ملخص
تقدم أديس أبابا "سد النهضة" على أنه أكبر مشروع كهرومائي في أفريقيا ويشكل "ثورة في مجال الطاقة"، لا سيما أن إثيوبيا، وهي ثاني أكثر البلدان تعداداً للسكان في القارة السمراء، يعاني نحو 45 في المئة من سكانها المقدر عددهم بنحو 130 مليون نسمة، عدم وجود كهرباء، وفق أرقام للبنك الدولي تعود لعام 2023. ويعيش نحو ثلث سكان البلد تحت خط الفقر، لكن في المقابل لا تزال ترى فيه القاهرة "تهديدا وجوديا" لأمنها المائي لا سيما مع اعتمادها على نهر النيل في توفير نحو 98 في المئة من حاجاتها المائية، وهو الموقف المتقارب مع السودان الذي أعرب عن "قلقه البالغ حيال تشغيل السد"، ورفض البلدان ما وصفاه "الإجراءات الأحادية في حوض النيل الأزرق".
مع إعلان إثيوبيا التدشين الرسمي لـ"سد النهضة" في التاسع من سبتمبر (أيلول) الذي أثار بناؤه خلافاً وتوتراً مع كل من القاهرة والخرطوم، لتخوفهما من أن يؤثر في حصتيهما المائية من النيل، لا سيما مصر التي تعتمد عليه في كل مناحي الحياة بنسبة تبلغ نحو 98 في المئة من حاجاتها المائية، تكون أزمة السد التي تجاوز عمرها أكثر من عقد قد دخلت "طوراً جديداً" بين أديس أبابا ودولتي المصب.
فالسد الذي بنته إثيوبيا على النيل الأزرق، وبات يشكل مصدر اعتزاز لتلك الدولة الأفريقية الحبيسة وموضع إجماع نادر الحصول داخلها، لا تزال ترى فيه مصر "تهديداً وجودياً"، إذ أعلن رئيسها عبدالفتاح السيسي في أغسطس (آب) الماضي، أن "من يعتقد أن القاهرة ستغض الطرف عن تهديد أمنها المائي فهو مخطئ"، مؤكداً "سنتخذ التدابير المكفولة كافة بموجب القانون الدولي للحفاظ على مقدرات شعبنا الوجودية"، وهو الموقف المتقارب مع السودان الذي أعرب عن "قلقه البالغ حيال تشغيل السد"، ورفض البلدان ما وصفاه "الإجراءات الأحادية في حوض النيل الأزرق".
فما قصة سد النهضة الذي تتمسك إثيوبيا بأنه "لن يشكل تهديداً لدولتي المصب بل فرصة مشتركة للتنمية"، ولماذا لم تنجح السياسة والدبلوماسية طوال الأعوام الماضية على رغم دخول وساطات دولية على خط الأزمة في حلحلة الخلاف الذي أحدثه مع دولتي المصب؟
1 ماذا نعرف عن "سد النهضة"؟
لم تكن لحظة إعلان إثيوبيا عزمها على بناء سد عملاق على النيل الأزرق في هضبة الحبشة في أبريل (نيسان) 2011، هي المحاولة الأولى لما تصفه أديس أبابا باستمرار "ضرورة تعظيم الاستفادة من مياه نهر النيل" عبر "بناء السدود"، وذلك ضد رغبات دولتي المصب (مصر والسودان) ومواقفهما في ما يتعلق بـ"الإخطار المسبق" في شأن إقامة أية مشاريع مائية مستقبلية في دول المنبع.
ويعود التحرك الإثيوبي في هذا الاتجاه إلى أواسط القرن الماضي عندما أعلنت حكومتها عام 1956 "عزمها على الاحتفاظ بمياه النيل في أراضيها لاستخدامها بالطريقة التي تراها مناسبة"، لتعود وتؤكد الأمر ذاته عام 2001، وتعلن نيتها رسمياً إنشاء عدد من المشروعات على "أنهارها الدولية"، وذلك في استراتيجية وطنية للمياه كشفت عنها حكومتها حينذاك.
وعلى رغم أن التحركات الإثيوبية في هذا الاتجاه بقيت ضمن الخطط ولم تتجاوز السياسات طوال العقد الأول من الألفية الجديدة، فقد جاء "سد النهضة" أو ''سد الألفية الكبير'' في شكله وقدراته المائية ليثير نقطة توتر لا تزال قائمة مع دولتي المصب حتى الآن، من دون حل مستقر على رغم تعدد الجهود الدبلوماسية والسياسية طوال أكثر من عقد من الزمن، كان من بينها تدخل وساطات على خط الأزمة أبرزها الاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة الأميركية.
وبدأت أديس أبابا بناء سد النهضة في أبريل 2011 على مجرى النيل الأزرق بولاية بني شنقول- قماز (أرض شاسعة جافة) قرب الحدود الإثيوبية - السودانية، وعلى بعد 980 كيلومتراً من شمال غربي العاصمة أديس أبابا، وهو سد مزدوج يتكون من السد الرئيس الخرساني الذي يقام على مساحة 1780 كلم2 بارتفاع 145 متراً ويخزن نحو 14 مليار متر مكعب من المياه، وسد "السرج" الركامي المبني من ركام الصخور وطبقة خرسانية بسماكة نصف متر وبطول 4800 متر وارتفاع 55 متراً، كسد احتياط (مكمل) يخزن نحو 60 مليار متر مكعب من المياه، ويسمح بصرف أية مياه فائضة عن خزان السد الأساس إلى المجرى الرئيس للنيل.
ويعد السد الذي تبلغ كلفته نحو 4.7 مليار دولار (مولت معظمه الحكومة فضلاً عن بعض الجهات الإقليمية والدولية) الأكبر في أفريقيا على الإطلاق لإنتاج الطاقة الكهرومائية، والعاشر في الترتيب العالمي، إذ تصل سعته التخزينية إلى 74 مليار متر مكعب، ويمتد بطول أكثر من ميل ويبلغ ارتفاعه 145 متراً، وقد استغرق بناؤه أكثر من 12 عاماً.
وتقارب المساحة السطحية لخزان السد مساحة مدينة لندن الكبرى، وتسعى إثيوبيا من بنائه إلى إنتاج الكهرباء لسد حاجات 60 في المئة من سكانها (يبلغ تعدادها السكاني أكثر من 120 مليون نسمة) الذين يفتقرون إلى الكهرباء حالياً.
ويحتوي تصميم السد على 15 وحدة كهربائية، قدرة كل منها 350 ميغاواط، عبارة عن 10 توربينات على الجانب الأيسر من قناة التصريف، وخمسة توربينات أخرى على الجانب الأيمن.
2 أية فوائد تراها إثيوبيا في بنائه؟
بحسب أديس أبابا، فإنه من المتوقع أن يولد السد نحو 5 آلاف ميغاواط من الطاقة الكهربائية، أي ضعف ما ينتج البلد راهناً، وما يعادل ثلاثة أضعاف الطاقة الكهربائية المولدة من المحطة الكهرومائية لسد أسوان المصري. وتروج السلطات الإثيوبية أن السد سيسهم في تطوير المشاريع الزراعية الكبرى، وأنشطة صيد الأسماك، وتنمية الاقتصاد المحلي، والترويج لشبكة تجارية جديدة قرب المنطقة، وتوفير فرص العمل، وزيادة توفير الغذاء للسكان المحليين وتنويعه. وبدأت إثيوبيا المرحلة الأولى في تعبئته عام 2020، وشرعت في إنتاج الطاقة منه في فبراير (شباط) 2022.
وتقدم أديس أبابا "سد النهضة" على أنه أكبر مشروع كهرومائي في أفريقيا ويشكل "ثورة في مجال الطاقة"، لا سيما أن إثيوبيا، وهي ثاني أكثر البلدان تعداداً للسكان في القارة السمراء، يعاني نحو 45 في المئة من سكانها المقدر عددهم بنحو 130 مليون نسمة، عدم وجود كهرباء، وفق أرقام للبنك الدولي تعود لعام 2023. ويعيش نحو ثلث سكان البلد تحت خط الفقر، وذلك في وقت غالباً ما ينقطع التيار الكهربائي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا حيث لا يتوقف هدير مولدات الكهرباء.
وتواجه إثيوبيا التي ما زال اقتصادها في قبضة الدولة نقصاً في العملات الأجنبية، لا سيما بسبب فاتورة المحروقات، والقيود على حركة الرساميل الأجنبية. وأعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أخيراً أن عائدات "سد النهضة الكبير" تقدر بمليار دولار في العام، في مقابل كلفة إجمالية مقدرة بنحو 4 مليارات دولار.
ومطلع عام 2024 فرضت السلطات في هذا البلد المترامي الواقع في الشرق الأفريقي حظراً على استيراد المركبات العاملة بالطاقة الحرارية حتى عام 2030، في مسعى إلى تعزيز مبيعات السيارات الكهربائية التي تشكل اليوم سبعة في المئة من إجمال المركبات في البلد.
وفي ظل تنامي مبيعات هذه المركبات، "من المتوقع أن تستهلك كمية كبيرة من الطاقة مع تطور الأسطول وسيساعد السد في تلبية الطلب المتزايد"، بحسب مراقبين إثيوبيين.
وعام 2022 كانت نحو 97 في المئة من الكهرباء المولدة في إثيوبيا التي تضم بحيرات عدة، هيدروليكية المصدر ونحو ثلاثة في المئة منتجة من طواحين الهواء، وفق معطيات الوكالة الدولية للطاقة.
3 لماذا يثير الخلاف مع دولتي المصب؟
على مدى أكثر من عقد لم تنجح محطات المفاوضات الممتدة والمحادثات الطويلة وحتى محاولات الوساطات المتعددة أو المبادرات المطروحة في إذابة الخلافات القائمة بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا، أو الوصول إلى جدول زمني لملء وتشغيل السد، وهو إحدى العقبات الكبرى على طريق حلحلة أزمة سد النهضة.
ووفق رصد أجرته "اندبندنت عربية" تكمن نقاط الخلاف بالأساس بين البلدان الثلاثة، في قواعد الملء والتشغيل، وحجم الأضرار على دولتي المصب، فضلاً عن عملية إدارة السد مستقبلاً، وتأثيره في قدرات مصر والسودان التخزينية للمياه.
ففي ما يتعلق بالملء والتخزين، تسعى إثيوبيا إلى إتمام ملء بحيرة خزان السد، البالغة 74 مليار متر مكعب في فترة تمتد بين أربعة وسبعة أعوام (بدأت عام 2020)، وذلك في وقت تتمسك فيه مصر بأن يتم الملء على مدى 10 أعوام مع الاتفاق على منظومة قانونية لإدارة السد، بما لا يؤثر في السد العالي (أكبر السدود المصرية المائية) والسدود السودانية وإدارة التدفق المائي مع الأخذ في الاعتبار أعوام الجفاف. إضافة إلى ذلك تتمسك أديس أبابا بالمضي قدماً في خطتها لعملية الملء بصورة أحادية حتى من دون موافقة دولتي المصب أو الاكتراث لاعتراضاتهما.
علاوة على ذلك، وبحسب تصريحات مصرية وسودانية متواترة، فإن الخلاف مع أديس أبابا في شأن سد النهضة لم يتعلق فقط بمسألة الحصص المائية (تقدر بـ55 ملياراً ونصف المليار متر مكعب لمصر، و18.5 مليار متر مكعب للسودان)، إنما بمسائل أخرى تشمل أمان السد والآثار البيئية المترتبة عليه والأضرار المحتملة على دولتي المصب، إذ تخشى القاهرة والخرطوم من مدى قوة السد وأمانه وتأثيراته في قدرات التخزين المائية، وهي بنود ضرورية برأيهما، في أي اتفاق مستقبلي.
وعلى رغم أن الدول الثلاث تقدمت بـصيغ بديلة لمحاولة تقريب وجهات النظر في النقاط الخلافية المتعلقة بالجوانب الفنية والقانونية للملء والتشغيل، فإن الخلافات راوحت مكانها. وتعثرت هذه المفاوضات أكثر من مرة بسبب عدم التوصل إلى اتفاق حول هذه الجوانب، مما دفع مصر والسودان إلى اللجوء لمجلس الأمن الدولي للتدخل، فأحال بدوره الأمر على الاتحاد الأفريقي.
وخلال العامين الأخيرين، ارتفعت نبرة الاتهامات المتبادلة بين القاهرة والخرطوم من جهة وأديس أبابا من جهة أخرى إذ اتهمت دولتا المصب في أكثر من مناسبة إثيوبيا، "بالتعنت والعمل على إفشال المفاوضات والتصعيد المستمر عبر اللجوء إلى التصرفات الأحادية"، معتبرتين أن ذلك "يؤثر في استقرار المنطقة، ويقود إلى عواقب سلبية، ويعد خرقاً لاتفاق المبادئ الموقع عام 2015". في المقابل، كثيراً ما نفت أديس أبابا هذه الاتهامات، وكررت في أكثر من مناسبة أهمية السد في تنميتها الاقتصادية مع حرصها على عدم الإضرار بدولتي المصب، متهمة القاهرة بـ"محاولة السيطرة على مياه النيل".
وتستند إثيوبيا في مواقفها على ما تسميه الحقوق الجغرافية باعتبار أن نحو أكثر من 80 في المئة من مياه النيل تنبع من أراضيها. وترفض بنود اتفاقيتي 1929 و1959 حول تقاسم مياه النيل، وخصوصاً الموافقة المصرية المسبقة على مشاريع الري بدول المنبع. وتصر على خطتها الخاصة في ما يتعلق بملء السد "طوال أشهر السنة"، وترفض وجود متخصصين مصريين أثناء عملية ملء السد، أو الإدارة المشتركة له، وكذلك وضع فتحات أخرى في السد.
في المقابل تتخوف القاهرة من تهديد السد حصتها المائية البالغة 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، وتخشى من تأثير السد في جفاف مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، وانخفاض منسوب المياه الجوفية، وتداخل مياه البحر في دلتا النيل وارتفاع نسبة الملوحة في أراضيها، وزيادة التلوث وتهديد المزارع والثروة السمكية. فضلاً عن تأثر قطاعي الطاقة والصحة سلباً بالأزمة المائية. ولتجاوز هذه المشكلات تتمسك القاهرة بضرورة ملء سد النهضة في فترة تراوح ما بين 10 و21 عاماً، وترفض تقليص كمية المياه عن 40 مليار متر مكعب سنوياً، وتصر على أن يقتصر تخزين المياه خلف السد على موسم الأمطار فحسب، وأن يتوقف التخزين في أوقات الجفاف. كذلك تطلب القاهرة زيادة عدد فتحات تمرير المياه داخل السد من فتحتين إلى أربع فتحات، لضمان استمرار تدفق المياه خلال فترات المناسيب الضعيفة للنيل.
أما عن السودان فيطلب من إثيوبيا التزام الاتفاقات الخاصة بالمياه الدولية المشتركة، ومن ذلك الإخطار المسبق بتشييد أي سد على الأنهار المشتركة، مما يضمن الحقوق المائية للدول المعنية. وسط مخاوف كبيرة من أن يؤثر السد في كميات الطمي القادمة إلى السودان مما سيؤدي إلى إفقار التربة الخصبة ومن ثم عجز البلد عن تحقيق استراتيجيته القديمة بأن يحقق الأمن الغذائي لنفسه ويصبح سلة غذاء العالم، وكذلك يرون أن حصة البلاد من المياه ستتأثر في حال اقتسام الأضرار الناتجة من السد مع مصر.
4 ما مراحل بناء السد؟
مرت عملية بناء السد بمراحل مفصلية بدأت عام 2010 وتحديداً في أغسطس حين أعلنت الحكومة الإثيوبية الانتهاء من عملية مسح موقع سد النهضة في هضبة الحبشة.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 أعلنت أديس أبابا الانتهاء من تصميم السد الأكبر في أفريقيا وعزمها على البدء في تنفيذه، وذلك قبل أن تعلن في أبريل 2011 تدشين المشروع رسمياً.
وبينما كانت عملية شاقة من المفاوضات تجريها كل من مصر والسودان وإثيوبيا، أعلنت الأخيرة في مايو (أيار) 2016 أنها على وشك إكمال 70 في المئة من بناء السد، وذلك قبل نحو عام وتحديداً في مايو 2017 حين أعلن الانتهاء من التقرير المبدئي حول سد النهضة، الذي على أثره اندلع خلاف بين الدول الثلاث، وهو التقرير الذي وافقت عليه مصر في أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته.
وفي الـ15 من يوليو (تموز) 2020 أعلنت إثيوبيا بصورة أحادية بدء عملية ملء السد، وهو ما رفضته كل من القاهرة والخرطوم، لتعود في الـ22 من الشهر ذاته لتعلن أن الملء السنوي الأول لسد النهضة قد تحقق، في ما وصفه ورئيس وزرائها آبي أحمد بـ"المرحلة التاريخية".
وفي الثاني من يوليو 2021 أعلنت إثيوبيا الملء الثاني للسد وسط رفض مصري سوداني باعتبار ذلك "إجراءات أحادية".
وعام 2022 أعلن رئيس الوزراء آبي أحمد في فبراير بدء إنتاج الطاقة الكهربائية في السد وتشغيل التوربين الأول لمحطة التوليد، وذلك قبل أن يعلن في الـ12 من أغسطس من العام ذاته اكتمال عملية الملء الثالث للسد بـ"نجاح"، كذلك أعلن عن تشغيل توربين ثان لتوليد الطاقة الكهربائية بقدرة 375 ميغاواط، ليرتفع بذلك مقدار توليد الطاقة إلى 750 ميغاواط.
وفي منتصف يوليو 2023، مع قيام إثيوبيا بالملء الرابع لخزان السد، تحركت المياه الراكدة بصورة مفاجئة إثر زيارة آبي أحمد للقاهرة، حيث استقبله السيسي بحفاوة في القصر الرئاسي، وأصدر البلدان بياناً مشتركاً كشفا فيه عن اتفاق الرئيسين على بدء مفاوضات عاجلة للانتهاء من اتفاق بين مصر والسودان وإثيوبيا حول ملء سد النهضة وقواعد تشغيله مع بذل الجهود للانتهاء من هذه العملية خلال أربعة أشهر، وهو ما لم يحدث لاحقاً.
وفي التاسع من سبتمبر الجاري أعلنت إثيوبيا وبصورة رسمية تدشين السد وقال رئيس وزرائها إنه "لا يشكل تهديداً بل فرصة مشتركة"، مشيراً إلى أن "الطاقة والتنمية اللتين سيولدهما لن ترتقيا بإثيوبيا وحدها".
5 ما أبرز محطات التقارب والتباعد؟
على مدى أعوام المفاوضات والمحاولات السياسية والدبلوماسية بعد بدء عملية البناء الفعلي لسد النهضة، مرت الأزمة التي ترتبت عليه بين مصر والسودان وإثيوبيا بمحطات مفصلية، شهدت في بعض جوانبها محاولات للتعاون والتوافق، لكن الخلاف والصدام كان السمة الأبرز بين الدول الثلاث.
وجاءت أولى محاولات الحلحلة في سبتمبر 2011 وذلك بعد أشهر قليلة من رحيل نظام الرئيس المصري حسني مبارك في فبراير (شباط) 2011، حين اتفقت كل من القاهرة وأديس أبابا على تشكيل لجنة دولية، تدرس آثار بناء السد.
وفي مايو 2012 بدأت اللجنة الدولية المشتركة أعمالها بفحص الدراسات الهندسية الإثيوبية، ومدى التأثير المحتمل للسد في مصر والسودان، وذلك قبل أن تصدر اللجنة تقريرها في مايو 2013 الذي يؤكد ضرورة إجراء دراسات تقييم لآثار السد في دولتي المصب. وقد توقفت المفاوضات بعدما رفضت مصر تشكيل لجنة فنية من دون متخصصين أجانب.
وكان عام 2014 حافلاً بالأحداث في ما يتعلق بالأزمة، ففي يونيو (حزيران) 2014 اتفقت كل من القاهرة وأديس أبابا على استئناف المفاوضات مرة أخرى في شأن سد النهضة، وذلك قبل أن تعقد اللجنة الثلاثية للدول الثلاث اجتماعها الأول في سبتمبر للتباحث حول صياغة الشروط المرجعية للجنة الفنية وقواعدها الإجرائية، والاتفاق على دورية عقد الاجتماعات، ليتفق بعدها البلدان الثلاثة في أكتوبر من العام ذاته على اختيار مكتبين استشاريين، أحدهما هولندي والثاني فرنسي لعمل الدراسات المطلوبة في شأن السد، وهما شركتا "بي أر أل" الفرنسية و"دلتارس الهولندية" بنسبة 70 في المئة للأولى و30 في المئة للثانية.
وفي مارس (آذار) 2015 وقع رؤساء البلدان الثلاثة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ونظيره السوداني، عمر البشير، ورئيس وزراء إثيوبيا هايلى ديسالين في العاصمة السودانية الخرطوم وثيقة "إعلان مبادئ سد النهضة"، يتسق مع القواعد العامة في مبادئ القانون الدولي الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية، الذي نص على 10 مبادئ رئيسة كان أبرزها إقرار التعاون على أساس التفاهم المشترك، وحسن النيات، ومبادئ القانون الدولي، وتفهم الحاجات المائية لدول المنبع والمصب بمختلف مناحيها، فضلاً عن عدم التسبب في أضرار ذي شأن والتعاون في الملء وإدارة السد.
في العام ذاته وتحديداً في سبتمبر انسحب المكتبان الاستشاريان (الهولندي والفرنسي) لـ"عدم وجود ضمانات لإجراء الدراسات بحيادية"، ليوقع بعدها وزراء خارجية الدول الثلاث في ديسمبر على وثيقة الخرطوم، التي تضمنت تأكيد اتفاق إعلان المبادئ الموقع من قيادات الدول الثلاث، وتضمن ذلك تكليف مكتبين فرنسيين بتنفيذ الدراسات الفنية الخاصة بالمشروع.
وعام 2017 أعلنت مصر عدم التوصل إلى اتفاق بعد رفض إثيوبيا والسودان التقرير المبدئي، والحكومة المصرية تعلن أنها ستتخذ ما يلزم لحفظ "حقوق مصر المائية"، وذلك قبل أن تقترح في آخر العام على أديس أبابا مشاركة البنك الدولي في أعمال اللجنة الثلاثية، التي تبحث في تأثير إنشاء سد النهضة الإثيوبي في دولتي المصب، مصر والسودان، وهو ما رفضه رئيس الوزراء الإثيوبي آنذاك، هايلي مريم ديسالين.
وفي أبريل 2018 عقد أول اجتماع تساعي بين الدول الثلاث الذي ضم وزراء الخارجية والمياه ورؤساء أجهزة الاستخبارات للدول الثلاث، وأعقبته تصريحات بعدم الوصول إلى اتفاق في تلك الجولة من المفاوضات، وذلك قبل نحو شهرين من تعهد رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آبي أحمد في القاهرة شفهياً خلال مؤتمر صحافي مع الرئيس عبدالفتاح السيسي بأن بلاده لن تلحق ضرراً بالشعب المصري، بسبب سد النهضة.
وفي فبراير 2019 التقى قادة الدول الثلاث على هامش القمة الأفريقية، المقامة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وقالت الرئاسة المصرية حينها إنهم توافقوا على عدم الإضرار بمصالح شعوبهم، كأساس تنطلق منه المفاوضات، وكذلك التوافق حول جميع المسائل الفنية العالقة.
وبعدما سلمت القاهرة أديس أبابا في أغسطس 2019 رؤيتها في شأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، عادت وزارة الري المصرية لتعلن في سبتمبر 2019 تعثر مفاوضات وزراء الري بين الدول الثلاث بالقاهرة، والفشل في الوصول إلى اتفاق لـ"عدم تطرق الاجتماع إلى الجوانب الفنية"، مما دفع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى القول في أكتوبر من العام ذاته إن بلاده بكل مؤسساتها ملتزمة حماية الحقوق المائية المصرية في مياه النيل، ومستمرة في اتخاذ ما يلزم من إجراءات على الصعيد السياسي، وفي إطار محددات القانون الدولي لحماية هذه الحقوق.
وبدأت الأمور تأخذ منحى تصاعدياً، حين أعلنت وزارة الخارجية المصرية في أكتوبر 2019 عن صدمتها، إزاء تصريحات إعلامية منسوبة لرئيس الوزراء آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي، بأنه "يستطيع حشد الملايين على الحدود، في حال حدوث حرب... وأنه لا توجد قوة تستطيع منع بلاده من بناء سد النهضة"، وذلك قبل أن تدخل واشنطن على خط الأزمة في السادس من نوفمبر 2019 وذلك في عهد ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأولى واستضافت الأطراف الثلاثة، بوجود وزير الخزانة الأميركية، ورئيس البنك الدولي للمرة الأولى. وحينها صدر بيان مشترك جاء فيه أنه "تقرر عقد أربعة اجتماعات عاجلة للدول الثلاث، على مستوى وزراء الموارد المائية وبمشاركة ممثلي الولايات المتحدة والبنك الدولي، تنتهي بالتوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة خلال شهرين، بحلول منتصف يناير (كانون الثاني) 2020"، وهي المفاوضات التي فشلت في النهاية.
وفي الـ20 من يونيو 2020 طالبت مصر رسمياً بتدخل مجلس الأمن بسبب أزمة سد النهضة، الذي دعا بدوره الدول الثلاث إلى استئناف المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي، مع دعم انتظام أي مراقبين تدعوهم العواصم الثلاث لدعم مفاوضات السد وتسهيل حل المسائل الفنية والقانونية، ودفع عملية التفاوض "بروح بناءة وتعاونية"، وهو ما استجاب له الاتحاد الأفريقي، لتعود الأطراف بعد ذلك وتعلن فشل المفاوضات في نوفمبر من العام ذاته.
وفي أبريل 2021 فشلت آخر جولة تفاوضية برعاية الاتحاد الأفريقي، التي استضافتها العاصمة الكونغولية كينشاسا، ووصلت الخلافات إلى طريق مسدود، لتتحرك بعدها القاهرة والسودان مجدداً باتجاه مجلس الأمن، وذلك قبل أن يعقد مجلس الأمن جلسة في الثامن من يوليو من العام ذاته لبحث أزمة السد بناءً على طلب مصر.
وفي أغسطس 2023 استؤنفت المحادثات بين مصر وإثيوبيا التي استمرت على مدى أربع جولات تفاوضية تقاسم البلدان استضافتها، إلا أنه لم تغير أي منهما مواقفها في شأن الملفات الخلافية، وعليه تبادل البلدان التهم بعرقلة المسار التفاوضي، إذ قالت مصر إن إثيوبيا تراجعت عن توافقات سابقة، وترفض الحلول الوسط، فيما طرحت إثيوبيا مسألة الحصول على "حصة عادلة" من مياه النيل التي ترفض مصر مناقشتها، لتعود وتعلن القاهرة في ديسمبر من العام ذاته "انتهاء المسار التفاوضي" في شأن السد الإثيوبي، بسبب "استمرار ذات المواقف الإثيوبية الرافضة عبر الأعوام الماضية للأخذ بأي من الحلول الفنية والقانونية الوسط التي من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث"، بحسب وزارة الري المصرية.
6 هل أزمة السد هي الوحيدة التي تهدد دولتي المصب؟
لم تكن أزمة "سد النهضة" بين إثيوبيا ودولتي المصب (مصر والسودان) هي الأزمة الوحيدة التي تخيم على مجرى نهر النيل طوال العقدين الأخيرين، إذ بعد عقود من الهدوء النسبي شكلت علاقات الدول المتشاطئة على نهر النيل، بدأت الأمور تأخذ منحى مغايراً بدايات الألفية الجديدة وصولاً إلى محطة ما عرف بـ"اتفاقية عنتيبي" التي وقعها عدد من دول المنبع في محاولة لخلق إطار قانوني بديل عما سبقها من اتفاقات لتوزيع مياه النيل.
وبدأت القصة عندما اجتمع المجلس الوزاري لدول حوض النيل بمدينة الإسكندرية في دورته الـ17 في يوليو 2009، وهو المؤتمر الذي سعت فيه دول المنبع (إثيوبيا وكينيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا) لفرض إقامة "مفوضية" لحوض النيل، من دون مشاركة دولتي المصب (مصر والسودان)، لتجاوز الاتفاقات السابقة، وهي المحطة التي فجرت الخلافات بين دول المنبع والمصب مع مطالبة الأولى إعادة النظر في الاتفاقات القديمة، بدعوى أن الحكومات القومية لم تبرمها ولكن أبرمتها دول الاستعمار نيابة عنها، إضافة إلى المطالبة بالاستغلال المتساوي لحوض النيل، والحاجات المائية المتزايدة لبعض دولها، والدعوة إلى تنفيذ مشروعات مائية من دون إخطار دول المصب.
وفي مايو 2010 قررت خمس من دول المنبع التوقيع على اتفاقية في مدينة عنتيبي الأوغندية، وسميت باسمها (اتفاقية عنتيبي) وهدفت إلى نقل النفوذ من دولتي المصب إلى دول المنبع وفقاً لاتفاقات 1929 و1959، ومنحت مصر والسودان مهلة عام واحد للانضمام إلى المعاهدة، وهو ما رفضته الدولتان نظراً إلى أنها تنهي الحصص التاريخية لهما في مياه النيل، ومن ثم تخالف كل الاتفاقات الدولية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشملت اتفاقية عنتيبي مجموعة من المبادئ كان أبرزها إقرار التعاون بين دول حوض نهر النيل على أساس المساواة في السيادة والسلامة الإقليمية والفائدة المتبادلة لتحقيق الاستخدام الأمثل، والعمل على التنمية المستدامة وحماية مياه حوض نهر النيل مع التخطيط المسبق، فضلاً عن ضمان الأمن المائي لجميع دول حوض نهر النيل، وإقرار مبدأ الاستخدام المنصف والعادل لمياه النهر.
في المقابل اشترطت دولتا المصب على دول المنبع إدخال مجموعة من البنود على الاتفاقية للتوقيع عليها والتي شملت: تأكيد حقوق البلدين التاريخية في مياه النيل، وضرورة الإخطار المسبق عن كل المشروعات التي يتم تنفيذها على النهر، فضلاً عن عدم جواز تغيير أي بند من بنود الاتفاقية إلا بإجماع الآراء باشتراط تضمين دولتي المصب.
وأمام الرفض المصري والسوداني، بقيت الاتفاقية معلقة لمدة ثلاثة أعوام، وذلك قبل أن تصادق عليها رسمياً إثيوبيا ورواندا كأول دولتين من دول حوض النيل عام 2013، ثم تبعها لاحقاً تتالي مصادقات عدد من دول المنبع أبرزها عام 2015 مصادقة كل من تنزانيا وأوغندا وبوروندي، ثم في يوليو 2024 مصادقة جنوب السودان كأحدث دولة تنضم إلى اتفاقية عنتيبي، وتصبح الدولة السادسة التي تصادق عليها، وبذلك تدخل حيز التنفيذ بموجب المادة 43 منها، التي تنص على تفعيلها بعد 60 يوماً من إيداع سادس دولة تصديقها لدى الاتحاد الأفريقي، لكنها بقيت مرفوضة لدى مصر والسودان.
7 ما تاريخ الاتفاقات الحاكمة للنيل؟
على مدى العصر الحديث سعت دول حوض النهر إلى إقرار اتفاقات في ما بينها لتقاسم المياه وضمان حقوقها المائية، لا سيما أن هذا النهر كان مصدراً على مدى التاريخ لحياة الشعوب والحضارات التي بنيت على ضفافه وبخاصة الحضارة الفرعونية في مصر، وزادت أهمية النهر مع الإمكانات الهائلة التي وفرها على مستوى اقتصادات تلك البلدان وبخاصة في مجالات الزراعة والصناعة والسياحة وصيد الأسماك وتوليد الكهرباء وغيرها.
وبينما كانت غالب الاتفاقات تتم بين دول المصب وهي (مصر والسودان) وإثيوبيا التي ينبع منها النيل الأزرق الذي يمثل الحصة الكبرى من إيرادات النهر المائية، مرت علاقات تلك الدول بمحطات توتر واضطراب وكذلك تعاون، على مدى التاريخ الحديث سعياً إلى الوصول لاتفاق حول إيرادات النيل.
وجاءت أولى الاتفاقيات المتعلقة بالنيل في الـ15 من أبريل 1891 حين وقعت دولتا الاستعمار آنذاك إيطاليا التي كانت تحتل إريتريا، وبريطانيا التي كانت تحتل غالب دول حوض النيل، اتفاقاً عرف باسم "بروتوكول روما" حدد البلدان مناطق نفوذهما في شرق القارة السمراء، وتعهدت إيطاليا من خلاله بعدم إقامة أية منشآت على نهر عطبرة (يغذي النيل بما يقدر بأكثر من 10 في المئة من المياه عند التقائه بالنيل) يمكن أن يكون لها تأثير سلبي في موارد نهر النيل.
وفي الـ15 من مايو 1902 وقعت بريطانيا مع منليك إمبراطور إثيوبيا ومؤسس الإمبراطورية، اتفاقية ترسيم للحدود بين إمبراطورية إثيوبيا والسودان، المستعمرة البريطانية، وإضافة إلى ترسيم الحدود الإثيوبية - السودانية فقد شملت تلك الاتفاقية تعديلاً للحدود الإريترية، بتوافق مع إيطاليا. واشتملت تلك الاتفاقية على نص صريح حول سبل استغلال مياه النيل الأزرق وبحيراته وروافده بحيث يلزم بإخطار بريطانيا ومصر والتشاور معهما قبل أي مشروع من قبل إثيوبيا من شأنه أن يؤثر في تدفق مياه نهر النيل.
وفي التاسع من مايو 1906 وقعت كل من بريطانيا وبلجيكا في لندن 1906 اتفاقية ترسيم الحدود بين الكونغو والسودان، التي نصت على ألا تقوم الحكومة البلجيكية أو حكومة الكونغو بأية أعمال على الأنهار المغذية لبحيرة "ألبرت" ونهر النيل إلا بالاتفاق مع الحكومات البريطانية والسودانية.
وفي الـ13 من ديسمبر 1906، وقعت بريطانيا وإيطاليا وفرنسا اتفاقاً شاملاً يحدد مصالح الدول الثلاث في إثيوبيا ولم يتعارض أو يعدل أياً من بنود اتفاق روما الموقع بين بريطانيا وإيطاليا في الـ15 من أبريل 1891، ولم يسقط ما تم توقيعه عام 1902 بين بريطانيا وإثيوبيا.
عام 1925 أقرت بريطانيا وإيطاليا عبر مجموعة من الخطابات المتبادلة بينهما بحقوق مصر والسودان في مياه النيل الأزرق والنيل الأبيض، مع تعهدهما بعدم القيام بأية مشروعات تؤثر سلباً في كمية المياه المتدفقة للمجرى الرئيس لنهر النيل.
8 لماذا الخلاف على اتفاقيتي 1929 و1959؟
تزامناً مع إعلان بريطانيا إنهاء الحماية على مصر في عشرينيات القرن الماضي، وقعت أول اتفاقية لتقاسم المياه عام 1929 التي عدت الاتفاقية المؤسسة للنقاش حول نهر النيل، وأبرمتها الحكومة البريطانية بصفتها الاستعمارية نيابة عن عدد من دول حوض النيل (أوغندا وتنزانيا وكينيا)، مع الحكومة المصرية.
تضمنت تلك الاتفاقية إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وأن لمصر الحق في الاعتراض في حال إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده، وذلك بعد أعوام من تحرك الحكومة المصرية لتأكيد حقها في مياه النهر وتشكيل لجان فنية مصرية سودانية بريطانية قامت في ما بين عامي 1925 و1929 بدراسة وضع نهر النيل ودراسة الأمور التقنية والقانونية لكل الاتفاقات الموقعة من قبل بين الدول المتحكمة في القارة السمراء والمتحكمة في حوض النيل وإثيوبيا من جانب وبينها وبين الكونغو من جانب آخر.
وشملت الاتفاقية مجموعة من البنود أبرزها ألا تقام، بغير اتفاق مسبق مع الحكومة المصرية مشروعات لاستغلال المياه في الري أو توليد الطاقة أو أية إجراءات على نهر النيل أو أي من فروعه أو على أي من البحيرات التي ينبع منها، أي إجراء من شأنه إنقاص مقدار المياه التي تصل إلى مصر، أو تعديل تاريخ وصولها أو تخفيض منسوبها على أي وجه يلحق ضرراً بمصالح مصر.
وأقرت اتفاقية 1929 بحصة مصر والسودان في ذلك الوقت من المياه المتدفقة بنهر النيل عند آخر نقطة التقاء لفروعه بالأراضي السودانية، والتي قدرت بـ48 مليار متر مكعب لمصر و4 مليارات متر مكعب للسودان، فضلاً عن منح القاهرة الحق في الاعتراض (حق الفيتو) في حال إنشاء أي من دول المنبع مشروعات جديدة على النهر وروافده تمثل تأثيراً في موارد مصر من المياه.
وفي نوفمبر 1959 وقعت بالقاهرة بين مصر والسودان اتفاقية لتقاسم مياه النيل، وجاءت مكملة لاتفاقية عام 1929 وليست لاغية لها، إذ سعى من خلالها البلدان إلى ضبط المياه الواصلة إلى كل منهما في ظل المتغيرات الجديدة التي ظهرت على الساحة آنذاك وهي الرغبة في إنشاء السد العالي ومشروعات أعالي النيل لزيادة إيراد النهر وإقامة عدد من الخزانات في أسوان، وشملت تلك الاتفاقية ترتيبات تفصيلية لجميع خطوات بناء السد العالي من جهة تخزين المياه واستخدام الفائض خلف الخزان، وإعادة توطين السكان المتضررين، وكان أبرز بنودها، تأكيد أن اتفاقية 1929 ملزمة لجميع الأطراف، وضبط توزيع مياه النيل بين مصر والسودان وتعديل الكميات المستحقة لكل بلد على أن تكون حصة السودان من النهر 18.5 مليار متر مكعب، وحصة مصر 55.5 مليار متر مكعب، فضلاً عن موافقة الدولتين على قيام مصر بإنشاء السد العالي وقيام السودان بإنشاء خزان الروصيرص على النيل الأزرق وما يستتبعه من أعمال تلزم السودان لاستغلال حصته.
وترفض إثيوبيا الالتزام باتفاقيتي 1929 و1959، وعملت على مدى عقود لإقرار اتفاقات جديدة تقوم على مبدأ "التقاسم المنصف والعادل لمياه نهر النيل"، وهو ما ترفضه دولتا المصب في المقابل. وفي فبراير 1999، أطلقت الدول المشاطئة للنهر ما يعرف بمبادرة "حوض النيل"، وهي المبادرة التي ضمت غالبية الدول من بينها مصر والسودان بهدف وضع استراتيجية للتعاون في ما بينها، باستنادها إلى مبدأين أساسيين هما: تحقيق النفع للجميع، وعدم الضرر، إلا أنها كانت آلية موقتة لعدم استنادها إلى معاهدة أو اتفاقية دائمة.
9 ماذا نعرف عن نهر النيل؟
يعتبر نهر النيل في شكله الحالي الذي يقع في شرق أفريقيا أحد أقدم وأطول الأنهار في العالم، إذ يبلغ عمره وفق ما تقول مجلة "نيتشرجيوساينس" العلمية البريطانية، نحو 30 مليون سنة، فيما يمتد جغرافياً بطول 6695 كيلومتراً قياساً من أول رافد له عند نهر روفيرونزا (Ruvyronza) في بوروندي إلى مصبه على البحر الأبيض المتوسط في مصر.
ولطوله الكبير الذي يمتد في 11 دولة هي من الجنوب إلى الشمال: تنزانيا والكونغو الديمقراطية وبوروندي ورواندا وكينيا وأوغندا وجنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا والسودان ومصر، يغطى حوض النهر نحو 10 في المئة من مساحة القارة الأفريقية (نحو 3.4 مليون كيلومتر مربع)، ويبلغ عدد سكان دول حوض النهر أكثر من 480 مليون نسمة، وتعد معدلات النمو السكاني مرتفعة للغاية في دوله.
تستغرق مياه النيل التي تتدفق من الجنوب إلى الشمال مدة ثلاثة أشهر في رحلتها من منبعها في بحيرة فيكتوريا إلى البحر المتوسط، وذلك بتصريف مالي 2700 متر مكعب/ ثانية أي نحو 84 مليار متر مكعب سنوياً في دول المصب، وهو معدل متواضع مقارنة بنهر الأمازون في أميركا الجنوبية الذي يليه في الطول ويبلغ معدل تصريفه للمياه 175 ألف متر مكعب/ ثانية أي ما يعادل نحو 5518 مليار متر مكعب سنوياً.
يتكون النهر الذي يحوي 100 جزيرة بينها 22 في مصر وحدها وفق موسوعة "بريتانيكا"، من رافدين أساسيين: هما "النيل الأبيض" وينبع من هضبة البحيرات (بحيرة فيكتوريا)، والنيل الأزرق ويبدأ من إثيوبيا بحيرة (تانا)، ويعتبر نهر "روفيرونزا" في بوروندي هو أقصى مصادر النيل جنوباً، وهو أحد روافد نهر "كاجيرا" الذي يصب في بحيرة فيكتوريا التي تعتبر المصدر الأساس لمياه النيل الأبيض وهي ثاني أكبر بحيرة عذبة في العالم، وتقع في منطقة غنية بالمستنقعات على حدود كل من أوغندا وتنزانيا وكينيا ويقطعها خط الاستواء ومنها يمر النهر إلى بحيرة كيوجا ثم إلى بحيرة "ألبرت"، ويصل إلى جنوب السودان عند مدينة نيمولي، حيث يمر عبر شلالات "فولا"، ليعرف عندها باسم "بحر الجبل".
من عند "بحر الجبل" يشق نهر النيل طريقه في منطقة المستنقعات الكثيفة بالسودان حيث يتفرع منه بحر الزراف، ثم يتصل بعدها ببحر الغزال، ثم بنهر "السوباط" الذي ينبع من هضبة الحبشة، ثم يستعيد مساره نحو الشمال، ويعرف فيها باسم "النيل الأبيض" ويستمر في مساره حتى يمر بالعاصمة السودانية الخرطوم.
أما عن "النيل الأزرق" الذي ينبع من بحيرة "تانا" في مرتفعات إثيوبيا قبل أن يلتقي نهري الرهد والدندر داخل أراضي السودان، ويستمر في مساره حتى يلتقي النيل الأبيض في منطقة المقرن بالخرطوم، ثم يعبر الحدود السودانية المصرية، ويستمر في مساره حتى يصل إلى بحيرة ناصر، وهي بحيرة صناعية تقع خلف السد العالي، ثم يمضي في طريقه شمالاً ماراً بمحافظات الصعيد المصرية وصولاً إلى العاصمة القاهرة ليتفرع بعدها إلى فرعين: فرع دمياط (شرقاً)، وفرع رشيد (غرباً)، ويحصران في ما بينهما دلتا النيل، ويصب النيل في النهاية في البحر الأبيض المتوسط، بمنطقة اللسان بمدينة رأس البر بمحافظة دمياط (فرع دمياط)، كما يصب "فرع رشيد" أيضاً في البحر الأبيض المتوسط، لتشكل هذه الخريطة في النهاية ما يعرف بنهر النيل.
وبينما تعد نسبة مساهمة النيل الأبيض في إيراد النهر المائي ضئيلة بسبب نسب التبخر العالية للمياه، التي تقدر بنحو 15 في المئة تأتي بالأساس من الهضبة الاستوائية (تضم ست دول هي: كينيا وتنزانيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية ورواندا وبوروندي)، يشكل "النيل الأزرق" 85 في المئة من المياه المغذية للنيل، وتصل هذه المياه إليه أثناء سقوط الأمطار الموسمية على هضبة الحبشة في الصيف فحسب، وهو ما يعرف بفيضان النيل.
ويحمل النيل نحو 110 ملايين طن من الطمي سنوياً، يأتي معظمها من هضبة الحبشة، ولهذه الكميات من الطمي أثر كبير في دول الحوض، إذ تجدد خصوبة التربة على الضفتين في بعض المناطق، وتقلل من السعة التخزينية للخزانات والسدود على مسار النيل.
10 ما أشهر السدود على نهر النيل؟
على طول نهر النيل، أنشأت دول المصب والمنبع كثيراً من السدود على مدى العصر الحديث بهدف تعظيم العوائد المائية وتوليد الطاقة، فضلاً عن تحسين الري والزراعة المحلية والارتقاء بالاقتصاد، وعلى رغم بعض الآثار السلبية لتك السدود، فإنها لم تثر خلافاً كبيراً بين دول المنبع والمصب كما هي الحال بالنسبة إلى سد النهضة الإثيوبي.
ويمثل السد العالي أو ما يعرف بـ"سد أسوان" أبرز تلك السدود، وهو سد مائي على نهر النيل في مدينة أسوان جنوب مصر، يبلغ طوله عند القمة 3830 متراً، منها 520 متراً بين ضفتي النيل وتمتد البقية على هيئة جناحين على جانبي النهر.
وكان أول مشروع يقام لتخزين المياه على مستوى دول حوض النيل، وبلغ عدد العاملين به 34 ألفاً، واستغرق بناؤه 10 أعوام (1960-1970)، إذ يبلغ ارتفاعه 111 متراً فوق منسوب قاع نهر النيل، وعرضه عند القمة 40 متراً، فضلاً عن حجم جسم السد الذي يبلغ 43 مليون متر مكعب من أسمنت وحديد ومواد أخرى، ويمكن أن يمر خلاله تدفق مائي يصل إلى 11 ألف متر مكعب من الماء في الثانية الواحدة.
وبدأت فكرة إنشاء السد العالي مع ثورة يوليو عام 1952، ومع توجه الدولة المصرية نحو التنمية عقب التحرر من الاستعمار البريطاني، فيما بدأ العمل فعلياً به في التاسع من يناير عام 1960، وشمل حفر قناة التحويل والأنفاق وتبطينها بالخرسانة المسلحة، وصب أساسات محطة الكهرباء وبناء السد حتى منسوب 130 متراً.
وفي منتصف مايو عام 1964 تم تحويل مياه النهر إلى قناة التحويل والأنفاق، وإقفال مجرى النيل والبدء في تخزين المياه بالبحيرة. وفي المرحلة الثانية تم الاستمرار في بناء جسم السد حتى نهايته، وإتمام بناء محطة الكهرباء وتركيب التوربينات وتشغيلها، مع إقامة محطات المحولات وخطوط نقل الكهرباء.
وفي الـ15 من يناير عام 1971 تم الاحتفال بافتتاح السد العالي في عهد الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات وبحضور رئيس هيئة رئاسة مجلس السوفيات الأعلى نيكولاي بودغورني، وقدرت الكلفة الإجمالية للمشروع بنحو 450 مليون جنيه مصري، أو ما يوازي حينها نحو مليار دولار (كان سعر الصرف حينها: جنيه مصري يساوي 2.3 دولار).
وشكلت المياه المحجوزة خلف السد بحيرة صناعية هائلة، وهي بحيرة ناصر، يبلغ طولها 500 كيلومتر ومتوسط عرضها 12 كيلومتراً، إذ تغطي منطقة النوبة المصرية بأكملها وجزءاً من النوبة السودانية. وبلغت سعة التخزين الكلية للبحيرة خلف السد 162 مليار متر مكعب من المياه، وسعة التخزين الميت 32 مليار متر مكعب. وتعني عبارة "التخزين الميت" كمية المياه التي لا يمكن نقلها من خلال فتحات السد، حيث تقع هذه الكمية أسفل منسوب فتحات جسم السد.
وفي إثيوبيا يمثل سد تيكيزي أبرز سدودها على نهر النيل، وهو سد لتوليد الطاقة الكهربائية. انتهى العمل فيه عام 2009، وتم تشييده على نهر تكزه، وهو أحد روافد النيل عبر عطبرة في تيغراي شمال إثيوبيا.
وبلغت كلفة بناء السد نحو 224 مليون دولار، ولم يكن الغرض الرئيس للسد تخزين المياه فحسب، فهو يحتجز 9.2 مليار متر مكعب فحسب، وكان الغرض الرئيس منه هو احتجاز الطمي، الذي يشكل نسبة 40 في المئة من الطمي في نهر النيل الرئيس بين عطبرة وأسوان.
وبحسب بيانات وزارة الري الإثيوبية كان السد ينتج نحو 300 ميغاواط من الكهرباء عام 2017، استخدمت بصورة رئيسة لتوليد الطاقة المحلية والري، وأسهمت في رفع مستوى الماء في سد عطبرة في السودان، ومن ثم زيادة توليد الطاقة، وهو حالياً خارج الإنتاج بسبب التصحر، ويستخدم للري أيضاً.
وفي السودان يحمل أبرز سدودها اسم "سد الروصيرص"، وهو سد كهرومائي خرساني سمي على اسم مدينة الروصيرص الواقعة قربه في ولاية النيل الأزرق السودانية، وشيد عام 1952، لتخزين المياه من نهر النيل لاستخدامها في ري الأراضي الزراعية، ويبلغ الارتفاع الأقصى فيه من منسوب الأساس 40 متراً، فيما يراوح عرضه الأساس من 230 متراً إلى 300 متر.
وعلى رغم بنائه في منتصف القرن الماضي، فإن تعديلات لاحقة جرت لتعليته، ففي عام 1955 تم تكليف شركة أجنبية بتصميم خزان بسعة أكبر وينفذ على مرحلتين، المرحلة الأولى من المشروع بسعة 3 مليارات متر مكعب ومرحلة ثانية بسعة 7.4 مليار متر مكعب، إذ تم الانتهاء من تنفيذ المرحلة الأولى عام 1966، واكتملت المرحلة الثانية في يناير 2013، مما زاد من قدرته على توليد الكهرباء المائية.
ويهدف خزان السد لتوفير مياه الري وزيادة الأراضي الزراعية المعتمدة على الري الدائم. ويولد هذا السد نحو نصف الطاقة الكهربائية المتوافرة في شبكة الكهرباء الوطنية بالسودان، وذلك عبر تمرير المياه عبر فتحات المفيض أو الأبواب السفلى أو الاثنين معاً حسب كمية المياه الواردة.