Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة النزوح من مدينة غزة... أخبرت صغيرتي أننا ذاهبون للتخييم

بعدما أرغمه الإسرائيليون على الفرار من مدينة غزة مع عائلته، يصف مراسل "اندبندنت" واقع الحياة التي يعيشها على الأرض بتفاصيلها المؤلمة - ويتكلم عن محاولته حماية ابنته من حقيقة الحرب الشاملة

نضال وابنته ذات الأعوام الثلاثة وهما يستعدان للهرب للمرة الثامنة في ظل التوغل الإسرائيلي (نضال حمدونة)

ملخص

يكتب مراسل "اندبندنت" عن تجربة نزوحه من جحيم الحرب في غزة مع أسرته للمرة الثامنة، متظاهراً أمام طفلته بأنهم في رحلة تخييم، بينما يواجهون واقعاً مريراً من النزوح، الغلاء، وانهيار الحياة، وسط صمت عالمي يتركهم وحدهم في مواجهة الموت والدمار.

"سوف نذهب إلى الجنوب للتخييم. يمكنك اللعب بالرمل. إنها مجرد رحلة سنعود بعدها إلى المنزل".

هذا ما أرغمت على قوله لابنتي ذات السنوات الثلاث الأسبوع الماضي، فيما كنت منهمكاً بالاستعداد لإجلائها مع زوجتي ومولودتنا الجديدة من مدينة غزة مع توغل القوات الإسرائيلية داخل المنطقة.

اضطررت إلى التظاهر بأننا نقصد جنوب القطاع المحاصر من أجل التخييم. أردت أن أجنبها الحقيقة المؤلمة، المرعبة، والمحفوفة بالخطر حول نزوحنا القسري للمرة الثامنة على التوالي.

ضحكت وتحمست "للعطلة"، فأخذت تضع أغراضها في حقيبة ظهرها المفضلة التي يزين مقدمتها خروف من قماش بنفسجي اللون.

وقالت "هيا إلى الجنوب!" وهي ترقص. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا هو الواقع الذي أعيشه كأب وصحافي في غزة التي قرر بنيامين نتنياهو أن يوسع عدوانه عليها ليستولي على كامل مدينة غزة وينشر قواته على الأرض بهدف احتلال القطاع.

فرض على قرابة مليوني شخص من سكان غزة أن يهربوا من منازلهم مرات عدة، فيما تعرضت 90 في المئة من المساكن لأضرار أو تدمير كامل، وفقاً لمعلومات الأمم المتحدة.

أنا واحد من هؤلاء الناس.

نحن في الأصل من أقصى شمال غزة، من بيت لاهيا، لكن آخر مرة رأيت فيها ديارنا التي تشتهر بحقول الفراولة وبساتين البرتقال، كانت قبل انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في مارس (آذار).

وقبل ذلك بشهرين قطعت طريق العودة من مكان نزوحنا في الجنوب إلى بلدتي في بيت لاهيا سيراً على الأقدام. استغرقت الرحلة نحو 11 ساعة خطوت كل خطوة فيها بأمل وحنين ورغبة باحتضان منزلي وأرضي.

عندها وجدت منزلي وقد تدمر جزئياً من القصف، لكن منذ ذلك الحين كثفت إسرائيل ضرباتها على الشمال - وما عدت أعرف إن كان المنزل لا يزال قائماً أم لا. لا أملك أدنى فكرة أن كنت سأقدر على تلبية الوعد الذي قطعته على ابنتي بأن نعود إلى ديارنا.

خلال الأشهر القليلة الماضية كنا نخيم داخل مبنى مدمر جزئياً في مدينة غزة. أنجبت زوجتي مولودتنا الجديدة الشهر الماضي، وسط العتم والقصف. تمكنت من إيصالها إلى مستشفى، لكن بالكاد وجدنا أي معدات طبية هناك، وكان الوضع أقرب إلى الكابوس. وقد وصل سعر حليب الأطفال إلى 30 دولاراً (22 جنيهاً استرلينياً).

لم نرغب بالنزوح مرة جديدة، لكن بنيامين نتنياهو تعهد فرض السيطرة العسكرية التامة على مدينة غزة. والأسبوع الماضي رمت إسرائيل منشورات من الطائرات لتخبرنا بأننا سنقتل ما لم ننزح من المدينة.

هذه هي المرة الثامنة التي نطيع فيها الأوامر العسكرية بالنزوح منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إن لم نحتسب المرات التي طاردونا فيها من مكان إلى آخر داخل المدينة نفسها. لقد قطعنا غزة بالطول والعرض، في محاولة للفرار من الدبابات والطائرات الحربية والمسيرات والقنابل.

مع كل تهجير أشعر بأنني أموت داخلياً. إنه كابوس يطاردني بلا رحمة ودوامة من الإرهاق والخوف، هذا التنقل المستمر بانتظار المجهول.

قد تكلفك رحلة النزوح كل مرة أكثر من 1000 جنيه استرليني، تشمل ثمن المواصلات والوقود وبعض الأخشاب لبناء خيمة والقماش المشمع الذي يكسوها وقطعة الأرض التي تنصبها عليها.

بلغ ثمن الخيمة وحدها الآن 750 جنيهاً - هذا إن توفرت من الأساس. وتحتاج تلك الخيام إلى عزل من الماء في الشتاء. وكل فلسطيني في غزة تقريباً اليوم في حاجة إلى خيمة جديدة. فالخيم التي ما زالت صامدة قد اهترأت بصورة شبه تامة بعد سنتين من الحرب. حتى ثمن الخشب ومواد بناء الخيمة يبلغ اليوم خمسة أضعاف ما كان عليه في السابق.

كل مرة نشرد فيها، نبدأ رحلة البحث اليائس عن مكان - قطعة أرض جرداء أو ركام أو شاطئ أو مزرعة - يؤوينا.

هذه المرة، كان عليَّ المخاطرة بالسفر جنوباً قبل عائلتي، تحت القصف والرصاص، كي أحاول العثور على قطعة أرض لم تنصب عليها خيمة بعد. فثمن استئجار الأراضي بدأ يرتفع بالفعل مع انتشار خبر صدور أوامر الإخلاء.

قصدت أولاً ما يسمونه "المنطقة الإنسانية" في مواصي خان يونس، لكنني لم أجد أي مساحة خالية لنصب خيمة أو حتى السير بحرية.

لذلك توجهت بعدها إلى المنطقة الوسطى - أي دير البلح - حيث وجدت بعض المساحات الرملية والأراضي الزراعية الخالية. بدأ أصحاب الأراضي يطلبون ضعف الأسعار التي فرضوها في الأشهر أو السنوات الماضية. ويبلغ سعر قطعة الأرض وحدها، من دون إمدادات مياه، 100 دولار شهرياً.

اضطررت إلى حفر مرحاض بيدي في الرمل، وضعت على جانبيه أسمنت كي لا تمرض عائلتي. إن استئجار شقة في دير البلح مستحيل: يبلغ سعر الشقة الواحدة ألفي دولار شهرياً، هذا إن وجدت شقة فارغة أساساً.

حتى الوصول إلى الجنوب مغامرة مكلفة ومحفوفة بالأخطار. عليك أولاً أن تجد سائقاً لديه سيارة تعمل. وهذا وحده سيكلفك مئات الدولارات وإن كانت المسافة لا تستغرق أكثر من ساعات قليلة لعبور شارع الرشيد الساحلي، بعدما غدا الطريق الوحيد إلى الجنوب الآن.

أما الوقود، فباهظ الثمن بصورة تتخطى حدود المعقول، إذ يصل سعر الليتر الواحد إلى 100 شيكل (زهاء 22 جنيهاً)، وهو ما أخبروني أنه يعادل 16 ضعف سعره في المملكة المتحدة. يستخدم البعض وقوداً منزلي الصنع ينتج من خلال حرق البلاستيك، ويكلف أقل، نحو 50 شيكلاً لليتر الواحد، لكنه خطر وسام.

وضعت ابنتي وحقيبة ظهرها البنفسجية اللون في السيارة التي حملناها كل ما استطعناً أن نأخذه: عليك أن تحمل كافة مقتنياتك لأن الأسواق خالية - فلن تجد فيها أي أدوات مطبخ أو بطانيات أو مراتب - والأسعار جنونية.

ويلجأ كثير من العائلات إلى التنقل بعربات تجرها الحمير، لكونها خياراً أقل كلفة. جميع من رأيناهم على الطريق كانوا في حالة ذعر من ألا يكفيهم الوقت للهرب من القصف. شاهدنا أيضاً عشرات السيارات المعطلة التي تنقصها قطع غيار والمليئة بالناس والمقتنيات.

هذا ما يخيفني: أين سيذهب الجميع؟ يسكن في مدينة غزة مليون شخص. أين سيجدون متسعاً لهم في الجنوب؟ ومن القادر على تحمل الكلف الجنونية التي تضاعفت منذ صدور أوامر الإخلاء الأخيرة؟

كيف سيعيش الجميع وينجون؟

يعاني جميع من في غزة شح المياه وغاز الطهي. يطهو السكان باستخدام الحطب الذي يكلف كل كيلو منه الآن 8 شواكل (2.4 دولار). يعمد كثر إلى كسر المفروشات - والأبواب والشبابيك وهياكل الأسرة - لتلقيم النيران.

يقف الناس ساعات طويلة في طوابير لتعبئة المياه من الصهاريج. غالباً ما تقطع النساء والأطفال والمسنون مسافة مئات الأمتار لملء غالون واحد من المياه. وتواجهك كل يوم معركة طاحنة للبقاء: فتقاتل للحصول على المياه وللحصول على طعام من متجر أو للحصول على مساعدة طارئة.  

فيما أكتب هذه السطور دُمِّرت بعض أعلى الأبراج والمعالم التاريخية في مدينة غزة - مبانٍ ظلت منتصبة عشرات السنين، ومُحيت في لحظات. إن رؤية آخر ما تبقى في المدينة يستحيل ركاماً وأنقاضاً أمر مؤلم إلى حد لا يطاق.

بقي بصيص أمل وحيد: أن يلغى مخطط غزو مدينة غزة وينتهي التهجير القسري لسكان المدينة قبل فوات الأوان.

بعد سنتين من التخلي عنا ومن صمت العالم الخارجي، أصبح مصطلح "إنسانية" كلمة بلا معنى بالنسبة إلينا.

ولذلك أناشد الكرة الأرضية: أنقذوا غزة. لا تسمحوا لها أن تلقى مصير رفح وبيت لاهيا وجباليا، وتسوى بالأرض فتصبح رماداً وركاماً.

أكتب هذه الكلمات وأنا أحلم بالعودة إلى بيت لاهيا - إلى بساتين البرتقال والتفاح وإلى الأشجار التي ذبلت أوراقها عطشاً وإلى الطيور التي قضت داخل أقفاصها جوعاً وخوفاً.

أكتب ويحدوني أمل ممزوج باليأس أن أعود يوماً ما لأحتضن جدران منزلي المحطمة - وأنسج من جديد ما تبقى من ذكرياتي.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير