ملخص
الغموض يلف سياسة إسرائيل. فهي تخلت عن السعي في تطبيع علاقاتها الدبلوماسية بالعالم العربي، وفي نشدان السلام معه. وقصف قطر، حليف الولايات المتحدة الاستراتيجي، دليل جلي على هذا التخلي، وهي ترسي أمنها على تفوقها العسكري، وهيمنة سلاحها الجوي واستخباراتها، والتوسع الإقليمي الذي يرضي أنصار إسرائيل الكبرى
عشية إعلان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، اعتراف فرنسا بدولة فلسطين، من منبر الأمم المتحدة، في ختام مرحلة دبلوماسية نشطة رعاها محور فرنسي- سعودي، شهدت اعترافات جديدة وتصويتاً في الجمعية العمومية الأممية- حاورت صحيفة لوموند الفرنسية، لور فوشيه، مديرة البحوث في مؤسسة الدراسة الاستراتيجية الفرنسية. وتناول حوارها تأزم العلاقات الدبلوماسية الفرنسية- الإسرائيلية منذ منعطف 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تاريخ هجوم "حماس" الدامي على مستوطنات غلاف غزة، وردّ إسرائيل المدمر عليه في اليوم نفسه، إلى عشية يوم الاعتراف العتيد، في 22 سبتمبر.
غداة 7 أكتوبر
وتدرج الباحثة تأزم علاقات الدولتين، في خريف 2023، في تاريخ متصل، منذ نشأة إسرائيل، وفي إطار أوسع هو قضايا الشرق الأوسط العربي، وقضية فلسطين في القلب منه. وحرص البلدان على التعتيم على خلافاتهما، وإبراز قضايا أخرى يجمعان عليها. مثل قضية إيران النووية. وتحرص فرنسا، إلى يومنا، على تصوير سياستها الشرق أوسطية في صورة رأس حربة الدول الغربية في المنطقة.
إلا أن الخلافات بين السياستين الفرنسية والإسرائيلية، على ما تستدرك الباحثة، غداة هجوم 7 أكتوبر والرد عليه، تفاقمت على نحو حاد. ولم ينفع القاسم المشترك الإيراني والنووي، في طمسها أو التقليل من خطورتها. وظهرت خلافات جديدة، شأن الخلاف على معالجة الوضع السوري. والمصالح المشتركة السابقة، تقهقرت مكانتها بعض الشيء. وهذه حال الملف الإيراني بعد الضربات الإسرائيلية. فهذه الضربات تقول لور فوشيه، أعمت الأوروبيين والفرنسيين خصوصاً، إلى حد ما، عن البرنامج الإيراني، وحجبته عن اهتمامهم واستخباراتهم، فتحولت إسرائيل، والولايات المتحدة، إلى مصدر معلوماتهم الوحيد عن إيران.
سياسة القوة
وترى المحاورة أن الغموض يلف سياسة إسرائيل نفسها. فهي تخلت عن السعي في تطبيع علاقاتها الدبلوماسية بالعالم العربي، وفي نشدان السلام معه. وقصف قطر، حليف الولايات المتحدة الاستراتيجي، دليل جلي على هذا التخلي، وهي ترسي أمنها على تفوقها العسكري، وهيمنة سلاحها الجوي واستخباراتها، والتوسع الإقليمي الذي يرضي أنصار إسرائيل الكبرى، في بعض الأحيان.
وبدلاً من تشجيع الحلول السياسية، في مسألة مثل التصدي لإحياء المحور الإيراني، تعول حكومة إسرائيل على ميزان القوة الحالي، الناشئ عن شل "حماس"، واجتثاث قيادة "حزب الله"، وإطاحة الحليف السوري، وحصار الحوثيين إلخ. وتولت هذه السياسة، فعلاً، رسم حدود بلدان المنطقة، وحدود إسرائيل مع جيرانها رسماً جديداً. ويعرِّف الرسم الجديد هذا، على ما تتوقع الباحثة، خطط إسرائيل الاستراتيجية في الشرق الأوسط، وحيال إيران على الخصوص.
اطراح الفضاء الدبلوماسي
وتخلص الباحثة المحاورة من وصف السياسة الإسرائيلية الإقليمية إلى تناول الخلافات التي تترتب عليها مع فرنسا ومصالحها، في منطقة سيطرتها عليها زمناً مديداً، ولم ينحسر عنها نفوذها انحساراً تاماً. وعليه، تحتاج فرنسا إلى عودة الاستقرار إلى هذه البلدان. وليست عودة الاستقرار أولوية إسرائيلية. ولا يتكتم قادة الدولة العبرية على نيتهم تصفية المشروع الوطني الفلسطيني في السر والعلن، على ما تلاحظ الباحثة. وهم يترجمون هذه النية على نحو مأساوي في غزة، وفي الضفة الغربية على نحو أقل فتكاً وعنفاً. وتصيب هذه السياسة، إلى الآلام الفظيعة التي تنزلها بالغزاويين، حلفاء فرنسا الإقليميين مثل مصر والأردن، وهم عوّلوا على السلام، بأضرار فادحة. وبادرت فرنسا إلى اقتراح خطط من شأنها إنهاء حرب غزة، وبعضها يراعي مصالح رئيس الوزراء الإسرائيلي، المدان بجرائم حرب. ولكن بنيامين نتنياهو رفض المبادرات كلها، وتمسك باطراحه الفضاء الدبلوماسي.
موسكو في الشرق الأوسط
ولا تغفل مديرة البحوث في مؤسسة الدراسة الاستراتيجية بباريس عن غموض صورة السياسة الفرنسية الشرق أوسطية في بلدان المنطقة. ويغذي هذه الصورة تردد فرنسا في اتخاذ إجراءات حاسمة رداً على انتهاكات إسرائيل الحق (القانون) الدولي المرة تلو المرة. ويؤول أهلُ هذه البلدان التردد الفرنسي عجزاً وضعفاً. ويضعف التأويل هذا نظام الأحلاف. ويهدي موسكو ذريعة تستعملها السياسة الروسية في التنديد بالكيل بمكيالين، وتزيين نهجها في المنطقة، وفي أوروبا. ولا تتورع السلطات الإسرائيلية عن اللعب لعبة مزدوجة مع روسيا، عند الحاجة، إن في سوريا أو في الملف الإيراني، على حساب المصالح الأوروبية.
الفوضى خير من الدولة القوية
وجواباً عن سؤال عن المغزى من قصف الجيش الإسرائيلي لبنان وسوريا، على رغم احتمال أن يؤدي هذا القصف إلى تصدّع هاتين الدولتين الضعيفتين، تروي لور فوشيه أنها طرحت هذا السؤال على مسؤولين رفيعين في إسرائيل. فكان جوابهم أنهم يفضلون انتشار الفوضى على حدودهم على نشوء منظمة مسلحة أو دولة قوية قد تهاجمهم في يوم من الأيام المقبلة. أما فرنسا فتريد، خلافاً للدولة العبرية، على قول الكاتبة، تجنب السيناريو العراقي الذي أفضى إلى انهيار الدولة وتقسيمها، وترتب عليه نتائج سياسية وأمنية طاولت الأراضي الفرنسية. وتراهن فرنسا على نجاح انتقال سوريا، في قيادة حاكم دمشق القوي أحمد الشرع، إلى دولة متماسكة ومستقرة. ويقلقها إمعان إسرائيل في الضغط على مؤسسات الدولة اللبنانية، وحملها على نزع سلاح "حزب الله"، على رغم تشارك الطرفين، فرنسا وإسرائيل، هدف تجريد هذه الميليشيات من سلاحها.
فرنسا وقطر
ومهاجمة الدوحة، في السياق نفسه، تعطل الوساطة القطرية في قضية غزة. وهذه الوساطة تفترض حواراً بين الأطراف المتحاربة. وهو ما تحرص فرنسا على دوامه ورعايته. فقطر حليف وقّعت معه باريس اتفاقية تعاون ودفاع. والضربة دليل على عجز فرنسا عن تحصين حليفها. وهي تفاقم الخلافات بين الأوروبيين والأميركيين، وتبعث الشكوك في جدوى السياسة الدولية المتعددة الأطراف.
مثال الهيمنة وشروطه
وتشرح الباحثة ما تعنيه بالتشكيك هذا. فتذكّر بأن مثال الهيمنة العسكرية الإسرائيلية يقوم أولاً على علاقة ثنائية وحصرية بين الدولة العبرية وواشنطن. ويقوم، ثانياً، على عزل دول المنطقة، وإخراجها، هي والقوات الدولية لحفظ السلام ("الفينول" في لبنان، و"الفنيود" في سوريا)، والوسطاء على العموم- من دائرة التشاور والتعاون. وعليه، لا تحتسب السياسة الإسرائيلية المصالح الفرنسية في المنطقة. وهي لا تقتصر على هذا، بل تسعى
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلى طرد فرنسا من الشرق الأوسط العربي، دبلوماسياً ومحلياً. فعرقلت اشتراك فرنسا في لجنة الإشراف على وقف النار، برئاسة الولايات المتحدة، في لبنان، على خلاف الرغبة الأميركية، ولم تتستر على فعلها هذا. أي إن فرنسا، في نظر إسرائيل، لم تعد شريكاً دبلوماسياً، وأمست بيدقاً. وقد يكون البيدق الفرنسي مفيداً، شأنه في إقرار العودة الآلية إلى عقوبات الأمم المتحدة على برنامج إيران النووي ("سناب باك"، أو "عملية الزناد"). وإذا لم يماشِ الرأي الفرنسي الموقف الإسرائيلي، على ما هي الحال في الأراضي المحتلة ولبنان، تحول هدفَ تنديد وتشهير حادّين.
"معاداة السامية" أداة تشهير
وبلغت علاقات الدولتين حد القطيعة مع الحملة التي شنتها الحكومة الإسرائيلية على الرئيس إيمانويل ماكرون غداة المبادرة الفرنسية- السعودية، والدعوة إلى حل الدولتين. ونتنياهو كان، على الدوام، ناطقاً بلسان الخطاب المعادي لأوروبا. وحاول التوسل بمسألة معادلة السامية في كل القضايا السياسية. ولكن الهجوم على الرئيس الفرنسي، هذه المرة، بحسب مقارنة الباحثة، بلغ درجة غير معهودة من التجنّي والتضليل. ولا يقف الهجوم عند الحملة الكلامية، بل يتعداها إلى عمليات تدخل في الشؤون الفرنسية المحلية، على شاكلة تأييد تسلم اليمين المتطرف زمام الحكم في فرنسا، خلفاً لماكرون.
وفي فبراير (شباط)، جاهر وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، بدعوة سفرائه في فرنسا وإسبانيا والسويد إلى إقامة علاقات بالأحزاب اليمينية المتطرفة المحلية. وفي الشهر نفسه، انضم حزب نتنياهو، الليكود، إلى كتلة النواب المحافظين في البرلمان الأوروبي، "وطنيون من أجل أوروبا"، التي يترأسها جوردان بارديللا، مساعد مارين لوبن على رأس "التجمع الوطني"، حزبها.
ويتذرع نتنياهو بالولايات المتحدة إلى إيذاء ماكرون، وتشهد على ذلك رسالة سفير الولايات المتحدة في باريس، في أغسطس (آب). وتلوم الرسالة الرئيس الفرنسي على "مهادنته" معاداة السامية، وضعف تصديه لمكافحتها. وفي ضوء هذه الأفعال، خلصت باريس، على ما ترى لور فوشيه، إلى أن حكومة تل أبيب قد يهدد خطرها المنطقة، بطبيعة الحال، وإلى المنطقة، قد يهدد فرنسا مباشرة في صفتها نموذجاً للديمقراطية الليبرالية.
إما الصراع وإما الإمحاء
وتذهب الخبيرة في السياسة الإسرائيلية إلى أن باريس تعوّل على مرحلة ما بعد نتنياهو في سبيل إصلاح ذات البين بين الدولتين. وتحمّل رئيس الوزراء الإسرائيلي المسؤولية الأولى عن تأزّم علاقات البلدين. وتستدرك الباحثة قائلة: إن هذا التوقّع قد يَخيب، وهي ترجح خيبته. وتعلل ترجيحها بتغير المجتمع الإسرائيلي تغيُّراً عميقاً جراء غلبة القومية الدينية والتطرف اليميني. ويعجز وجوه المعارضة، من الوسط واليسار، عن الذين يميلون إلى قيام دولة فلسطينية، عن صوغ رؤيا بديلة تتولى إنهاء الحرب في غزة.
فعلى باريس، بهذه الحال، التفكير من جديد في استراتيجيتها الشرق أوسطية، والشراكة مع إسرائيل جزء من هذه الاستراتيجية، فإما أن ترضى بعلاقة تقوم على ميزان القوى، وتدافع عن مصالحها الكبيرة، وتتعرض لسياسة شديدة العدوانية تشنها إسرائيل عليها، وإما أن ترضخ وتقبل ذواء دورها ونفوذها، وتتوارى من المنطقة.