Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شوارع تتحدث بلغات عدة: الأحياء المشتركة وجه آخر للبنان

تعتبر هذه المناطق المختلطة ليست فقط أماكن سكن، بل أيضاً ورش عمل مفتوحة

ملخص

منذ تأسيسه لعب لبنان دور "الملجأ" لأبناء قوميات وجنسيات مختلفة، وهو ما أكسب أبناءه سمة جديدة ألا وهي "التعايش وسط الاختلافات". ويضم هذا البلد الصغير جغرافياً مجموعة من الأحياء والمناطق التي يشار إليها على أنها "مركز تجمع" لأبناء جنسية معينة، على غرار "المخيمات" التي سرعان ما اتسعت لتشكل مأوى لمحدودي الدخل على اختلاف انتماءاتهم وهوياتهم.

في لبنان، البلد الصغير الذي كثيراً ما عرف بتنوع طوائفه، برزت في العقود الأخيرة ظاهرة جديدة تضاف إلى فسيفسائه السكانية وهي الأحياء الكاملة التي باتت مختلطة بين لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، إضافة إلى عمال وافدين من آسيا وأفريقيا. هذه الأحياء، الممتدة من برج حمود والنبعة في العاصمة بيروت إلى طرابلس شمالاً والبقاع شرقاً، تحولت إلى مختبر اجتماعي واقتصادي يختصر أزمات لبنان المعقدة: أزمة السكن، وغياب الخدمات، والاقتصاد الموازي، واختبار التعايش.

تدب الحياة الأحد أسبوعياً في "شارع الكنائس" ضمن حي الزاهرية في مدينة طرابلس، في دلالة لتعدد الكنائس فيه، التي تنتمي إلى أبناء مختلف الطوائف المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية، ولكن خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، اتخذ الشارع "نكهة جديدة"، فقد بدأت كنيسة "القديس نيقولاوس" الواقعة مقابل وقف الروم والملاصقة لأحد المساجد التاريخية باستقبال أبناء الجالية الإثيوبية في لبنان. في الصباح الباكر يبدأ العشرات من أبناء الطائفة القبطية بالقدوم، تأتي الإثيوبيات وهن متوشحات باللون الأبيض، في الداخل يؤدين الصلوات بلغتهن الأم، فيما تستقبل الباحة الخارجية أعداداً منهن، ممن لم يتمكن من حجز أماكن خاصة بهن في الداخل. أما في الخارج فتتولى فرقة من الجيش اللبناني الحراسة حرصاً على سلامة أبناء الجالية الأفريقية في لبنان.

الهوية الأفريقية تظهر في الشمال

في البداية نظر الأهالي بإعجاب وكثير من الاستغراب إلى تجمع أبناء الجالية الإثيوبية في منطقة الزاهرية، ولكن سرعان ما بدأ التفاعل، حين استقبل السكان وزوار مدينة طرابلس بالتصفيق والزغاريد زواجَ ثنائي من الإثيوبيين في المدينة وسط حشد كبير.

يعمل كثير من الفتيات الإثيوبيات في لبنان ضمن الخدمة المنزلية وقطاع النظافة، إلا أن أخريات اخترن شق طريقهن الخاص، وتعتبر الفتاة أنا واحدة من هؤلاء الشابات. فقد افتتحت محلاً لبيع السلع الخاصة التي تحمل "الهوية الأفريقية"، إذ تستقبل الزوار داخل محلها الواقع ضمن شارع الحرية في طرابلس بالقهوة، والبخور والخريطة الإثيوبية. يختزن المحل الأجواء الإثيوبية، فهي تبيع الزيوت العلاجية الخاصة والكريمات المستوردة من أديس أبابا وإريتريا للعناية بالشعر، إضافة إلى وصلات الشعر اللاتي يستخدمنها في الزينة، كذلك تبيع "الإنجيرا"، وهو خبز شعبي إثيوبي، وتقول "لقد أعد هذا الخبز في لبنان، بالمواد المتاحة هنا، ولكن في إثيوبيا المواد أكثر جودة وصحية ولا تسبب البدانة"، كما تشير إلى القهوة التي تعد بطريقة تقليدية من خلال تحميصها وطحنها وغليها في إبريق خاص.

من ناحية أخرى تتحدث الشابة عن التعايش، إذ "لا يقتصر الزبائن على أبناء الجالية الإثيوبية، لأن هناك لبنانيين يقصدونها لشراء المنتجات المتوافرة لديها".

التعايش السلمي والتبادل التجاري

طوال مئات الأعوام عاينت منطقة الزاهرية "الحياة المشتركة" بين أبناء الأديان الثلاثة، المسلمين والمسيحيين واليهود. وعلى رغم مرور سبعة عقود على رحيل "اليهود" من المنطقة الشمالية، فإن أملاكهم ما زالت حاضرة وسليمة في المنطقة الواقعة خلف كنيسة القديس جاورجيوس ولغاية خان العسكر. ويؤكد أهالي هذه المنطقة أن "وكيل الطائفة الإسرائيلية في بيروت يتقاضى البدلات المالية"، لقاء إشغال هذه الأملاك.

ليس بعيداً من ذاك المكان، يستمر التعايش السلمي والتبادل التجاري بين أبناء الطائفتين الإسلامية والمسيحية. يعكس داوود عكاري ومحمد مرعبي هذا المشهد، يتحدثان عن كثير من القواسم المشتركة، ونصف قرن من الأوقات الطيبة، والاجتماع حول "طاولة الداما" للتنافس والنقاش حول شؤون وشجون البلد.

يصف داوود عكاري حال الزاهرية شارع الكنائس، حيث "يحب الناس بعضهم بعضاً" "توجد خمس كنائس لمختلف الطوائف المسيحية، وجانبها مباشرة ثلاثة جوامع أثرية، ويؤدي أبناء الطوائف مختلفة صلواتهم وشعائرهم من دون تدخل من أحد"، مضيفاً "نعيش مع بعض هنا منذ عشرات الأعوام، ولم أغادر محلي حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)... أنا أسكن في منطقة القبة، كنت كل يوم أصعد وأنزل إلى المنطقة تحت القصف والقنص، واستمررنا على رغم كل الظروف".

من جهته، يلفت محمد مرعبي إلى أنه "في الزاهرية لا توجد طائفية، فالمسلم يصلي في الكنيسة، والمسيحي يصلي في الجامع"، حيث "يوجد تداخل طائفي"، و"الجميع يصلي ها هنا، لبناني أو إثيوبي، فالجميع يعبد الرب على طريقته"، و"لا يبتعد الجامع عن الكنيسة لأكثر من 30 متراً، حيث تصدح الجمعة أصوات الجوامع، والأحد أجراس الكنائس... وهو ما يتميز به لبنان"، مشدداً على أن "التقارب بين أماكن العبادة ينعكس على نفسية السكان من أبناء الطوائف الإسلامية والمسيحية".

المخيمات الفلسطينية: البداوي نموذجاً 

ننتقل إلى بقعة جغرافية أخرى في طرابلس، وتحديداً إلى مخيم البداوي للاجئين الفلسطينيين.

عند تأسيس المخيم قبل عقود شكل "مجتمعاً مصغراً" للاجئين الفلسطينيين وأبنائهم، إلا أنه مع مرور الوقت بدأ المخيم بالانفتاح على المحيط من المواطنين اللبنانيين والسوريين الهاربين من بلادهم، فبات اليوم خليطاً مجتمعياً من الجنسيات الثلاث.

ما إن تصل إلى هناك حتى تجذبك أسماء المحال، التي تعطي انطباعاً حول هوية وجنسية أصحابها، والجمهور الذي تحاول اجتذابه، بين "باب الحارة" و"الدمشقي" و"الشام"، وأشهر محال الحلويات الحمصية، فهي جزء من "النوستالجيا" والتغريبة السورية. عند مدخل المخيم يلاحظ تنافس بين التنظيمات الفلسطينية على إبراز هويتها النضالية، إذ ما زال حاضراً "أبو عمار" ياسر عرفات القائد التاريخي لحركة "فتح"، والرئيس الحالي محمود عباس، إلى جانب الشيخ أحمد ياسين أحد مؤسسي حركة "حماس"، وأسماء وصور كثيرة أخرى. أما داخل المخيم فتحضر أحياء القدس وشمال فلسطين بقوة داخل المخيم، كما أنه لا يمكن تجاهل الوجود السوري خلال العقد الأخير من الزمن.

يتحدث مسؤول اللجنة الشعبية عن وضع المخيم الحالي، أبو رامي خطار، ويقول "يشهد المخيم كثافة سكانية كبيرة بفعل الأزمات المتلاحقة، بدءاً بموجة النزوح في 2007 عندما توافدت غالبية أبناء مخيم نهر البارد، وقطنت في البداوي، كذلك استقبل المخيم قبل ذلك في حرب إسرائيل على لبنان خلال يوليو (تموز) 2006 الآلاف من اللبنانيين والسوريين، إضافة إلى تأثير الأزمة السورية بدءاً من 2011، التي أدت إلى توافد موجة جديدة من السوريين – الفلسطينيين"، مضيفاً "لا يتجاوز عدد سكان مخيم البداوي الأصليين 13 ألفاً، ولكن بسبب الأزمات والنزوح بات العدد فوق 30 ألفاً من مختلف الجنسيات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المناسبات الاجتماعية واحدة للجميع

يتطرق خطار إلى تأثير الكثافة على الخدمات داخل المخيم، فقد "استطاعت اللجنة الشعبية التكيف مع الواقع الموجود، وتحول أبناء مختلف الجنسيات إلى عائلة واحدة، يتفاعل أفرادها، وتحولوا إلى أصدقاء وأهل، إذ لم نشهد احتكاكات اجتماعية بفعل احترام أبناء المخيم لمن وفد إليهم إلى حد بعيد".

يعتبر خطار أن التعايش حاضر بين مكونات المخيم، وإذا سرت داخل شوارعه، لا يمكن التمييز بين لبناني أو فلسطيني أو سوري، ولم نشهد أي تمييز على مستوى الخدمات التي ما زالت تتوزع بينهم في استمرار.

اتخذ التفاعل الاجتماعي أبعاداً جديدة مع مرور الوقت، إذ يتشارك السكان المناسبات الاجتماعية، ويقول خطار "يلتقي الناس في الأعياد المختلفة، ووصلت الأمور إلى ازدياد الزواج المشترك بين اللبناني والفلسطيني والسوري، والأمر نفسه ينطبق على طقوس الوفاة وواجب العزاء"، إضافة إلى "الانتعاش الاقتصادي بفعل الدخول اللبناني والسوري، وتحديداً محال الثياب السورية، إذ يقدم هؤلاء سلعة جيدة بأسعار مقبولة".

التفاعلات "بين الفقراء"

تؤدي العوامل الاقتصادية دوراً كبيراً في "التعايش" أو "الانغلاق" داخل المناطق المشتركة أو المتنوعة. وهو ما تتطرق إليه المتخصصة في الدراسات الأنثروبولوجية مهى كيال التي تسلط الضوء على "ثقافة الفقر"، حين تجمع الحال الاقتصادية والاجتماعية مجموعات من الناس في المدن، مشيرة إلى أمثلة في لبنان لا تقتصر على المخيمات، وإنما تمتد إلى أحياء شعبية داخل المدن الكبرى كما هي حال حي الزيتون في بيروت، إذ يضم مزيجاً من الأعراق والجنسيات بسبب رابط الفقر، وتشدد على أن الأمر نفسه في حال الغنى، إذ يحصل الاختلاط بين الأغنياء والثقافة البرجوازية.

كما تتطرق كيال إلى تأثير الحال الاجتماعية والاقتصادية للاجئين والأجانب في كيفية استقبالهم ضمن المجتمع المستضيف، ففي حال كان هؤلاء فقراء، فإن أهالي البلد سيتعاملون معهم بحذر ويشعرون بأنهم أحق منهم بالخدمات، مشيرة إلى أنه "في بعض المناطق الفقيرة، شعر الأهالي بتنافس كبير مع اللاجئين السوريين على مستوى الخدمات، والوظائف بسبب قبول السوري أجراً أقل للوظيفة نفسها، لا بل إن بعض الزوجات بتن يخفن على أزواجهن من الزواج بسوريات، من دون أن ننسى أن هناك تنافساً داخل مجتمع الأجانب نفسه بسبب العوامل الثقافية، وهو ما نجده في حي الزيتون مثلاً بين الإثيوبية والأفارقة". 

العاصمة بيروت والأحياء المختلطة   

في شارع ضيق بحي النبعة شرق بيروت يفوح خليط من روائح القهوة والبهارات. دكان حلويات أرميني إلى جانب مطعم سوري، وبائع خضراوات لبناني ينادي بالعربية الممزوجة بلكنات مختلفة. في الطابق الثالث تعيش مريم (لبنانية) مع أسرتها، وفوقها عائلة سورية أتت قبل 13 عاماً إلى لبنان حتى بات أفرادها لبنانيين أكثر من اللبنانيين، كما يقولون، وفي المقابل شقة تتشاركها عاملات من إثيوبيا وسيراليون.

على أطراف بيروت، يشكل "برج حمود" أحد أكثر الأحياء دلالة على الاختلاط الاجتماعي في لبنان. أنشأه الأرمن الهاربون من المجازر مطلع القرن الـ20، فصار مركزاً لصناعاتهم الحرفية وثقافتهم الخاصة، لكن ابتداءً من السبعينيات دخل إليه لبنانيون من طوائف أخرى، ومع الحرب السورية عام 2011 تدفق عشرات آلاف النازحين، مما بدل وجه المنطقة جذرياً.

والأحياء المشتركة هذه ليست فقط أماكن سكن، بل أيضاً ورش عمل مفتوحة، ففي الأزقة الضيقة لبرج حمود تصطف ورش خياطة ومطابع صغيرة ومحال تصليح، يشكل السوريون غالبية اليد العاملة في البناء والمطاعم، بينما تنتشر العاملات الأجنبيات في التنظيف والخدمات المنزلية، الفلسطينيون بدورهم يندمجون في المهن الصغيرة والأسواق الشعبية.

العمل هنا بمعظمه غير منظم، لا عقود ولا تأمينات، الرواتب تدفع نقداً وأحياناً بالدولار خارج المصارف، هذا الاقتصاد الموازي ينعش الأسواق الشعبية لكنه يضعف الدولة، ويجعل العمال عرضة للاستغلال.

المدارس واللغة: أطفال يتقنون "عربية الحي"

الأطفال هم المرآة الأكثر وضوحاً لهذا الخليط، في النبعة مدرسة رسمية مكتظة تستقبل لبنانيين وسوريين وأحياناً عمالة أجنبية، ومن خلال هذه المدارس تصبح اللغة جسراً، يتحدث عبره الأطفال لهجة هجينة تجمع بين اللبنانية والسورية والأرمينية، مع مفردات إنجليزية وفرنسية، في باحة المدرسة اللعب مشترك، لكن التمييز يظهر أحياناً في الصفوف حيث يصنف الطلاب بحسب أوراقهم الثبوتية.

الأحياء المشتركة في لبنان ليست استثناءً، بل واقعاً يتوسع، هي مرآة لاقتصاد مأزوم ودولة غائبة، لكنها أيضاً دليل على قدرة المجتمعات على التكيف والعيش معاً على رغم الفوارق.

يبقى السؤال: هل يحول لبنان هذا التنوع إلى فرصة لإعادة بناء عقد اجتماعي أكثر شمولاً، أم يظل عبئاً يثقل على مدنه وناسه؟

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات