ملخص
كتاب نافاسكي أتى بعد عقد السبعينيات الذي كان ثورياً على الصعد كافة في التاريخ الفكري للولايات المتحدة وحفل بخاصة بمؤلفات أجمعت على أن مكارثي ولجنته لم يكونا يحاربان الشيوعية لحساب ديمقراطية تتعلق بالحلم الأميركي، بل كانا يحاربان الروزفلتية التي انفتحت على العالم بما فيه عالم المعسكر الاشتراكي ولا سيما عبر تجليات نشاطات سادت في وزارة الخارجية كما في وزارة الدفاع لتجد أصداءها في السينما الهوليوودية ما أثار رعب اليمين المتطرف.
في سير متعمد على الأرجح من الباحث الأميركي النيويوركي فيكتور نافاسكي على خُطى تلك الصفحات البديعة والطريفة التي أوردها كارل ماركس في ثنايا كتابه العمدة "رأس المال" حول "دور الشر في صناعة التاريخ" يختتم نافاسكي فصول كتابه الذي أصدره أواخر القرن الـ20 بعنوان "الوشاة" على نقطة "إيجابية"، بل تفاؤلية لا شك أنها أثارت كثيراً من اللغط، ولا سيما في أوساط النقاد السينمائيين الأوروبيين والفرنسيون منهم.
كشف الكاتب عن كثير من الأمور والموبقات السياسية والتاريخية وبخاصة الأيديولوجية التي ارتبطت بسنوات حملة السيناتور جوزيف مكارثي على مجمل أميركا التقدمية والديمقراطية وفي المجالات كافة من خلال تلك اللجنة التي حملت اسمه، وكانت مع أنها قد تشكلت قبل انضمامه إليها كرئيس، مخصصة لمناهضة، بل مقارعة النشاطات الموصوفة من قبلها بأنها "معادية لأميركا"، وبأنها تدار من قبل الشيوعيين "الحمر" لتدمر الديمقراطية السائدة في تلك الأمة.
ما تسبب في غضب النقاد تجاه كتاب نافاسكي لم يكن سوى ما أوضحه هذا الكاتب والصحافي المعروف بتقدميته من خلال رئاسته تحرير مجلة "ذا نايشن" التي كانت ولا تزال على الأرجح تمثل خطاً ليبيرالياً تقدمياً في يساريته، إنما غير شيوعي بالتأكيد، وفحواه أنه بينما كان لما ترتب على تلك الحملة الشعواء – حملة السيناتور مكارثي - ضد كل ما هو ديمقراطي وتقدمي في أميركا، نتائج وخيمة مرعبة ليس على هوليوود فحسب، فإن هذه الأخيرة خرجت من الصراع أقوى مما كانت فاتسمت نتاجاتها بصبغة احتجاجية تقدمية لم يتمكن السيناتور من كبحها، ولسنا ندري ما إذا كان في أخريات أيامه قد ندم لأنه أسهم في انبعاثها.
نحو سينما "الضد"
والحال أن نافاسكي انطلق في تأكيداته هذه من تساؤل كان مطروحاً بصورة عامة: لماذ فشل السينمائيون الأوروبيون الذين كانوا لجأوا إلى أميركا خلال استشراء النازية قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها (من أمثال جول داسين وجوزيف لوزي وجون بيري وأمثالهم)، في تحقيق أية أفلام أوروبية عند عودتهم إلى القارة العجوز هرباً من المكارثية هذه المرة، جديرة باحتلال مكانة رفيعة في تاريخ السينما، إذ تنطبع بالحساسية البديعة التي انطبعت بها نتاجاتهم الأميركية، بينما تمكنت السينما المحققة في هوليوود حتى من قبل اختفاء مكارثي ولجنته، من أن تحدث ثورة فكرية وجمالية وذهنية في السينما الأميركية؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل ما فاقم من فداحة هذا التساؤل ما يلفت إليه نافاسكي النظر من أن الأفلام "الانتقالية" التي ستخطر في بالنا هنا، لم تكن في معظمها من إنتاج استديوهات مستقلة صغيرة يمكنها أن تغامر، بل من إنتاج الاستديوهات الكبرى ("مترو غولدوين ماير" أو "وارنر براذرز" على سبيل المثال)، كان لسان حالها يقول بحسب نافاسكي "إننا أبداً لن نترك لسياسيين ديماغوجيين رجعيين أن يملوا علينا سلوكنا محددين لنا ما يجب، أو بل ما لا يجب علينا أن نحققه من أفلام!".
وفي هذا السياق يورد الكاتب نموذجاً يطاول أكثر الأنواع السينمائية أميركية ومحافظة، ليلفتنا إلى تلك الثورة التي طاولت هذا النوع في سنوات الـ50، ولا سيما على يد سينمائيين كجون فورد وهوارد هاوكس وحتى نيكولاس راي من الذين ما كان في إمكان مكارثي اتهامهم بأنهم "حمر" يخوضون "مؤامرة ضد أميركا"، أي أفلام رعاة البقر. والحقيقة التي يمكن التوقف عندها هنا هي أن هذا الجانب السجالي من كتاب "الوشاة" كان هو ما أمن له مكانته في زمن كان يبدو فيه أن الموضوع قد اكتمل فصولاً بصدور عشرات الكتب ومئات الدراسات التي استوفته بحثاً وتنديداً، وأتت في معظمها مناوئة لمكارثي كما لريتشارد نيكسون الذي، قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، عرف كرديف لمكارثي في تلك اللجنة.
دفق من الكتب
كتاب نافاسكي أتى بعد عقد السبعينيات الذي كان ثورياً على الصعد كافة في التاريخ الفكري للولايات المتحدة، وحفل بخاصة بمؤلفات أجمعت على أن مكارثي ولجنته لم يكونا يحاربان الشيوعية لحساب ديمقراطية تتعلق بالحلم الأميركي، بل كانا يحاربان الروزفلتية التي انفتحت على العالم بما فيه عالم المعسكر الاشتراكي، ولا سيما عبر تجليات نشاطات سادت في وزارة الخارجية كما في وزارة الدفاع لتجد أصداءها في السينما الهوليوودية مما أثار رعب اليمين المتطرف الذي كان قد تلمس ما اعتبره "خطورة ذلك" منذ عرض تشارلي شابلن فيلمه "الديكتاتور" المعادي لهتلر في سخريته منه، والذي أثار حنق اليمين المتطرف بقدر ما أثار حنق مكارثي خلال الحرب دعم الرئيس روزفلت للاتحاد السوفياتي في حرب هذا الأخير الدفاعية ضد القوات النازية التي وصلت إلى تخوم موسكو وستالينغراد وحاصرت لينينغراد. وهو دعم أصاب اليمين الأميركي المتطرف ومكارثي ونيكسون في الصميم كما نعرف.
ومن هنا أتت "فزاعة الشيوعيين" التي واكبتها حملات تطهير لـ"الروزفلتيين" في الإدارة وللعناصر الأكثر تقدمية في هوليوود أكسسوارياً! وأتاحت انفتاحيات سنوات الـ70، وما عرفت من احتجاجات صاخبة على حرب فيتنام ثم الهزيمة الأميركية فيها، كما على فضيحة ووترغيت التي تمكن انفضاحها من إطاحة الرئيس نيكسون نفسه، أتاحت العودة للخوض فيه في كتب بالغة الجرأة، في المقاييس الأميركية طبعاً، حملت تواقيع إريك بنتلي ("30 عاماً من الخيانة" 1971)، والممثل روبرت فون ("ضحايا لا أكثر" 1972)، ولاري سيبلير شراكة مع ستيفن إنغلاند ("محاكم التفتيش في هوليوود" 1979) بين مؤلفات لا تعد ولا تحصى. ومع هذا عرف كتاب نافاسكي طريقه ومكانته، ولا سيما بفضل تلك السجالات التي آثارها، وظلت مستعرة لسنوات وبالتحديد في تعلقها بالجانب "الإيجابي" الذي تناوله المؤلف عبر تلك الجدلية التي من المؤكد أن ناقديه إما لم يستسيغوها أو لم يفهموها.
"أرواحنا تلطخت جميعها"
مهما يكن من أمر، لعل ما أثار جزءاً أساساً من تلك السجالات التي تبدو لنا اليوم غير مفهومة، هو أن المؤلف قد وضع كتابه كله تحت شعار عبارة استعارها من الكاتب السينمائي دالتون ترامبو (الذي كان الأبرز بين من سموا حينها بـ"الضحايا العشر لمطاردة السحرة في هوليوود" من الذي حوكموا وسجنوا، بل منعوا من العمل، مما اضطر معظمهم إلى الكتابة بأسماء مستعارة، وهؤلاء كانوا شيوعيين بالفعل ومن الذين نمَّ عنهم أولئك "الوشاة" المذكورين في عنوان الكتاب)، عبارة قال فيها ترامبو "سواء كنا من اليمين أم من اليسار أم من الوسط، لا شك أن أياً منا لم يخرج من المعمعة إلا وقد تلطخت روحه".
ونعرف على أية حال أن عبارة ترامبو فيها قدر كبير من المبالغة بالنظر إلى أن تلك المرحلة عرفت كثراً من الذين قاوموا السيناتور الكئيب ولجنته ومن بينهم ترامبو نفسه، كما كان ثمة من بادروا إلى سلوك دروب المنافي أو سكتوا مقابل أولئك الذين فضلوا السجن على الوشاية، والآخرين الذين فضلوا الوشاية على السجن ولا سيما خلال المرحلة التي أعلنت فيها اللجنة أنها لن تمس من يعلن أنه لم يكن وليس هو الآن شيوعياً، ولا أولئك الذين يبلغون عن أسماء شيوعيين يعرفونهم.
ونعرف طبعاً حكاية المخرج إيليا كازان الذي كان لعقود طويلة شيوعياً منظماً في الحزب الشيوعي الأميركي فإذا به يتحول إلى واشٍ بين ليلة وضحاها منكراً مروره بالحزب الشيوعي مقدماً من الأسماء ما يفيض عن "حاجة" اللجنة، وصولاً إلى نشره، من ماله الخاص، صفحات إعلانية في أمهات الصحف يدعو فيها أصدقاءه ورفاقه السابقين إلى التنصل من أية علاقة لهم بـ"خائني أميركا".
ونعرف أن تلك المواقف التي سيعبر عنها كازان في عدد من أفلامه اللاحقة، وبخاصة منها "عند الميناء" و"الزائران" قد كلفته معظم صداقاته الحقيقية فابتعد عنه الأصدقاء والمعارف وبخاصة من بينهم الكاتب الكبير آرثر ميلر الذي لم يكن شيوعياً على الإطلاق، لكنه لم يستسغ أبداً خيانة كازان لرفاقه السابقين، لكن هذه حكاية أخرى بالتأكيد.