ملخص
اتفقت أحزاب اليمين المتشدد واليسار على رفض مشروع الموازنة الذي يتضمن إجراءات تقشفية تخفض الإنفاق العام بأكثر من 52 مليار دولار.
خسرت حكومة رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو تصويت الثقة في البرلمان، مساء الإثنين، الذي قرنه بايرو بالتصديق على موازنة البلاد المتضمنة خفضاً كبيراً في الإنفاق بهدف تقليل نسبة العجز والحد من وطأة الدين العام.
وصوّت النواب بالغالبية ضد منح الحكومة الثقة، إذ اتفقت أحزاب اليمين المتشدد واليسار على رفض مشروع الموازنة الذي يتضمن إجراءات تقشفية تخفض الإنفاق العام بأكثر من 44 مليار يورو (52 مليار دولار)، وذلك عبر بنود تشمل تجميد المعاشات التقاعدية، وخفض الإنفاق على الرعاية الصحية، وإلغاء يومي عطلة رسميين.
وعلى رغم أن أسواق الأسهم لم تتأثر كثيراً في تعاملات أول أيام الأسبوع بالأزمة فإن أسواق السندات شهدت اضطراباً واضحاً مع ارتفاع العائد على سندات الدين السيادي الفرنسي إلى مستويات لم يصل إليها منذ عام 2009. كان العائد على السندات الفرنسية المتوسطة الأجل مدة 10 أعوام ارتفع إلى أكثر من 3.6 في المئة، ويتناسب العائد عكسياً مع سعر السندات، مما يعني تراجع قيمة الدين في سوق السندات.
وترزح فرنسا تحت وطأة دين عام وصل إلى أكثر من 3.35 تريليون يورو (أي ما يقارب 4 تريليونات دولار) يمثل نسبة تقترب من 114 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتعاني الموازنة الفرنسية عجزاً عند نسبة 5.8 في المئة، أي نحو ضعف سقف العجز الذي تسمح به المفوضية الأوروبية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عند نسبة ثلاثة في المئة.
اضطراب اقتصادي وسياسي
تعاني فرنسا عجز موازنة مزمناً منذ عام 1974، لكن ذلك العجز ارتفع أكثر أخيراً مع زيادة أعباء خدمة الدين العام وتراجع إيرادات الخزانة العامة، ويحمل بعض المحللين السياسات المالية والاقتصادية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المسؤولية عن وصول الوضع إلى هذا الحد.
في مواجهة التقدم المستمر لليمين المتطرف في استطلاعات الرأي والانتخابات العامة، تبنّى الرئيس ماكرون سياسات يمينية بهدف كسب أصوات القاعدة الانتخابية لهم، وهكذا كانت الإعفاءات الضريبية والتسهيلات للأعمال والشركات أحد أسباب تراجع عائدات الخزانة العامة وزيادة العجز، ومع تباطؤ النمو الاقتصادي يمول ذلك العجز بالاقتراض حتى وصل الدين العام إلى مستوياته الهائلة، علاوة على أن خدمة الدين من فوائد وأقساط تزيد الضغط على الخزانة وترفع نسبة عجز الموازنة.
يُعتبر الاقتصاد الفرنسي ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا بعد الاقتصاد الألماني، إلا أن الدين العام الألماني لا يزيد كثيراً عن نسبة 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تأتي فرنسا حالياً في الترتيب الثالث من حيث أكبر دين عام في دول الاتحاد الأوروبي الـ27، ولا يسبقها في الترتيب سوى اليونان التي تقترب نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي فيها من 150 في المئة، وإيطاليا حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي قرب 140 في المئة.
مما يعمّق الأزمة الاقتصادية في فرنسا الأزمة السياسية التي تعيشها في الفترة الأخيرة، ففي خلال عامين اضطر الرئيس ماكرون إلى تغيير الحكومة أربع مرات، ولم يقضِ بايرو في السلطة أكثر من ثمانية أشهر، إذ جرى تعيينه في ديسمبر (كانون الأول) 2024 خلفاً لميشيل بارنييه الذي لم يستمر في رئاسة الحكومة سوى ثلاثة أشهر، والحكومة التي ستستقيل اليوم الثلاثاء هي سادس حكومة في عهد ماكرون الذي تولى الرئاسة عام 2017 وتنتهي مدته الثانية عام 2027.
خيارات ماكرون
أمام الرئيس الفرنسي الآن خيارات عدة، لكنها في الغالب قد لا تؤدي إلى حل الأزمة الاقتصادية بالصورة التي تجنب فرنسا أزمة دين كالتي شهدتها اليونان قبل نحو عقد من الزمن، بالطبع سيعمل الرئيس ماكرون على تفادي اضطرار فرنسا إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي أو آلية الإنقاذ الأوروبية لحل مشكلة بلاده المالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخيار الأول هو أن يعين الرئيس شخصية توافقية لرئاسة الحكومة على أمل أن تتمكن من تأمين تمرير الموازنة التقشفية في البرلمان، لكن في ظل المعارضة القوية من الغالبية لسياسات خفض العجز من طريق وقف الإنفاق على الخدمات والدعم للطبقات الأقل حظاً سيكون ذلك صعباً، إن لم يكن مستحيلاً.
الخيار الثاني أن يحل الرئيس البرلمان ويدعو إلى انتخابات مبكرة، لكن ذلك سيضعف ائتلاف أحزاب الوسط المؤيد له أكثر، وسبق وغامر ماكرون بالدعوة إلى انتخابات مبكرة في يونيو (حزيران) 2024، انتهت بفوز اليمين المتشدد بقيادة ماري لوبن بالغالبية، وفازت أحزاب اليسار بمقاعد أكثر وتراجع نصيب ائتلاف الوسط ويمين الوسط.
يبقى الخيار الثوري هو استقالة الرئيس إيمانويل ماكرون ومن ثم إجراء انتخابات رئاسية وعامة وإعادة تشكيل السياسة الفرنسية بالكامل، إلا أن ماكرون سبق وكرر التعهد بعدم ترك منصبه حتى آخر ربع ساعة في مدة ولايته في ربيع العام بعد القادم، لكن مع الدعوات إلى الاحتجاجات والإضرابات المتوقعة في الأيام المقبلة قد تتفاقم أزمة اجتماعية تجعل الأزمة الاقتصادية والسياسية أكثر حدة وتطيح الرئيس.
قد يلجأ الرئيس ماكرون إلى خيار آخر وهو اختيار شخصية من خارج الساحة السياسية لتشكل "حكومة تكنوقراط" تكون مهمتها مواجهة التحديات المالية والاقتصادية، لكن تبقى المشكلة أن حتى تلك الحكومة "غير السياسية" ستحتاج إلى تمرير قوانينها وقراراتها عبر البرلمان الذي يهيمن عليه معارضو ماكرون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وبحسب استطلاع رأي نشرته صحيفة "لو فيغارو" فإن نسبة 64 في المئة من الفرنسيين يريدون أن يستقيل الرئيس ماكرون من الرئاسة وليس أن يختار رئيس حكومة جديداً، ويواجه الرئيس ماكرون أسوأ تدنٍ في قبول الناخبين لرئاسته منذ تولاها، إذ أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة "أويست فرانس" اليومية أن نسبة 77 في المئة من الناخبين غير راضين عن أدائه.
خيارات المعارضة
استهدف مشروع الموازنة لحكومة فرانسوا بايرو، الذي رفضه البرلمان وأسقط الحكومة، خفض عجز الموازنة إلى نسبة 5.4 في المئة بنهاية عام 2025 وإلى نسبة 4.6 في المئة عام 2026، على أن ينخفض تدرجاً ليصل إلى نسبة ثلاثة في المئة بحلول عام 2029، وتجمع غالبية الاقتصاديين والمحللين على أنه ليس أمام فرنسا غير اتباع إجراءات تقشفية لسد فجوة العجز دون ارتفاع معدلات الاقتراض والعمل على ضبط مستويات الدين العام.
بالطبع لا تحظى السياسات التقشفية بأية شعبية بين الجماهير، لكن المعارضة البرلمانية لا تملك بديلاً لمواجهة التحديات المالية والاقتصادية التي تواجهها فرنسا، إنما هي فقط تستخدم الغضب الشعبي للنيل من سلطة الرئيس ماكرون وأية حكومة يعينها.
يرى الحزب الاشتراكي، أحد مكونات اليسار في البرلمان، في الموازنة المقترحة أنها "تعاقب الطبقات الأقل حظاً من عائلات الطبقة العاملة والعمال"، بحسب ما قالت النائبة عن الحزب سيلين ثيبو – مارتينيز، ويقول الحزب الاشتراكي إن لديه خطة لمشروع موازنة تتضمن خفض الإنفاق العام لكن بنصف المبلغ المقترح في موازنة حكومة بايرو، على أن يُجرى تسديد الدين الفرنسي في مدة تصل إلى ضعف المدة المقترحة في الموازنة التي رفضها البرلمان.
أما اليمين المتطرف بقيادة ماري لوبن فلم يطرح أي بدائل لسد فجوة العجز أو خفض حجم الدين العام، علاوة على أن حزب "المسيرة القومية" الذي تتزعمه ربما لا يحبذ استقالة الرئيس ماكرون وإجراء انتخابات رئاسية الآن، لأن لوبن تراهن على أنه بإمكانها الفوز بالرئاسة إذا أُجريت الانتخابات في موعدها عام 2027، إنما يحبذ اليمين المتطرف حل البرلمان وإجراء انتخابات عامة مبكرة على أمل أن يعزز الحزب غالبيته البرلمانية.