Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مدينة إسنا المصرية تكشف إرث تاريخ متعدد الطبقات

حصدت جائزة الآغا خان للعمارة واسمها مشتق من "أثينا" بحسب الجغرافي الفرنسي كلود دانفيل

واجهة معبد في مدينة إسنا المصرية التاريخية (وزارة السياحة)

ملخص

فازت مدينة إسنا جنوب مصر بجائزة الآغا خان 2025 عن مشروع "إحياء المدينة التاريخية". مدينة فتنت الحملة الفرنسية وخلدها فلوبير في رسائله، تكشف طبقات التاريخ المصري عبر معابد ومقابر وأديرة وكنائس ومساجد ووكالات وأسواق، هي بمثابة نموذج حي لذاكرة متعددة العصور.

أعادت جائزة الآغا خان العالمية للعمارة لعام 2025 (الدورة الـ16) مدينة إسنا إلى الواجهة، بعدما اعتبرها علماء الحملة الفرنسية قبل ما يزيد على قرنين أول البقاع التي عمرت في مصر العليا. وسبق أن ربط الجغرافي الفرنسي كلود دانفيل (1697- 1782) بين إسنا وأثينا، باعتبار أن اسم الأولى مشتق من اسم الثانية، ويعني "البراقة". ويدعم هذا أن اسم إسنا في المصادر العربية خلال العصور الوسطى كان ينطق بفتح الألف: أسنا. وجاء مشروع إحياء إسنا التاريخية ضمن سبعة مشاريع من دول مختلفة حصلت على الجائزة هذا العام.

وأقيمت ضمن المناسبة حفلة نظمتها مؤسسة الأغا خان للتنمية في مدينة بيشكيك داخل جمهورية قرغيزستان، بحضور رئيس شبكة الآغا خان للتنمية الأمير رحيم آغا خان الخامس، ورئيس وزراء قيرغيستان أديـلبك قسيمالييف، وممثلي الدول الفائزة وكبار المعماريين والخبراء الثقافيين من مختلف أنحاء العالم، إلى جانب الشركاء المؤسسين لمؤسسة "تكوين لتنمية المجتمعات المتكاملة" (الجهة المصممة والمنفذة للمشروع المصري).

رسائل فلوبير

تغنى علماء الحملة الفرنسية بإسنا، إنساناً وحجراً، فقالوا ضمن مواضع متفرقة من موسوعة "وصف مصر": "مدينة مهمة، آهلة بالسكان في مصر العليا، إحدى المدن الرئيسة في جنوب مصر وأكثرها أهمية، يعج ميناؤها بنشاط تجاري. مصدر ترف وأبهة. يتسم سكانها بالرقة والوداعة... إلخ".

ارتبطت إسنا في الوجدان الأدبي العالمي برسائل غوستاف فلوبير ومذكراته عن رحلته إلى مصر. فيها التقى واحدة من أشهر شخصيات رحلته: الراقصة التركية كوتشوك هانم، التي جرى نفيها مع غيرها من راقصات القاهرة في عهد محمد علي إلى مدن الصعيد، فصارت بيوتهن مصدر إلهام للرحالة، الذين كتبوا عنهن بروح استشراقية مشبعة بالفتنة والغرابة.

ففي خان الشناقرة، القائم حتى اليوم شاهداً على تلك الحكاية، عاش فلوبير مغامرته الغرامية مع كوتشوك هانم، الراقصة التي عرفت برقصة "النحلة" الشهيرة. أحرقته بنار عشقها لعدة ليالٍ، غير أنه حين عاد من رحلته إلى النوبة فوجئ بأنها لم تعد تذكره.

دوَّن فلوبير تلك التجربة في رسائل بعث بها إلى صديقته الأديبة الفرنسية لويز كوليه، التي أثارتها حكاياته، فسافرت لاحقاً إلى مصر لزيارة إسنا، لكنها لم تعثر على أثر للراقصة التي صارت رمزاً لعلاقة الأدب الغربي بالشرق.

وفي تلك المنطقة التي يقع فيها خان الشناقرة وسط المدينة القديمة وحي أثريائها، توجد جملة من الآثار المهمة الأخرى التي تمتد لعصور تاريخية متنوعة، ربما لم تعد متجمعة في مكان واحد بهذه الصورة كما هي في مدينة إسنا. مدينة تحمل طبقات تاريخية تكشف عن الحمض النووي للتاريخ المصري المتعدد الطبقات. في قلب معبدها الرئيس تقع كنيسة قديمة، وعلى مقربة منها يوجد أقدم مساجدها، المسجد العمري، في مساحة لا تزيد على 100 متر.

معبد خنوم

عرفت إسنا بمعبدها "خنوم" أو "البربة" كما يحب أهالي المدينة أن يطلقوا عليه. ويبعد نحو 30 متراً فقط من خان الشناقرة. وهو المعبد الذي أسر علماء الحملة الفرنسية بعمارته المميزة، فأطنبوا في وصفه: "إن جماله الفائق يعطي الأمل أن نراه ذات يوم يحمل آثاراً كبرى ويسهم في تجديد العمارة خلال القرن الـ19"، وعبروا عن ندمهم لتركه مطموساً تحت التراب: "... وكان شعورنا بالندم قوياً لدرجة تجعلنا نفكر بأن هذا الأثر سيأتي يوم ويختفي إلى الأبد". ولكن هذه المخاوف تبددت، وصار معبد إسنا واحداً من أهم المزارات السياحية في صعيد مصر. يحوي "زودياك إسنا"، أي الزخارف الفلكية المنقوشة في سقف المعبد، وهي رسومات للأبراج والكواكب جرى ترميمها لتعود إليها ألوانها الأصلية. زودياك قريب الشبه بذلك الذي سرقه الفرنسيون من معبد دندرة.

أزهر الصعيد

وفي القلب من هذا المعبد عثر الأثريون على كنيسة صغيرة أحيط موقعها بالحبال. وخارج المعبد بنحو 50 متراً يوجد أقدم مساجد إسنا، المسجد العمري أو العتيق، الذي عرف أيضاً باسم "أزهر الصعيد". فهو كان منارة علمية في العصور الوسطى تخرج فيها علماء كبار، مثل ابن الحاجب الإسناوي. ويتميز هذا المسجد بمئذنته النادرة التي تعود إلى العصر الفاطمي وبنيت عام 474هـ، وتعد لذلك واحدة من أقدم المآذن في مصر الإسلامية.

وتتميز بتصميمها المعماري الخاص المكون من قاعدة مربعة تعلوها طبقة أسطوانية ثم طبقة مثمنة، ويبلغ ارتفاعها نحو 25 متراً. وكان لهذه المئذنة بخلاف الأغراض الدينية، وظائف تتعلق بإرشاد السفن والمراكب وبخاصة أن إسنا مدينة تجارية لها ميناء نهري، وهو ما رصده علماء الحملة أثناء إقامتهم فيها: "أما ضفة النهر فمحاطة بعدد كبير من المراكب وكأنها ميناء يعج بنشاط تجاري". وكانت لها وظيفة حربية نظراً إلى ارتفاعها، تتمثل في التحذير من قدوم الأعداء، وبخاصة أن إسنا كانت ملاذاً آمناً للمهزومين، بحسب وصف علماء الحملة الفرنسية لها. وخلال زمن لاحق، لجأ الرئيس أنور السادات طالباً الأمان في منزل أحد أعيانها، قبل ثورة الـ23 من يوليو (تموز) 1952.

وكالة الجداوي

وعلى مقربة من المعبد يوجد واحد من أهم الآثار التي تعود إلى العصر العثماني: وكالة الجداوي التي أنشأها حسن الجداوي الذي أقام في منزله بعض كبار ضباط الحملة الفرنسية، وجعلوا من حديقته مكاناً لاجتماعاتهم. وتأسست تلك الوكالة عام 1712، وتتكون من فناء كبير يحيط به رواق يوصل إلى محالها التجارية، ويقع أعلاه رواق مشابه يؤدي إلى مساكن التجار والمسافرين.

وتشتهر إسنا أيضاً بسوق "القيصرية" الذي جرى ترميمه ضمن المشروع الفائز بجائزة الأغا خان، وهو واحد من أقدم أسواق الصعيد. وهو من نوعية الأسواق المسقوفة، التي عادة ما تكون في قلب المدن، وتبنى على هيئة صفوف من الحوانيت تفصلها عن بعضها بعضاً أزقة ضيقة مغطاة بأسقف من الخشب أو القباب لحماية البضائع والمتسوقين من الشمس والمطر. وترجع التسمية إلى كلمة قيصر (Caesar) أي السوق الكبير أو السوق الإمبراطوري. وانتقلت التسمية من البيزنطيين إلى العرب، وصارت تطلق على الأسواق الفخمة أو الرئيسة. وهذا النوع من الأسواق لا يكون موجوداً عادة إلا في المدن التجارية الكبرى.

وفي قلب المدينة أيضاً، توجد واحدة من أقدم المعاصر التقليدية التي لم تتغير على مر الزمان، فقد رصد علماء الحملة الفرنسية 20 سرجة/ معصرة لزيت الخس والسمسم والجرجير، انقرضت ولم يتبق منها سوى معصرة بكور، التي ما زالت تدار يدوياً.

مدينة الشهداء

وخارج هذه الآثار المتنوعة من حقب مختلفة، توجد في أرياف إسنا جملة من الآثار المدهشة، لعل أهمها الأديرة التاريخية المهمة التي يعود تاريخ بعضها للقرن الرابع الميلادي، مثل دير الشهداء ودير الفاخوري. فالأول ارتبط بالمذبحة العظيمة التي ارتكبها دقلديانوس بحق المسيحيين وراح ضحيتها الآلاف من الشهداء في إسنا، حتى باتت تعرف باسم "مدينة الشهداء". وكان هذا الدير مقصداً للحجاج المسيحيين لقرون طويلة. ويقول عنه علماء الحملة الفرنسية: "... وتعد الكنيسة مكاناً يحج إليه كثر ويظهر أن لهذا الدير أهمية بالغة والرحالة الذين سبقونا يتفقون كلهم على ذلك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 أما دير الفاخوري الذي يقع في قلب صحراء إسنا الغربية، فيتميز بوجود حصن تاريخي من ثلاثة طوابق، وكنيسة ذات رسومات وكتابات قبطية رائعة. ويضاف إلى ذلك جملة من المغارات والأديرة الصغيرة في الجبال الشرقية والغربية لإسنا، فقد استغل الرهبان الأوائل الجبال المحيطة بها كأماكن للعزلة والصلاة. فبعض الكهوف ما زالت تحمل نقوشاً قبطية وصلباناً محفورة. فقد كانت إسنا مركزاً مهماً للحياة الرهبانية القبطية، وفيها أديرة للشهداء والقديسين، مما جعلها مكاناً مقدساً عند الأقباط لقرون عدة.

محمية طبيعية

وخارج مدينة إسنا توجد أيضاً جملة الآثار المصرية القديمة مثل آثار منطقة "بين الجبلين" التي تحوي مقابر من عصر ما قبل الأسرات وصولاً إلى العصر اليوناني الروماني. ومن أبرز ما اكتشف فيها مقبرة "إتى" المعروضة في متحف تورينو بإيطاليا. وعثر فيها أيضاً على مقبرة نادرة لأسماك محنطة، يعرض بعضها داخل المتحف المصري وسط القاهرة.

وتوجد في إسنا "محمية الدبابية" وهي موقع جيولوجي عالمي فريد من نوعه يحتفظ بتتابع جيولوجي كامل بين عصري الباليوسين والإيوسين (50 – 55 مليون عام)، وهو ما لا يوجد مكتملاً في أي مكان آخر حول العالم. فهي قطاع جيولوجي نموذجي معتمد دولياً لقياس العصور، يكشف للعلماء أسرار الحياة بعد انقراض واسع بسبب ارتفاع حرارة الأرض. وهو كذلك مرجع حيوي لتحديد أعمار الصخور والظروف البيئية القديمة، ومسجلة في قائمة المواقع المرشحة لأن تكون ضمن قائمة التراث العالمي بواسطة اليونيسكو.

لا يهدف مشروع إحياء إسنا التاريخية الفائز بجائزة أغا خان إلى ترميم الآثار المصرية فحسب، وإنما هو معني بالأساس بأن يعيش زائرو المدينة تجربة كاملة يتعرفون من خلالها على مطبخها المميز بأطعمته، والملابس التي يرتديها أهلها رجالاً ونساءً. تجربة إنسانية في المقام الأول لما يتميز به أهل إسنا من طيبة ووداعة، كما وصفهم علماء الحملة الفرنسية الذين مكثوا في مدينتهم شهرين: "إن أجمل ذكرياتنا هي التي نحتفظ بها لمدينة إسنا". وأشاروا إليها بوصفها مدينة للتعايش، بها أكثر من 300 أسرة قبطية تسهم مساهمة كبيرة في تجارتها وصناعتها: "مدينة تتمتع بالهدوء والسلام، أتيح لجنود الحملة فيها ممارسة مهنهم القديمة، فقامت في كل مكان مؤسسات فرنسية، وكل سكان إسنا كانوا يشاهدونها مستمتعين ومستفيدين منها. وبدأ الشبان المصريون يتعلمون من العمال الفرنسيين، فامتزجت العادات والملابس واللغات بطريقة توحي بأنها قد ذاب بعضها في بعض آخر".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة