ملخص
كان للراحل دور في رابطة العالم الإسلامي، إذ ترأس مجلسها الأعلى وشجع جهود تطوير المجمع الفقهي التابع لها، معالجاً قضايا فقهية معاصرة خاصة ببلدان الأقليات، وتحت إشرافه أصدرت الرابطة "وثيقة مكة المكرمة" التي حددت إطاراً للتعايش بين الثقافات، ورفضت تبريرات العنف والصراع بين الأديان، مع ردود على التطرف والإرهاب والـ "إسلاموفوبيا"، وقّع عليها عدد كبير من العلماء المسلمين بلغ 1200 عالماً ومفتياً.
برحيل المفتي العام للسعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، تكون السعودية والمنطقة العربية والإسلامية وأجزاء من العالمية قد فقدت صوت اعتدال نادر في زمن الصراعات الفكرية والتقلبات الأيدولوجية التي طغت خلال العقود الثلاثة الماضية التي كان فيها آل الشيخ شاغل المنصب الشائك، فهو أيضاً رئيس هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء في دولة ظلت محط أنظار العالم، بوصفها قائدة الحراك الديني والسياسي والاقتصادي في منطقة شديدة الاضطراب.
والراحل عن عمر يناهز الـ 80 عاماً شغل منصبه منذ عام 1999، مسهماً في إصدار فتاوى وتوجيهات دينية لعقود، مع التركيز على الاعتدال والوسطية في مواجهة التحديات الفكرية والأمنية، مما يفسر توقيره النادر بين ملوك البلاد وأولياء العهد المتعاقبين.
حين أعلن الديوان الملكي وفاته صباح الـ23 من سبتمبر (أيلول) الجاري، أمر كذلك بإقامة صلاة الغائب عليه في المسجد الحرام والمسجد النبوي وجميع مساجد المملكة، وهو أرفع تكريم في السعودية، فيما شهد "الجامع الكبير" بجوار قصر الحكم في الرياض توافد المودعين له، حيث أقيمت عليه صلاة الجنازة بحضور ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بعد أن عاش إماماً وخطيباً في الجامع نفسه لنحو 40 عاماً، خلفاً لأسلافه أكابر العلماء ومن أسرته آل الشيخ الذين عرفوا بتحالفهم التاريخي مع الأسرة الحاكمة في البلاد، بعيد نشأت الدولة السعودية قبل ثلاثة قرون.
عاش يتيماً وفقد البصر لكنه لم يستسلم
وُلد الشيخ عبدالعزيز في مكة المكرمة عام 1943 ضمن أسرة علمية، وفقد والده في التاسعة من عمره فنشأ يتيماً يحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ محمد بن سنان (أبو أحمد) كما يروى عنه، ثم درس على أيدي كبار العلماء في بلاده مثل المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والمفتي الشيخ عبدالعزيز بن باز الذي خلفه في الإفتاء، والشيخ عبدالعزيز أبوحبيب الشثري، وغيرهم ممن غرسوا فيه حس المسؤولية الدينية والوطنية، ومع أنه فقد بصره لاحقاً فقد تخرج من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1965، متخصصاً في العربية وعلوم الشريعة وأستاذاً لها بعد ذلك في الجامعة نفسها، وألّف كتباً في الفتاوى والعقائد وأحكام الحلال والحرام، مثل "من فتاوى العقيدة" و "من فتاوى الطهارة والصلاة"، إضافة إلى "الجامع لخطب عرفة".
تروى في هذا السياق قصة معبرة عن والدته سارة بنت إبراهيم الجهيمي، التي يستذكر العارفون به فضلها الأكبر في تربية الراحل على "طلب العلم منذ نعومة أظفاره، بعد وفاة والده وهو ابن تسع سنوات، فنهضت بأعباء التربية ورعاية أبنائها".
ووثق حفيدها الأكاديمي هشام بن عبدالملك آل الشيخ في كتابه "ملح العلماء" نماذج من حرصها على تنشئة ابنها عبدالعزيز (المفتي)، إذ كانت تبث فيه الطموح وتدعمه منذ صغره. من ذلك ما يروي المؤلف عن كون عم الصغير، حين رآه يصعد منبر الجامع الكبير ليلقي خطبة الأطفال "ذهب به لأمه غاضباً وقال إن ابنك يلعب في المسجد، فقالت قولتها المشهورة: ’أسأل الله أن يحييك حتى تصلي خلفه في الجامع الكبير‘، وقد تحققت دعوتها، فصار المفتي إماماً وخطيباً يصلي الناس خلفه، ومنهم عمه رحمهم الله".
وفي شبابه لما أصيب في بصره لم تدخر وسعاً في البحث عن علاج، حتى عرضت على الطبيب السويسري أن يأخذ عينها لتزرع لابنها، إلا أن الطبيب أكد لها استحالة ذلك. لكن مقصودها حصل، إذ لم ترحل عن الدنيا إلا قريباً في عام 1436هـ (2015م) بعد أن بلغت 100 عام، ورأت فتاها قد بلغ أعلى المراتب.
ومنذ شبابه تولى إمامة وخطابة الجامع الكبير في الرياض الذي يجاور قصر الحكم، مما مكّنه من الاطلاع على نبض المجتمع والقرار السياسي، مع تقديم النصح والإرشاد بالحسنى من دون تشهير، وتدرج في المناصب الرسمية فكان عضواً في هيئة كبار العلماء عام 1987، ثم نائباً للمفتي العام عام 1995، قبل أن يصبح مفتي عام البلاد ورئيس الهيئة عام 1999 خلفاً لابن باز، وخلال فترة توليه المنصب واجهت السعودية تحديات مثل التطرف الفكري والإرهاب، فأسهم في ترسيخ منهج الاعتدال ونبذ العنف مع الحفاظ على وحدة الصف بين العلماء وبذل العلم الشرعي لطلبته في بيته ومسجده وديوانه ومكتبه، والالتزام بحقوق ولاة الأمر بعيداً من التدخل السياسي المباشر.
خطيب عرفات لعقود
ومن المحطات التي يفخر بها الراحل شغله مهمة الخطابة في عرفة كل حج، منذ عام 1982 حتى ضعف ولم تعد صحته تسمح له بذلك، فاعتذر منها عام 2016 إلا أنه رغم ذلك لم يغب عنها أي عام، فجعل يأتي المناسك محرماً حاجاً عن نفسه وعن أحبته من الأقارب والعلماء عبر العصور مثل بن عبد البر والنووي، من الذين لم تسمح لهم ظروفهم بالحج، في بادرة لم تكن معروفة عن سواه.
ومنذ خطبة حجة الوداع قبل نحو 14 قرناً، ظلت خطبة عرفة مجداً يتسابق إليه القادة والأمراء والعلماء، بوصفها أهم منبر لدى المسلمين، حتى قبل أن يزيده البث الفضائي إشعاعاً وانتشاراً، وفي عهد الدولة السعودية كان مفتي البلاد الراحل الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ خطيب عرفات لعقود، وارثاً بذلك عمه عبدالعزيز الذي شغل المهمة الجليلة هو الآخر زمناً طويلاً، بتكليف من القيادة السياسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقر آل الشيخ في كتاب أصدره عن تجربته تلك أنه "من منة الله علينا وتوفيقه لنا أن هيأ لنا إلقاء الخطبة في مسجد نمرة يوم عرفة منذ عام 1402هـ (يوافق 1982)، فلقد تلقيت في خامس ذي القعدة من العام نفسه خطاباً موجهاً لي من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، وتضمن هذا الكتاب العهد إلي بإلقاء خطبة يوم عرفة في نمرة نيابة عن الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ الذي طالما صعد هذا المنبر لعقود عدة، وباشرت الخطبة في ذلك العام، وفي العام التالي كذلك، ثم جاء التوجيه من خادم الحرمين الشريفين عام 1404هـ بالخطابة في هذا المكان بصفة مستمرة"، وبذلك يكون خطيب عرفات لأطول مدة عبر التاريخ حتى الآن.
وكان آل الشيخ قبل اعتذاره من خطبة عرفات اعتبر أن ما يشعره بالمسؤولية أكثر أنه يمضي على خطوات النبي محمد، بوصفه "سيد خطباء يوم عرفة على الإطلاق، إنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس في ذلك المجمع الكريم خطبة كانت وجيزة في لفظها كثيرة في معانيها، ولا غرو فهو سيد أهل البيان، وهو أفصح الخلق بياناً وأحسنهم أداء، وأقدرهم على جمع المعاني في الكلمة الواحدة، إذ أعطاه الله جوامع الكلم واختصر له اختصاراً".
ويروي المقربون من الراحل أن الخطبة التي تستغرق عادة ما بين 45 و60 دقيقة يقضي آل الشيخ شهرين وهو يستعد لها ويجمع أفكارها، ويبني القواعد التي يبنيها عليها، وهو الذي يحاول أن يتأسى بالنهج النبوي في جعل الخطبة جامعة لشؤون الداخل والخارج، وهموم الأمة العربية والإسلامية والكون، خصوصاً في أزمنة الظروف العربية العصية على الحل.
تعزية من #رابطة_العالم_الإسلامي : pic.twitter.com/comHtTdoKw
— رابطة العالم الإسلامي (@MWLOrg) September 23, 2025
جهد فكري وفقهي عابر للقارات
على الصعيد الدولي قدم الشيخ عبدالعزيز دوراً مهماً في التصدي للقضايا الفكرية والمسائل الفقهية المستعصية، ولا سيما في رابطة العالم الإسلامي، إذ ترأس مجلسها الأعلى وشجع على تطوير المجمع الفقهي التابع لها، معالجاً قضايا فقهية معاصرة خاصة ببلدان الأقليات، وتحت إشرافه أصدرت الرابطة "وثيقة مكة" المكرمة التي حددت إطاراً للتعايش بين الثقافات، ورفضت تبريرات العنف والصراع بين الأديان، مع ردود على التطرف والإرهاب والـ "إسلاموفوبيا"، ووقّع عليها عدد كبير من العلماء المسلمين بلغ 1200 عالماً ومفتياً.
وقد أسهمت الوثيقة غير المسبوقة في الإصلاحات الدينية والفكرية التي تضمنت وضع قواعد فقهية للسلام بين المجتمعات، مع التركيز على التعاون الدولي، كما أسهم في صياغة مواقف دينية تجاه قضايا مستجدة، بما في ذلك حقوق الإنسان والتحديات الفقهية المعاصرة. ولذلك أبنته الرابطة هي الأخرى في شخص أمينها العام الشيخ محمد العيسى الذي وجه بصلاة الغائب عليه في كل جوامع الرابطة ومساجدها في أرجاء المعمورة، ووصفه بـ"فقيد الأمة الإسلامية جمعاء".
التواضع وسلامة الصدر
اشتهر الشيخ عبدالعزيز بالتواضع على رغم هيئته المهيبة في طول فارع يبلغ المترين ومقام جليل تحفه المكانة الرفيعة، إلا أن بابه كان مشرعاً للجميع حيثما كان في مسجده أو منزله ومكتبه، يشهد على ذلك استمراره في الدروس العلمية والمواعظ حتى بعد تقدمه في السن، وحرصه على أداء التوجيهات الشرعية بلغة لطيفة مع التركيز على وحدة النفوس، لذلك كان فقده صعباً على الأوساط العلمية، إذ قال الأمين العام لهيئة كبار العلماء، الشيخ فهد الماجد، والذي لازمه 20 عاماً طالباً وعاملاً معه، "نرفع تعازينا لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان وإلى الشعب السعودي الكريم والعالم الإسلامي في فقيد الأمة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، فقد كان عالماً جليلاً محبوباً من القريب والبعيد، استشار زملاءه في هيئة كبار العلماء في كل الأمور، وأدار المؤسسة العلمية بكل نزاهة واتزان"، مضيفاً وهو يغالب دموعه أنه "كان عطوفاً على الجميع، الصغار قبل الكبار، وعموم الناس قبل المسؤولين، ولم يتوقف عن تقديم الدروس العلمية والمواعظ الدينية حتى مع تقدمه في العمر".
أمين عام هيئة كبار العلماء الشيخ د. فهد الماجد: كان مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ - رحمه الله - متسامحا ومتواضعا وقريبا من الجميع، ولم أسمع منه كلمة تؤذي المشاعر طوال مصاحبتي له#الإخبارية pic.twitter.com/2d8bxtthAD
— قناة الإخبارية (@alekhbariyatv) September 23, 2025
وروى أن الراحل في حج هذا العام، أي قبل أربعة أشهر، "كانت الكتب العلمية المتنوعة تُقرأ عليه، وكان دائم التلاوة للقرآن، لا يفتر عن ذكر الله آناء الليل، متسامحاً، متواضعاً، قريباً من الجميع، يفرح لأفراحهم ويتألم لآلامهم، لا تسمع منه كلمة تؤذي أو تؤثر في الخاطر، وإذا أراد توجيهاً كان يقوله بلطف بحيث تُؤدى النصيحة دون أن يتأثر أحد، مع الحرص على أن تظل النفوس سليمة ومتصافحة".
ويشير الشيخ سعد الشثري الذي عرفه في هيئة كبار العلماء كذلك إلى أن "الناظر في سيرة الراحل يجد عدداً من المآثر العظيمة، من دعوته للوسطية وسعيه إلى منهج الاعتدال في شأنه قاطبة، وحرصه على شباب الأمة ألا ينضموا للجماعات الإرهابية، ولكلماته أثر كبير في ذلك، ومن آثار فضله أنه دعا إلى جمع الكلمة وخدمة دين الله وكل عمل صالح، وكان يشجع كل ساعٍ في هذا النهج، ويُعجب المرء من سلامة قلبه وسعيه ألا يكون فيه أي غل، وحتى من يجرحه لا يتناوله إلا بالكلمة الطيبة".
"عميق الفهم واسع الاطلاع"
وفي تعاز دولية، نعى مفتي جمهورية مصر الشيخ نظير محمد عياد الفقيد قائلاً "رحم الله الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، فقد كان علماً نافعاً وإماماً هدى، ودوره في نشر الاعتدال والوسطية يظل شاهداً على عطائه اللامحدود للأمة الإسلامية"، مشيراً إلى أنه فوق ذلك "كان عالماً جليلاً، وفقيهاً مدققاً، عميق الفهم، واسع الاطلاع، متقناً لعلوم الفقه والأصول والحديث، راسخ القدم في الاجتهاد، ثاقب النظر في الرأي، أفنى حياته في خدمة العلم وأهله تعليماً وإرشاداً وتوجيهاً، يتسم بأخلاقه الرفيعة وتواضعه الجم، تاركاً للمكتبة العلمية مؤلفات قيمة في العقيدة والشريعة والأخلاق".
ومن تلك السجايا، تنكره لذاته وتحامله على نفسه وهو يجيب عن أسئلة المستفتين ويقضي حاجات الناس، حتى وهو على سرير المرض في بيته أو المستشفى. وقد نشر أحد المقربين منه بعد وفاته صورة أيقونة له وهو مستلق على سريره الطبي، يسجل أحد برامج "إذاعة القرآن"، التي ظل يعرف بها وتعرف به، من شدة حرصه على تبليغ نشر رسالة الإسلام الوسطية عبرها، وهي التي اجتهدت بلاده في تقوية إرسالها منذ عقود لتبلغ ما أمكنها حول العالم، تنشر السكينة والقرآن.
— TURKI ALALSHIKH (@Turki_alalshikh) September 23, 2025
وفي هذا الصدد يروي نائب رئيس هيئة حقوق الإنسان السابق زيد الحسين لـ"اندبندنت عربية" موقفاً مشابهاً، إذ قال إنه ذهب إليه يعوده من المرض في مستشفى "قوى الأمن" في الرياض، فلما أنهى السلام عليه، جعل يحاوره ويسأله عن بعض الشبه التي كانت تثار في ذلك الحين بين المحافظين حول مزاعم "تعارض حقوق الإنسان مع الإسلام".
عندئذ مضى يناقشه ويستفسر منه، حتى استيقن أن عمل الهيئة، ما هو إلا دفاع عن القيم نفسها التي نصت الشريعة على حمايتها وترسيخها بهدف صون كرامة الإنسان، عبر "حفظ الضرورات الخمس" المتفق عليها بين أئمة الفقه والمذاهب والمواثيق الدولية، وهي "الدين والنفس والعقل والعرض والمال"، فعجب المفتي لذلك وسعد، وصار من المشجعين.
طرد من المجلس أعقبته مكافأة مجزية
ومن المواقف التي تكشف عن بعد نظره في التعامل مع الشباب المتحمس ما يرويه أحد أولئك، قائلاً "زرته في جامع الإمام تركي عام 2003 وسألته مسألة أغضبته مني، فهمس له بعض من كان حوله، بأني ربما أكون من "الملحدين"، لأن سؤالي كان مسيئاً عن معاوية ويزيد فنهرني رحمه الله وأمرني بالخروج".
وأضاف "بعد خروجي تبعني العساكر وأركبوني الدورية وذهبوا بي إلى شرطة حي المربع وبقيت هناك ليلة كاملة، واليوم الثاني أخبره أحدهم بما حصل لي، فاتصل بمدير شرطة الرياض وقتها وطلب إخراجي، وقال له لماذا سجنتموه؟ هذا ينصح ويبين له، وطردي له كان توبيخاً حتى لا يعود لما قاله".
لكن تدخل الراحل لم ينته عند هذا الحد، وفق رواية الشاهد لـ "اندبندنت عربية"، الذي كان يومئذ شاباً في مقتبل العمر، فبعد أسبوع "اتصل بي مكتبه (المفتي) وقالوا الشيخ يسلم عليك، وهناك هدية لك منه، كيف تحب أن تتسلمها؟ قلت في مقر عملي، وقد كنت معلماً لتوي في حي شعبي شرق الرياض، وفي اليوم التالي وصل سائق في سيارة للرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء وسلم المدير ظرفاً كبيراً جداً بمقاس A3 فيه مطبوعات ومنشورات ومجلة الرئاسة وبعض الكتب الدينية، وداخله ظرف أصغر فيه 3 آلاف ريال، (700 دولار تقريباً)"، مشيراً إلى أن تلك الحادثة وفرت عليه كثيراً من المتاعب التي كان سيتعرض لها، "علمتني أن نصح الكبار مهما كان قاسياً فهو يستحق الوقوف عنده، فلولا تقريع الشيخ يومئذ لي فلربما وجدتني اليوم في متاهة أخرى، وضحية لأي اتجاه مخرب هنا أو هناك، فرحمه الله كان فوق علمه مربياً وبعيد النظر".
وعلى رغم تعدد العلماء والفقهاء في بلدان عربية وإسلامية شتى إلا أن تفرد آل الشيخ كان في جمعه بين خصال نادرة، واحدة منها تكفي ليكون مختلفاً، فجمع بين السماحة والشجاعة في الرأي والاستقلالية والوفاء لقيادته والنصح لهم، وكذلك لمدرسته السلفية، من غير انغلاق أو غياب عن العصر وتحدياته، كما أنه وقف دائماً في وجه ترويج السطحية والشعبوية، وليس ممن يستهويه تصفيق الجماهير ليخرج بآراء شاذة أو أفكار لا يرى لها سنداً فقهياً أو علمياً تحت الضغط، مهما سادت بين الأوساط، وأشهر مثال على ذلك رفضه الفتوى بـ "العمليات الاستشهادية" حتى عندما كانت ضد المحتل الإسرائيلي، قبل أن يتبين لاحقاً بعد نظره حين وظفتها الجماعات الإرهابية كأداة قتل لا ترحم، ضد الأبرياء من المسلمين قبل غيرهم.