Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بعد ثلاثة عقود من الغياب: مرفأ جونيه يعود بـ"بحر من الفرص"

منذ ولادته في "ستينيات الازدهار" مروراً بعقود الحرب والإقفال ووصولاً إلى أزماته الراهنة يعود مرفأ "لؤلؤة المتوسط" اليوم بوصفه فرصة اقتصادية وسياحية لوصل لبنان بالقارة الأوروبية

النائب افرام متحدثاً خلال حفل افتتاح مرفأ جونيه، في 9 سبتمبر الحالي (مواقع التواصل)

ملخص

منذ تأسيسه عام 1968 في عهد الرئيس اللبناني السابق شارل حلو كترجمة لنهضة عمرانية واقتصادية عاشها لبنان، مثل مرفأ جونيه نافذة استراتيجية لمحافظة كسروان – جبيل على البحر المتوسط.
ازدهر تجارياً وسياحياً حتى أغلقت الحرب الأهلية أبوابه وحولته إلى شريان حياة وهدف للقصف في آن واحد. وبعد ثلاثة عقود من الإقفال عاد المرفأ إلى الواجهة برعاية رئيس الجمهورية جوزاف عون ومبادرة النائب نعمة أفرام، ليطرح نفسه مجدداً كبوابة سياحية واقتصادية نحو قبرص وأوروبا، وكمتنفس لتخفيف الضغط عن مطار بيروت، مع وعود بمشاريع تطويرية تستهدف استقطاب السياح والاستثمارات وخلق فرص عمل جديدة، في محاولة لربط لبنان من جديد بالمتوسط وتعزيز حضوره في زمن الأزمات.

في لبنان ليست المرافئ أحواضاً للإبحار وحسب، إنها محطات تختزن ذاكرة المدن، وتختصر في صمتها صعود الأمم وانكساراتها. بيروت دفعت ثمن انفجار دمر قلبها البحري، طرابلس بقيت عالقة بين أحلام الدور الإقليمي وأوجاع الإهمال، وصور وصيدا تعانقان البحر منذ فينيقيا... أما جونيه فظلت طوال ثلاثة عقود كمدينة محاصرة محرومة قسراً من نافذتها على المتوسط.
مرفأ جونيه، التي يحلو لمحبيها إطلاق لقب "لؤلؤة المتوسط" عليها، ليس مشروعاً عمرانياً فحسب، إنه صفحة مطوية من كتاب "المارونية السياسية" في الستينيات، ورمز لمنطقة أرادت أن تثبت أنها قادرة على أن تكون جزءاً من نهضة المرافئ اللبنانية. أُسس المرفأ عام 1968 في عهد الرئيس السابق شارل حلو، حين عاش أعوام ازدهار قصيرة، قبل أن تحيله الحرب ساحة مستهدفة بالقصف، وملاذاً لسكان ما كان يعرف "المنطقة الشرقية" حين أقفل مطار بيروت.
اليوم، يعاد فتح مرفأ جونيه، ليس استعادة لذكرى فحسب، بل سعياً إلى استعادة الدور، ففي زمن يختنق فيه مطار بيروت بازدحام المسافرين، وتبحث فيه المدن اللبنانية عن رئة اقتصادية وسياحية جديدة، يأتي مرفأ جونيه ليقول إن لبنان لم يخرج بعد من المعادلة المتوسطية، فالمسافة إلى قبرص لا تتجاوز 200 كيلومتر، والبحر لا يزال قادراً على أن يكون جسراً بين لبنان وأوروبا، بين الذاكرة والأمل، وبين بلد يترنح تحت الأزمات وشعب يرفض أن يقطع حبل الصلة بالعالم.
برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون، وبمبادرة من النائب نعمة أفرام، وبحضور وزراء ونواب وفاعليات سياسية ودينية واقتصادية واجتماعية، أعيد افتتاح مرفأ جونيه السياحي تحت شعار "بحر من الفرص". الحدث لم يكن بروتوكولياً فحسب، بل حمل دلالات سياسية واقتصادية وسياحية، تعكس حاجة لبنان الملحة إلى متنفس جديد، وإلى جسر يربطه بقبرص وأوروبا، بعد 30 عاماً من الإقفال.

بوابة نحو قبرص وأوروبا

في هذا السياق، أكد النائب أفرام في حديث لـ "اندبندنت عربية" أن "هذا المرفأ سياحي بالدرجة الأولى، وكان من المفترض أن يفتح منذ زمن طويل، وهو يشكل حاجة ملحة لربط لبنان بقبرص، وتخفيف الضغط عن مطار بيروت الذي يعاني ازدحاماً خانقاً في الطيران وحركة السير، فالمسافة بين جونيه وقبرص لا تتطلب أكثر من أربع إلى خمس ساعات عبر رحلة بحرية حديثة، مما يوفر متنفساً ضرورياً للبنانيين".
وأوضح أفرام أن "المرفأ يشكل فرصة اقتصادية وسياحية كبرى، إذ يمكن استقطاب جزء من الـ5 إلى الـ6 ملايين سائح الذين يقصدون قبرص سنوياً، وإذا نجحنا باستقطاب 10 في المئة منهم لقضاء يومين أو ثلاثة في لبنان، نكون قد حققنا قيمة مضافة هائلة للاقتصاد الوطني، كذلك فإن قرب لبنان من أوروبا، على بعد 200 كيلومتر فحسب، يجعل من هذا المرفأ بوابة حقيقية نحو القارة الأوروبية".
وأشار النائب اللبناني إلى أن "عدداً كبيراً من اللبنانيين اشتروا أو استثمروا بشقق في قبرص، وسيستفيدون من هذا الخط البحري الذي يسهل انتقالهم بين بيوتهم هناك وبيوتهم في لبنان. كذلك فإن افتتاح الجامعة الأميركية في بيروت فرعاً لها في مدينة بافوس القبرصية يفتح مجالاً لتكامل أكاديمي أكبر بين الحرمين، ويمكن أن يسهم المرفأ في استقطاب السياحة الصحية عبر التعاون بين المستشفيات اللبنانية والقبرصية".

ولفت أفرام إلى أن "البنية التحتية للمرفأ في حاجة إلى تطوير إضافي، خصوصاً لجهة تجهيزات الجمارك والأمن العام والفايبر أوبتيك (Fiber Optic) وأجهزة الفحص الحديثة (Scanners)، إضافة إلى الحاجة إلى تغميق المرفأ الذي لا يتجاوز عمقه حالياً أربعة أمتار. وفي المستقبل، هناك خطة لإنشاء مرفأ حديث قادر على استقطاب بواخر كبيرة تتسع لـ5 آلاف راكب (cruise ships)، وهو مشروع يحتاج إلى استثمار بقيمة 50 إلى 60 مليون دولار، ومن المرجح أن يطرح ضمن مشاريع قانون الـBOTالجديد" (Build Operate Transfer) والتي تعني البناء والتشغيل والتحويل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكشف المتحدث ذاته أن "النقاش قائم مع السلطات القبرصية حول منح تسهيلات (Quick Pass) للفيزا السياحية لسبعة أيام، بما يسمح بتفعيل حركة السياحة بين البلدين. ومن شأن هذا المرفأ أن ينعش الفنادق والمنتجعات و'كازينو لبنان' ومغارة جعيتا، ويستعيد معانيه في وجدان اللبنانيين، إذ كان في زمن الحرب شريان الحياة الوحيد لسكان المنطقة الشرقية المحرومين من مطار بيروت. واليوم نريده أن يكون مرفأ للمستقبل والسياحة والازدهار".
وختم أفرام بالقول "نحن بانتظار وصول الباخرة لبدء التشغيل الفعلي. صحيح أن الموسم قد مر وتأخرنا قليلاً، لكننا نعمل حتى في الشتاء لتأمين خدمة أساسية لأبناء المنطقة والجوار، تخفف من الأعباء والزحمة وتعيد وصل لبنان بمحيطه".

بحر من الفرص

بدورها، أكدت المسؤولة الإدارية في رئاسة مرفأ جونيه السياحي كارلا عساكر طوق أن "الاقتصاد اللبناني عموماً والقطاع التجاري خصوصاً يعيشان مرحلة صعبة منذ عام 2011، بعدما كان الاقتصاد اللبناني يسجل نمواً نموذجياً راوح ما بين 9 و10 في المئة، لكن مع اندلاع الأزمة السورية وما تبعها من تداعيات، وصولاً إلى الحرب الأخيرة على لبنان، بدأت نسب النمو بالانخفاض تدريجاً حتى لامست الصفر خلال الأعوام الماضية. ومع ذلك عادت الثقة هذا العام إلى الحركة الاقتصادية مع بداية عهد الرئيس جوزاف عون، إذ إن عودة السياح والمستثمرين العرب إلى لبنان أمر أساس لتحريك العجلة الاقتصادية، وكان لافتتاح مرفأ جونيه السياحي مجدداً دور محوري كونه همزة وصل اقتصادية وسياحية بين لبنان وأوروبا، لا سيما مع قبرص"، وأضافت عساكر أن "مرفأ جونيه يشكل بالفعل بحراً من الفرص، فهو مشروع اقتصادي وسياحي من شأنه أن يخفف البطالة ويحد من هجرة الشباب في ظل الظروف الراهنة، فافتتاح المرفأ سيؤدي إلى إنتاج وظائف مباشرة وغير مباشرة ومستحدثة، مما يرفع مستوى الدخل ويحسن من رفاهية المجتمع المحلي، وسيسهم في إنعاش قطاعات حيوية مثل الفنادق والمطاعم والنقل، إضافة إلى قطاعات زراعية وإنشائية مرتبطة، بما يعزز النشاط الاقتصادي الوطني">

وأكدت أن "مرفأ جونيه السياحي يشكل نقطة تحول لدعم السياحة البحرية، بما يشمل جميع الأنشطة الترفيهية والرياضية في خليج جونيه من رحلات اليخوت والقوارب إلى الغوص والرياضات المائية وصيد الأسماك. ومن شأن هذه الحركة أن تسهم في تطوير البنية التحتية وقطاع الفنادق والرحلات، وتعزيز التفاعل الثقافي والسياحي والاقتصادي بين الزوار والمجتمع المحلي أولاً، ثم مع المرافئ الإقليمية والدولية لاحقاً، مما يجعل من جونيه 'موناكو الشرق الأوسط'"، وأكدت أنه "واجبنا خدمة أي مشروع إنمائي وسياحي واقتصادي في قضاء كسروان. ومن موقعنا الإداري نؤكد التزامنا الشفافية وثقتنا بمعالي وزير النقل والأشغال فايز رسماني ومدير المرفأ الدكتور أحمد تامر. وسنعمل على وضع خطة توجيهية واضحة ضد الفساد، ترتكز على تحديد المبادئ التوجيهية والمتطلبات النظامية والممارسات الرائدة للشراكة، مع ضمان الإفصاح العلني والدقيق عن جميع البيانات في الوقت المناسب، بما يعزز ثقة المواطنين والشركاء ويضمن استدامة هذا المشروع الحيوي وانعكاسه الإيجابي على لبنان وجونيه".

ولادة على المتوسط

قبل أن يعاد فتح المرفأ على البحر، لا بد من فتح صفحاته في الذاكرة، فالتاريخ هنا ليس هامشاً، بل ركيزة تروي كيف ولد المشروع، وكيف ازدهر، ثم كيف تحول في الحرب إلى شريان حياة وهدف للقصف في آن معاً.
يقول المؤرخ الدكتور عماد مراد إن "مرفأ جونيه أنشئ عام 1968 في عهد الرئيس السابق شارل حلو، في زمن كانت المارونية السياسية في ذروة حضورها، ولبنان يعيش نهضة عمرانية واقتصادية وثقافية. آنذاك، كان للبلاد مرافئ أساسية في بيروت وصيدا وصور وطرابلس، لكن منطقة كسروان – جبيل بقيت بلا نافذة بحرية، فجاء المرفأ تلبية لمطلب مزمن، وترجمة لموقع جغرافي يطل على المتوسط بامتداد لا ينكسر".

ويوضح مراد أن "المشروع لم يكن قراراً إدارياً عابراً، بل ثمرة دراسات ومطالب أهلية. وبين عامي 1968 و1975 عاشت جونيه فترة ذهبية: ازدهار اقتصادي وتجاري وصناعي وثقافي، أسواقها تعج بالحركة، والمدينة تتقدم كعقدة وصل في الخريطة اللبنانية".

لكن الحكاية أعمق من ذلك، فبحسب مراد "ازدهرت جونيه منذ القرن الـ19، خصوصاً بعد إقرار نظام المتصرفية عام 1861. يومها لمعت سوقها التجارية، واستفادت من موقعها الوسطي الذي يربط الشمال بالجنوب، ومن قربها من بيروت والشاطئ. عوامل عدة صنعت هذا الصعود: الجغرافيا، والاستقرار السياسي والأمني، والكثافة السكانية المتنامية، واستقرار المؤسسات الكنسية والرهبانية والإرساليات".

شريان حياة في الحرب

ويضيف المؤرخ "مع اندلاع الحرب اللبنانية (1975 – 1990)، دخل المرفأ مرحلة جديدة، فقد تحول إلى شريان حياة لسكان المنطقة الشرقية بعدما تعطل مرفأ بيروت وتعذر الوصول إلى المطار. صار المرفأ معبراً رئيساً إلى قبرص ومنها إلى العالم، بخطوط بحرية يومية بطيئة وسريعة، لكن أهميته الاستراتيجية جعلته عرضة للقصف أكثر من مرة، في محاولة لخنق المنطقة وقطع صلتها بالخارج".
ويؤكد مراد أن "مرفأ جونيه لم يكن يوماً مجرد بنية تحتية، لقد شكل نافذة على العالم، ورافعة لازدهار تجاري وثقافي وسياحي في كسروان وجبيل، وحلقة وجدانية في ذاكرة اللبنانيين بين السلم والحرب، هنا يلتقي الحنين بزمن الازدهار مع الأمل بأن يبقى البحر جسراً لا متراساً".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير