ملخص
أحالت الفوضى الخرطوم إلى مدينة أشباح يغطيها السخام وركام العربات والآليات العسكرية المحترقة والصدئة، أحياء العاصمة المهجورة تحكي قصة مدينة كانت مليئة بالحياة، ولكنها الآن تقف أمام أكبر التحديات في تاريخها، وتدخل غرفة الإنعاش بجراحها الغائرة لتلملم بعض قواها ومواردها، فماذا بقي من الخرطوم كمدينة يمكن أن تصلح للسكن مرة أخرى؟
منذ أن أعلن الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، القائد العام للجيش، من داخل القصر الجمهوري "الخرطوم حرة" في الـ27 من مارس (آذار) من هذا العام، بدأت العاصمة السودانية تتلمس من جديد نبض الحياة في شرايينها وأوصالها الممزقة، بعدما كشف واقع ما بعد الحرب عن دمار غير مسبوق طاول كل مناحي الحياة فيها، حين دفعت المدينة ثمناً باهظاً وفقدت كل ملامحها ومعالمها الحضارية والمعمارية والتاريخية والعلمية ورمزيتها السياسية.
أحالت الفوضى الخرطوم إلى مدينة أشباح يغطيها السخام وركام العربات والآليات العسكرية المحترقة والصدئة، أحياء العاصمة المهجورة تحكي قصة مدينة كانت مليئة بالحياة، ولكنها الآن تقف أمام أكبر التحديات في تاريخها، وتدخل غرفة الإنعاش بجراحها الغائرة لتلملم بعض قواها ومواردها، وتصارع للنهوض من وسط الركام والخراب وواقع الدمار والأوبئة بحثاً عن أنفاس تعيد إليها الحياة من جديد، فماذا بقي من الخرطوم كمدينة يمكن أن تصلح للسكن مرة أخرى؟
العاصمة المهجورة
شكل حجم الدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية الخدمية بولاية الخرطوم أكبر الفواجع، بعدما تعرض أكثر من 70 من المئة من المقار الحكومية ومحطات وشبكات وخطوط إمداد الكهرباء والمياه والمرافق الصحية والتعليمية والأثرية للنهب والحرق والتدمير والتخريب الذي لم ينج منه حتى أسفلت الطرقات، لتفرغ العاصمة السودانية من كامل منظومة خدماتها، وتتحول أحياؤها بفعل التهجير القسري والنهب إلى بقع مهجورة عطشى مظلمة مكدسة بالنفايات، وشوارع تغطيها الجثث المجهولة والأوبئة.
وفق تقديرات أممية فإن إعادة إعمار العاصمة لا تقل بأية حال عن 20 مليار دولار، لتعود كما كانت قبل الحرب، بينما تشير منظمات عدة إلى أن جميع المستشفيات في الخرطوم تكاد تكون خارج الخدمة، مما أدى إلى ضعف شديد في خدمات الرعاية الصحية.
ومنذ بداية الحرب فقد السودان أكثر من 70 في المئة من طاقة الكهرباء الإنتاجية، التي كانت بالأصل تغطي نحو 60 في المئة من حاجة البلاد المقدرة بـ3500 ميغاواط، بتعرض منظومة توليد وتوزيع الكهرباء ومحطات التوليد الحراري في منطقة بحري وقري، بما فيها المركز القومي للتحكم في الشبكة القومية للكهرباء الأحدث في أفريقيا، إلى دمار شبه كامل، وتخريب غير مسبوق نبشت خلاله حتى كوابل الكهرباء النحاسية المدفونة تحت الأرض ونهبت بكاملها لتهرب وتباع كخردة.
بحسب مسؤولين ومتخصصين في قطاع الطاقة، فإن نحو 90 في المئة من شبكات ومنشآت الكهرباء الأساسية في مدن العاصمة الثلاث (الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري) تعرضت للتدمير الممنهج، بما فيها محطة بحري الحرارية التي تسهم بنحو 17 في المئة من إنتاج الكهرباء بالبلاد، والمقدر بنحو 1900 ميغاواط، فضلاً عن تدمير محطة قري الحرارية بإنتاج يقارب 1000 ميغاواط.
ولم يتوقف تدمير محطات الكهرباء حتى قبل أسبوع، حين تعرضت محطة المرخيات الرئيسة للكهرباء بأم درمان لهجوم بطائرات مسيرة تابعة لـ"الدعم السريع" أخرجتها من الخدمة مع بعض المحطات الفرعية الأخرى في شمال بحري.
وشكلت أزمة الكهرباء والمياه الحادتين في معظم مناطق العاصمة السودانية الخرطوم وعدد من مدن البلاد الأخرى، ضربة قاصمة لمنظومة الخدمات المياه والصحة والاتصالات، لتحول جل الجهود الشعبية والرسمية نحو البحث عن سد فجوة العطش والصحة المتفاقمتين، وشكلتا عامل طرد للسكان المقيمين والعائدين معاً.
وفق منظمة الهجرة الدولية، شكل الفارون من العاصمة السودانية الخرطوم 71 في المئة من جملة النازحين داخلياً واللاجئين إلى دول الجوار وغيرها، وذلك بنزوح أكثر من 80 في المئة من سكان العاصمة، حيث هُجرت أحياء بأكملها وتحولت أطلالاً تسكنها القطط والكلاب الضالة.
وعلى رغم الهدوء النسبي في كثير من مناطق وأحياء العاصمة، وبخاصة محلية كرري في شمال أم درمان التي ظلت آمنة بدرجة كبيرة طوال فترة الحرب، فإن كثيراً ممن عادوا إلى الديار فوجئوا عند وصولهم بواقع أمني صحي وبيئي ومعيشي مهدد للحياة، بخاصة الأسر التي لديها أطفال وشيوخ أو أصحاب أمراض مزمنة، فضلاً عن الحال المزرية داخل بيوتهم المنهوبة، وهكذا قرر بعضهم المغادرة مرة أخرى إلى الولايات الأخرى أو خارج البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ظل تقارير متضاربة ومتباينة تحذر من عدم صلاحية العاصمة السودانية للحياة بسبب انتشار الجريمة والأوبئة وضعف خدمات الصحة وإشاعات التلوث الكيماوي، عبر مواطنون في عدد من أحياء الخرطوم عن معاناتهم من التردي المريع في البيئة وتراكم النفايات داخل الأحياء بخاصة الشعبية والطرفية منها، التي شهدت معارك ومواجهات خلفت جثثاً وتهديدات صحية كثيرة لم تعالج حتى الآن.
ولم تنف وزارة الصحة واقع التفشي الواسع لحمى الملاريا والضنك، إذ سجلت حالات الملاريا في الخرطوم ما يقارب مليونين ونصف المليون إصابة، وعلى رغم الجهود الكبيرة المبذولة لاحتواء الوضع عبر حملات رش النواقل التي انتظمت بالعاصمة جواً وأرضاً، فإن الحمى توالي الانتشار. وقال وزير الصحة الاتحادي هيثم محمد إبراهيم، إن انتشار نواقل حمى الضنك يحتاج إلى تمويل وجهد أكبر، مشيراً إلى أن مرحلة البناء بعد الحرب تتطلب كثيراً من العمل.
مساكن خالية
وأعلنت حكومة ولاية الخرطوم عن قرارات عاجلة تتعلق بالمنازل المهجورة، بعدما حذرت السلطات الصحية من خطورتها كمصدر رئيس لتوالد البعوض الناقل لحمى الضنك.
ودعا اجتماع موسع للجنة العليا للطوارئ بالولاية، إلى مضاعفة الجهود الوقائية وتكثيف الحملات التفتيشية والتوعوية داخل الأحياء، وإلزام الجهات المختصة باتخاذ إجراءات صارمة تجاه المنازل غير المسكونة.
وفي إطار المعالجات الإسعافية الجارية بالخرطوم، قال مدير عام هيئة الطرق والجسور ومصارف المياه بالولاية مختار صابر، إن البنية التحتية بالعاصمة تعرضت لتخريب متعمد يعرقل عودة المواطنين ويعطل الحياة العامة، مؤكداً أن الهيئة أعدت خططاً إسعافية عاجلة لإنعاش البنية التحتية بالولاية تشمل صيانة الجسور والكباري المتأثرة.
كذلك شرعت الجهات المختصة في حصر وجمع نحو 15 ألف سيارة مدمرة ومهملة في شوارع الولاية، وتحريزها في ميادين مخصصة إلى حين تسليمها إلى أصحابها.
عقب الاتهامات الأميركية للجيش السوداني باستخدام أسلحة كيماوية بالخرطوم، شكلت إشاعات ومخاوف التلوث الكيماوي في العاصمة الخرطوم أحد أكبر هواجس السودانيين وأبرز كوابح العودة، وعلى رغم نفي الحكومة القاطع فقد بنيت حول الأمر روايات وحكايات وإشاعات.
وفرضت الولايات المتحدة عقوبات مباشرة على رئيس مجلس السيادة الانتقالي، القائد العام للجيش، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، بدعوى استخدام الجيش السلاح الكيماوي في مناطق ومدن عدة من بينها الخرطوم.
لاحقاً ربط الناس بين الاتهامات الأميركية وقرار الحكومة نقل مقارها من وسط الخرطوم إلى مناطق أخرى بديلة، باستثناء مقرات رئاسة ولاية الخرطوم ووزارة الداخلية والشرطة.
وقبل أن تنفي وزارة الصحة الاتحادية بصورة قاطعة وجود أي تلوث كيماوي أو إشعاعي في العاصمة، أكد المجلس الأعلى للبيئة (الحكومي) وجود تلوث كيماوي في مناطق محددة من العاصمة، ليس بسبب السلاح الكيماوي، بل لقصف "الدعم السريع" للمناطق الصناعية في مدن العاصمة الثلاث ومجمعات "جياد" و"اليرموك" الصناعيين، مما تسبب في هطول أمطار حمضية.
ووصفت الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة منى محمد، أمام مؤتمر وزراء البيئة العرب في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، ما حدث بأنه "جريمة في حق الشعب السوداني لم تجد اهتماماً دولياً كافياً".
وزارة الصحة الاتحادية أوضحت أن قياسات إشعاعية دقيقة تمت في المواقع المهمة والإستراتيجية مثل مستشفى "الذرة"، ومعمل "أستاك"، ومعمل الأبحاث البيطرية بسوبا، باستخدام أجهزة معتمدة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، لرصد أية مواد كيماوية أو غازات سامة، ولم تُظهر أية مؤشرات على وجود تلوث أو ما يشكل تهديداً على الصحة العامة.
وأضافت الوزارة أن نتائج الفحوص لم تسجل مواد سامة أو كيماوية، ولم تظهر حالات تسمم أو وفيات مرتبطة بها، وأن الأعراض الصحية المنتشرة هي نتيجة لأمراض شائعة، مع التوصية باستمرار عمليات الرصد والمتابعة.
وأكدت الوزارة أن نظام الترصد الصحي الوطني لم يسجل أية حالات وفاة جماعية أو أعراض تشير إلى تسمم كيماوي، كذلك فإن تقارير الطب العدلي أكدت أن جميع الوفيات تعود إلى أسباب طبيعية أو بسبب الأمراض الوبائية المنتشرة مثل الكوليرا والملاريا وحمى الضنك.
وأوضح المجلس الاستشاري للطب العدلي أن معظم الشكاوى الصحية الحالية للمواطنين تتعلق بالإسهال والصداع والحمى وأمراض الجهاز التنفسي الناتجة من الحرائق وانبعاثات الكربون، ولا ترتبط بأية مواد كيماوية أو إشعاعية.
مخاوف وألغام
يشكل الانفلات الأمني وانتشار العصابات المسلحة أحد أكبر الهواجس في الخرطوم، على رغم الجهود المبذولة في مكافحة تلك العصابات التي أرعبت سكان الخرطوم مستغلة أجواء الفوضى والسيولة الأمنية، مما خلف خوفاً وقلقاً متزايداً لدى المواطنين.
في سياق ترتيبات الضبط الأمني وتهيئة العاصمة لعودة الحكومة المركزية والمواطنين، تقرر تفريغها من كل التشكيلات المسلحة عبر لجنة عليا برئاسة عضو مجلس السيادة الانتقالي ومساعد القائد العام للجيش الفريق إبراهيم جابر، لتتولى أمر بسط هيبة الدولة ومعالجة قصور الخدمات وإعادة الحياة في العاصمة إلى طبيعتها.
وأكد وزير الدفاع الفريق حسن كبرون أن اللجنة ماضية بإنفاذ التدابير الأمنية المعنية باستتباب الأوضاع الأمنية وفرض هيبة الدولة بولاية الخرطوم، مشدداً على منع حمل السلاح وارتداء الزي العسكري داخل الأحياء والأماكن العامة وحظر استخدام الدراجات البخارية والعربات غير المقننة بصورة نهائية داخل الخرطوم.
وشددت اللجنة على المواطنين بضرورة حمل الأوراق الثبوتية أثناء تنقلهم بين مناطق الولاية لضمان انسياب الإجراءات الأمنية.
ضمن المهددات الخطرة تشكل الألغام ومخلفات الحرب أحد أكبر الهواجس على حياة سكان الخرطوم، وكان أحدثها انفجار لغم قبل نحو أسبوعين أسفل شاحنة نقل كانت تقل مشيعين في مقابر الكدرو شمال الخرطوم بحري، مما أدى إلى موت شاب وإصابة آخرين بجروح خطرة.
وفق مسؤولة التوعية والضحايا بمركز مكافحة الألغام يستقبل المركز ما بين بلاغين إلى ثلاثة بلاغات يومياً في وقت حصدت الألغام والذخائر أرواح أكثر من 60 ضحية منذ بدء الحرب.
في مطلع سبتمبر (أيلول) الجاري أعلن المركز القومي لمكافحة الألغام في السودان عن جمع 50 ألف دانة وذخائر غير متفجرة من مخلفات الحرب من مناطق عدة بالخرطوم وتدميرها في غرب أم درمان.
وقال مدير المركز اللواء خالد حمدان إن المتفجرات التي جرى التخلص منها شملت مجموعة من الألغام المضادة للدبابات، وذخائر الأسلحة الصغيرة، مناشداً المواطنين بضرورة الإبلاغ الفوري عن أية مخلفات خطرة.
في السياق يوضح المهندس أبوالقاسم نور الأمين، أن السؤال حول مدى صلاحية العاصمة الخرطوم للسكن في الوقت الراهن يبدو منطقياً وملحاً، فمعظم بنية الخرطوم الخدمية والحيوية التحتية دمرت ونهبت، وبخاصة الكهرباء التي تشكل عصب ومحرك كل الخدمات.
يشير الأمين إلى أن عودة الحياة إلى الخرطوم تصطدم بحقيقة واقع الدمار الواسع للبنية التحتية الذي تسببت فيه الحرب، مما جعل كثيراً من مناطق العاصمة غير صالح للسكن بالفعل.
ويعتقد أن الخرطوم لن تكون صالحة تماماً للعيش إلا بعد جهود كبيرة جداً تحتاج إلى أموال طائلة لتعود كما كانت قبل الحرب، فتقارير كثيرة تشير إلى أن الخرطوم مدينة منكوبة بالفعل، خسرت معظم بنيتها الخدمية التحتية الأساسية، مما يجعل الحياة اليومية غاية في القسوة والصعوبة، إن لم تكن مستحيلة.
عودة وندم
نفيسة أبو النجا وأسرتها عادوا بالفعل إلى الخرطوم، لكنها تقول إنها ندمت لاصطحاب أطفالها وجدهم معها، فهم الآن طريحو الفراش بحمى الضنك، مضيفة "نعيش الآن في ظروف مأسوية، المدينة لا تزال تعاني انهيار الخدمات والانفلات الأمني وغياب القانون، حتى بعد طرد الميليشيا واستعادة الجيش السيطرة على كل الولاية، الوضع الراهن يشير إلى أن كثيراً من أحياء العاصمة الخرطوم ليس صالحاً للسكن الفعلي بسبب الانهيار الشامل للبنية التحتية وفقدان الخدمات الأساسية".
وتضيف أبو النجا، وهي من النازحين داخلياً الذين عادوا إلى الخرطوم بحري، "لم تعد الحياة كما كانت، بل تحولت إلى رحلة كفاح يومية قاسية جداً للحصول على أي شيء من الخدمات، ساعات قليلة جداً من الكهرباء في المناطق المحظوظة، أما ترتيبات وكلفة المعيشة ففي غاية الصعوبة بسبب الأسعار الخيالية المتصاعدة بصورة يومية للسلع الأساسية، بينما يمثل البحث عن الأدوية المعدومة أمراً مكلفاً ومضنياً إذا وجدت، ومعظم مستشفيات الولاية القليلة العاملة مكتظة بالمصابين بحمى والضنك والملاريا، ويضطر المرضى إلى الانتظار ساعات طويلة للحصول على المحاليل الوريدية.
من منطقة أبو سعد جنوب أم درمان يقول عماد عبدالله، إن "وتيرة الحياة تتقدم ببطء شديد وصعوبة بالغة، فالخراب كبير، والدمار كان متعمداً لتحطيم الحياة في العاصمة وإعادتها إلى العصور الوسطى، وبالفعل ها هي الآن تتفشى فيها الأوبئة والأمراض مع الغلاء الطاحن وارتفاع الأسعار، وتعصف إشاعات التلوث الكيماوي بطمأنينة الناس وتجعلهم في خوف وقلق دائمين من المجهول.
عاد عماد إلى منطقته ولكنه لم يذهب إلى منزله، بل استأجر منزلاً آخر في منطقة أفضل من جهة الخدمات وأكثر أمناً، مشيراً إلى أن كثيراً من المواطنين الذين عادوا لا يملكون القدرة على صيانة منازلهم وإعادة تهيئتها نظراً إلى الحاجات الكبيرة بعدما نهب منها الأثاث وحتى الأبواب والشبابيك، وهناك من رجع إلى الولايات أو الخارج مرة أخرى.
في حي المهندسين المجاور لسلاح المهندسين جنوب أم درمان، حيث يقطن سيد أحمد قدورة، وهو من قدامي العائدين إلى منازلهم قبل أكثر من عام ونصف العام، تبدو الأوضاع أكثر استقراراً، يقول إنهم لا يواجهون مشكلات في الكهرباء أو مياه الشرب، ولا يشكون من أية أمراض أو أوبئة.
ويضيف قدورة "الوضع ليس جيداً تماماً ولكنه ليس بالسوء الذي يتخيله بعض الناس، فهو وضع مدينة كانت تعاني حرباً، وقد حققت عمليات الرش الجوي والضبابي لمكافحة البعوض ونواقل الأمراض نتائج جيدة جداً اختفى معها حتى الذباب بشكل واضح، أما ما يتعلق بالصحة فالمستشفيات والمستوصفات والعيادات والصيدليات كلها تعمل في منطقتنا، كذلك فإن هناك مواصلات في كل خطوط النقل بهذا الجزء من العاصمة".
يرى قدورة أن قرار العودة إلى العاصمة أمر يعتمد على إمكانات وظروف كل شخص، لكن لا يمكن القول إن الوضع بات وردياً، فالعاصمة لا يتوقع أن تعود كما كانت تماماً قبل الحرب بين يوم وليلة، لأن حجم الخراب كبير، لذلك يمكن القول إن الحياة تمضي مع المعاناة.
مدينة الأوبئة
لكن الصحافي عثمان فضل الله يرى أن هناك حقيقة صادمة هي أن الخرطوم اليوم تحولت إلى مدينة للأوبئة والبعوض والحُمّيات الغامضة والأجساد المسجاة، وكل من يعيش فيها الآن هو مشروع جثمان منتظر، متابعاً "كفانا سياسة ومكايدات ودفناً للرؤوس في الرمال، فالخرطوم اليوم ساحة للموت البطيء بعدما تحولت إلى مشروع مقبرة جماعية مفتوحة على اتساعها"، ومطالباً السلطات بإعلان الخرطوم منطقة كوارث، والتوجه بنداء للعالم والمنظمات الإنسانية ما دامت عاجزة عن السيطرة على الوضع، فحياة الناس ليست ورقة للمساومة السياسية".
كتب فضل الله أن "زيارة قصيرة لأقرب مركز صحي كفيلة بأن تكشف لك حجم الكارثة، أروقة تعج بالمرضى، وأسرّة ممتلئة، وأطباء يرفعون أيديهم عجزاً، ومن لم يجد مكاناً بالمستشفيات يرقد على الأرض أمام الصيدليات، في مشهد مأسوي يفوق الخيال"، ويتابع "الحقيقة المرة هي أن الخرطوم مدينة منكوبة وموبوءة حتى العظم، لا نتحدث عن شائعات ولا تهويلات، بل عن واقع ينقله شهود من الداخل كله حميات، وأمراض مجهولة، وانهيار كامل للنظام الصحي، وروايات مرعبة عن موت في البيوت وفي الشوارع، موت لا يجد حتى شهادة وفاة".
في المقابل يؤكد وزير الثقافة والإعلام المكلف، المتحدث الرسمي باسم حكومة ولاية الخرطوم الطيب سعد الدين، عدم وجود أي تلوث كيماوي بالعاصمة، مبيناً أنهم ظلوا موجودين فيها منذ بداية الحرب، كذلك فإن هناك أيضاً مواطنين كانوا موجودين بمناطق كان يسيطر عليها المتمردون، ولم يشك أحد مما يشاع عن فرية التلوث الكيماوي أو غيره، كما لم تظهر أية أعراض غريبة على أحد من الناس.
يشير سعد الدين إلى أن حكومة الولاية تمارس الآن عملها بشكل يومي وطبيعي من مقرها في قلب الخرطوم، وتقوم قياداتها بجولات ميدانية في مختلف أرجاء الولاية، مما يؤكد أن هناك جهات تحاول جاهدة عرقلة عودة المواطنين، ربما لأسباب شخصية تتعلق بتوفيق أوضاعهم بالخارج، فضلاً عن أن معظم الراغبين قد عادوا بالفعل إلى العاصمة.
وأوضح المتحدث باسم الحكومة الولائية أن العودة الطوعية إلى الخرطوم تشهد معدلات كبيرة هذه الأيام، وهناك أسر كثيرة في طريقها إلى البلاد قادمة من مصر للحاق بالعام الدراسي في الخرطوم، الذي سيبدأ الأحد السابع من سبتمبر (أيلول) للفصول النهائية، والـ14 من الشهر نفسه لبقية الفصول الدراسية، وهناك معلومات بأن أكثر من 70 ألف أسرة في طريقها إلى العاصمة للحاق بالعام الدراسي.
مشكلات بيئية
يقر سعد الدين بوجود مشكلات متعلقة بالبيئة بسبب غياب الإصحاح البيئي نحو عامين، مما أدى إلى تكاثر نواقل الأمراض واكتساب بعضها مقاومة للمبيدات، لكن جهود حكومة الولاية واللجنة العليا لتهيئة العاصمة للعودة لم تتوقف في شأن الإصحاح البيئي، وتجري الآن عمليات مكافحة بالرش الرذاذي للأرضي تزامناً مع الرش الجوي، ومعلوم أن موسم الخريف تتكاثر فيه النواقل بكثافة من ناموس وبعوض وغيرهما، ويضيف "أسهم وجود منازل مهجورة أو خالية من السكان في تجمع المياه بداخلها لتتحول إلى حواضن لتكاثر النواقل، لذلك نناشد المواطنين في الولايات أو الخارج للعودة وتفريغ منازلهم من المياه المتراكمة بداخلها، أو في الأقل توكيل من يقوم بذلك نيابة عنهم".
ومنذ بدء العام الحالي نشطت أفواج العودة الطوعية بعودة أكثر من 323 ألفاً من اللاجئين من مصر وحدها، معظمهم إلى ولاية الخرطوم.
وكشف مدير المعابر الحدودية الفريق ياسر محمد عثمان عن ارتفاع ملحوظ في معدلات العودة الطوعية عبر المعابر الحدودية مع مصر، حيث بلغ متوسط عدد العائدين يومياً نحو 1500 شخص.
وأوضح عثمان أن إجمال عدد العائدين من مصر عبر معبري "أرقين" و"أشكيت" خلال الفترة من الأول من يناير (كانون الثاني) وحتى الـ31 من أغسطس (آب) 2025 بلغ 286375 مواطناً، مشيراً إلى أن أغسطس وحده شهد عبور 22690 شخصاً من معبر "أرقين"، و24958 شخصاً عبر "أشكيت".
واعتبر مدير المعابر أن حراك العودة الطوعية يأتي نتيجة لتحسن الأوضاع الأمنية بعد تحرير العاصمة الخرطوم، إلى جانب حملات النظافة والبيئة التي نُفذت داخل المدينة، فضلاً عن جهود مؤسسات الدولة في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين.
وكان متخصصون ومسؤولون في منظمات دولية ومحلية أشاروا إلى أن الدمار الناجم عن القصف الجوي والأرضي وعمليات النهب الواسعة ترك أكثر من 60 في المئة من مناطق البلاد بلا خدمات صحية أو تعليمية.
إضافة إلى شبكات المياه والكهرباء والمرافق الصحية والتعليمية، طاول الدمار أكثر من أربعة جسور و200 مبنى عام وتاريخي ومئات آلاف من المنازل، معظمها بولاية الخرطوم.
كذلك تشير تقديرات إلى خسائر مباشرة تراوح ما بين 180 و200 مليار دولار وغير مباشرة تفوق 500 مليار دولار، أي نحو 40 ضعفاً من ناتج السودان السنوي البالغ متوسطه نحو 36 مليار دولار.