقية، حيث تمتزج الأرقام الباردة بالقصص الإنسانية، ويغدو الترحيل ليس مجرد إجراء إداري، بل مرآة تكشف عن هشاشة النظام الإقليمي أمام تحولات الجغرافيا البشرية في القارة.
معبر هجرة
كان السودان يعد من أكبر الدول الأفريقية استضافة للمهاجرين واللاجئين، غير أن الحرب وما صاحبها من تدمير للبنى التحتية، من محطات مياه وكهرباء ومرافق صحية، أضعفت بصورة جذرية الخدمات التي كانت تتلقاها هذه الفئات، مما جعل المهاجرين أكثر عرضة للفقر، وتصف المنظمة الدولية للهجرة السودان بأنه "معبر رئيس للهجرة غير النظامية في القرن الأفريقي"، مشيرة إلى افتقاره إلى "رقابة حدودية صارمة" و"امتلاكه معابر رسمية عديدة مع الدول المجاورة تسهم في زيادة عمليات التهريب والاتجار بالبشر".
يكشف الصحافي النيجيري بيثيل أولوجوبي عن أن "70 في المئة من العائدين ينحدرون من شمال نيجيريا، وأن 55 في المئة منهم إناث، ونحو 60 في المئة طلاب"، وتقول المنظمة الدولية للهجرة إن "النيجيريين مدفوعون في المقام الأول بالذهاب إلى السودان لمتابعة دراستهم، لكن بينهم أيضاً مهاجرون يتطلعون إلى فرص أفضل، أو يهيئون أنفسهم مادياً للذهاب إلى السعودية لأداء فريضة الحج، أو جاؤوا بغرض لم شملهم مع أفراد عائلاتهم المقيمين هناك بالفعل".
على الضفة الأخرى من المشهد، كان السودان أيضاً وجهة لقوات حفظ السلام النيجيرية، فقد أفادت وكالة الأنباء النيجيرية الرسمية بأن "أكثر من 700 ضابط وجندي من الجيش النيجيري نقلوا جواً للمشاركة في مهمة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في السودان في عام 2007، إذ دعا القائد العام اللواء صموئيل أتاودي جنوده إلى أن يكونوا سفراء خيرين" للبلاد، وأن يحافظوا على "المستوى العالي من الاحترافية".
ويجسد هذا التداخل بين السودان بوصفه معبراً للمهاجرين، ومسرحاً لمهمات دولية، ووجهة لنيجيريين سعوا إلى التعليم أو العمل أو الراغبين منهم في الذهاب إلى الحج، صورة أوسع لواقع الهجرة في الإقليم، ومن خلال مركز إعادة توطين المهاجرين في بورتسودان، ينفذ برنامج "المساعدة في العودة الطوعية وإعادة الإدماج" الذي يوفر، بحسب المنظمة الدولية للهجرة، "حلولاً مستدامة للمهاجرين العالقين وضحايا الاتجار بالبشر"، ويزودهم بالمعلومات والخدمات الصحية والاستشارات والدروس التدريبية لبناء قدراتهم واتخاذ قرارات مدروسة في شأن الهجرة الآمنة.
مسارات العودة
نقلت مسؤولة الإعلام والاتصالات بالمكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمنظمة الدولية للهجرة فيدزا لوكوفاك ما روته أسرة الشاب النيجيري محمد البالغ من العمر 27 سنة، الذي أقام في الخرطوم مع زوجته وطفليه منذ عام 2017، قال محمد "قبل الصراع، كانت الحياة في السودان كريمة ومرحبة، وقد عشت حياة مرضية كطالب، كما عملت بدوام جزئي لإعالة نفسي"، وأضاف "بعد اندلاع الحرب واجهنا تحديات قاسية، بما في ذلك قيود الحركة والعنف، وسلبت منا ممتلكاتنا، وأصبح البقاء على قيد الحياة صعباً، لم يكن هناك ماء ولا شبكة اتصالات وبالكاد كنا نأكل شيئاً"، هذا الوضع دفع المنظمة الدولية للهجرة، بالتنسيق مع السفارة النيجيرية في بورتسودان، إلى مساعدة محمد وعائلته ضمن العائدين عبر برنامج "العودة الإنسانية الطوعية" من خلال وثائق سفر طارئة، وجلسات استشارية، وفحوص طبية ودعم مادي.
ويقول رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في السودان محمد رفعت "وجد المهاجرون الذين عبروا السودان أو يقيمون فيه منذ بدء النزاع أنفسهم عالقين مع تدهور الوضع الإنساني في البلاد، فقد كثير منهم كل شيء، وثائقهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالنسبة إلى كثيرين، تظل العودة الإنسانية الطوعية الخيار الأمثل لرحلة آمنة إلى الوطن"، وأوضح أن الرحلة الأخيرة "حملت على متنها 146 مهاجراً معظمهم من الخرطوم والجزيرة، غالبهم من النساء والأطفال وبعضهم من ذوي الاحتياجات الخاصة".
وفي نيجيريا، قالت باولا بيس، رئيسة بعثة المنظمة الدولية للهجرة بالإنابة، إن "المنظمة ملتزمة بمواصلة العمل بلا كلل لتقديم الدعم لجميع المهاجرين وضمان عدم تخلف أي شخص عن الركب"، مشيرة إلى أن الشراكات والتعاون مع الحكومات ما زالا السبيل لإنقاذ الأرواح وتعزيز المسارات الآمنة والكريمة للعودة.
أما من الجانب السوداني، فأكد السفير أونور أحمد، مدير إدارة الحدود والأجانب بوزارة الخارجية، أن الترحيل "يأتي ضمن جهود الحكومة لتقنين أوضاع الأجانب بالتنسيق مع المنظمة الدولية للهجرة"، وأن ما جرى "عودة طوعية لمهاجرين دخلوا بصورة غير نظامية"، وبدوره أشار مساعد معتمد اللاجئين بولاية البحر الأحمر عثمان عبدالله عوض الكريم، إلى أن "هذه المرحلة تمثل الفوج الثاني من ترحيل الأجانب الموجودين بالسودان، وأن السودان يملك منافذ إنسانية على الحدود للذين يستدعي وضعهم طلب اللجوء".
تمويل محدود
منذ اندلاع الأزمة السودانية، كثفت المنظمة الدولية للهجرة عملياتها الإنسانية في البلاد، مقدمة استجابة متعددة القطاعات، ووفق بياناتها الرسمية، دعمت المنظمة أكثر من 3.6 مليون شخص في السودان والمنطقة منذ بداية النزاع، بينهم 2.1 مليون شخص في عام 2024 وحده، من خلال شبكة تشغيلية واسعة تضم أكثر من 3 آلاف موظف و43 مكتباً فرعياً وميدانياً، كما خصصت أكثر من 4 ملايين دولار أميركي من التمويل المرن لتغطية احتياجات طارئة شملت الفيضانات وتفشي الكوليرا، وانهيار سد أربعات بولاية البحر الأحمر، وتطمح خطتها الإقليمية لعام 2025 إلى حشد 428 مليون دولار أميركي للوصول إلى 2.6 مليون شخص في السودان والمنطقة، مع العمل على تسهيل مسارات الهجرة النظامية وإيجاد حلول للنزوح الممتد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن هذه الجهود، على رغم ضخامتها، تواجه تحديات وانتقادات من منظمات محلية بأن المهاجرين الذين عبروا السودان أو يقيمون فيه منذ بدء النزاع وجدوا أنفسهم عالقين مع تدهور الوضع الإنساني في البلاد، وفقد كثير منهم كل شيء، وثائقهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبحسب وكالة "رويترز"، فإن منظمة الهجرة الدولية دافعت عن دورها بأنها لم تتلق سوى نحو 21 في المئة من التمويل المطلوب لتقديم المساعدات الأساسية، مما يحد من قدرتها على تلبية الاحتياجات المتزايدة، كما أبرزت ذلك في تقرير "الاستجابة الأولى المسجلة للنزوح في السودان" من مارس (آذار) الماضي، إذ أشارت إلى أنها تطلب نحو 250 مليون دولار لمساعدة 1.7 مليون شخص، لكن التمويل المتاح كان دون المطلوب بكثير، مما قلل من قدرة المنظمة على التوسع في خدماتها.
وتشير تقارير مستقلة إلى قيود أمنية وإدارية تحول دون وصول فرق المنظمة إلى بعض مناطق النزاع في دارفور والجزيرة، مما يجعل تقديم المساعدة متقطعاً أو غير مكتمل، مما يجعل إعادة المهاجرين تتم أحياناً في ظروف صعبة، على رغم وصفها بالعودة الطوعية.
علامات استفهام
برزت علامات استفهام حول إعادة اللاجئين النيجيريين العالقين في السودان لنيجيريا، لا سيما أنهم يمثلون آخر مجموعات اللاجئين التي ظلت خلال الحرب، ويأتي ذلك في سياق عاملين رئيسين، الأول يتعلق بالسجل السابق للنظام السوداني في تنفيذ إعادات قسرية للاجئين ومنهم اللاجئين الإثيوبيين عام 2007، إذ سلم جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني المعتقلين إلى السلطات الإثيوبية عبر معبر المتمة الحدودي، مما اعتبرته مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين خرقاً لالتزامات السودان بموجب اتفاق اللاجئين لعام 1951 وبروتوكولها لعام 1967 واتفاق منظمة الوحدة الأفريقية لعام 1969، الذي يحظر الإعادة القسرية أو إخضاع الأفراد لخطر الاضطهاد.
العامل الثاني يرتبط بالأحداث الأمنية الأخيرة، وبالتحديد توقيف مجموعة إرهابية قد تكون لها صلات محتملة بالسلطات السودانية السابقة، أفاد مستشار الأمن القومي النيجيري نوح ريبادو في الـ17 من أغسطس (آب) الماضي بأن زعيمي جماعة "أنصار المسلمين في بلاد السودان" محمود محمد عثمان ومحمود النيجيري، أوقفا خلال عملية نفذت بين مايو ويوليو (تموز)، وأنهما كانا على قوائم المطلوبين الدولية لقيادتهما هجمات متعددة على المدنيين والبنية التحتية الحيوية، بما في ذلك تفجيرات خطوط السكك الحديدية واقتحام السجون، وفق إفادة الصحافي الاستقصائي نور الدين أكيووشولا من المركز الدولي للصحافة الاستقصائية.
أوضح المتحدث باسم الرئيس النيجيري بايو أونانوغا أن القبض على المطلوبين يمثل "اختراقاً مهماً في الحرب ضد الإرهاب"، فيما تؤكد وكالة الأمن القومي الأميركية أن الاعتقالات تفكك القيادة المركزية للجماعة وتوقف أنشطتها الإجرامية، ويبرز في هذا السياق احتمال وجود تداخلات أو تسهيلات من ميليشيات مرتبطة بالنظام السابق في السودان، ساعدت الجماعة في التنقل أو التمركز في مناطق محددة، مما قد يكون أحد العوامل التي دفعت السلطات النيجيرية والسودانية إلى الإسراع في إعادة اللاجئين لبلدانهم الأصلية كإجراء وقائي جزئي.
معادلة إقليمية
تتجاوز ظاهرة ترحيل المهاجرين النيجيريين من السودان حدود كونها قضية إنسانية أو اجتماعية لتغدو مؤشراً على تشابك المعادلات الأمنية في البلدين، فالسودان الغارق في الحرب الأخيرة، يجد نفسه أمام واقع أمني هش جعل حدوده أكثر انكشافاً وأقل قدرة على ضبط حركة المهاجرين عبرها، وتزايد الضغوط على البنية الأمنية والإدارية في البلاد دفع السلطات إلى تبني سياسة أكثر صرامة تجاه المهاجرين غير النظاميين، في محاولة لتخفيف أعباء داخلية متراكمة ولإرسال رسالة مفادها بأن الدولة، حتى في خضم الحرب، لا تزال قادرة على الإمساك بخيوط السيادة، حتى وإن كان ذلك عبر إجراءات رمزية مثل الترحيل الجماعي.
في المقابل، يطرح ملف العائدين لنيجيريا أسئلة مقلقة عن قدرة الدولة الفيدرالية على استيعابهم في بيئة أمنية لا تقل اضطراباً، فشمال نيجيريا، الذي يستقبل فيه معظم العائدين، يشهد منذ سنوات نشاطاً متصاعداً لجماعات مسلحة وشبكات تهريب وهجرة غير نظامية تتداخل مع مسارات التطرف العنيف، وقد أشار بعض المراقبين إلى أن عودة مئات النيجيريين من بيئة مضطربة كالسودان، بلا برامج تأهيل أو دمج مجتمعي، قد تخلق فراغاً أمنياً تستفيد منه الجماعات المتمردة أو شبكات الجريمة المنظمة، خصوصاً في مناطق مثل كانو وبورنو وكادونا.
هذه الثنائية، السودان المأزوم أمنياً ونيجيريا التي تواجه تحديات هيكلية في شمالها، تجعل من عملية الترحيل أكثر من مجرد تحرك إنساني، بل امتداد لمعادلة إقليمية تعكس ضعف الدول الوطنية في إدارة الحدود والهجرة، وتكشف في الوقت ذاته عن الحاجة إلى تنسيق أمني عابر للدول لمواجهة شبكات التهريب والتجنيد والتطرف، كما أنها تضع المجتمع الدولي أمام اختبار جديد، بترجمة عمليات الإعادة إما إلى استقرار نسبي، أو أن تتحول إلى حلقة جديدة في دوامة انعدام الأمن والتنقل القسري عبر الساحل والصحراء الكبرى.
في هذا الإطار، يصبح مصير هؤلاء المهاجرين مرآة تكشف عن هشاشة النظم الأمنية في البلدين على حد سواء، وتؤكد أن إدارة الهجرة ليست مسألة لوجستية فحسب، بل هي من صميم معادلة الأمن والاستقرار في غرب أفريقيا ووسطها.