Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موجة تسرب تضرب المدارس البريطانية

فيما مضى، كان الأطفال الذين يتغيبون عن المدرسة يعدون متسربين وتوضع إشارات على سجلاتهم ويعاقب والداهم، لكن اليوم، يتغيب ما يفوق مليون طفل ومراهق عن مقاعد الدراسة بصورة دائمة

عدد كبير من الأطفال يعجز عن التكيف مع البيئة المدرسية التقليدية (أ ف ب/غيتي)

ملخص

تشهد بريطانيا تفشياً واسعاً لظاهرة الغياب المزمن عن المدارس بين الأطفال والمراهقين بفعل أزمات الصحة النفسية وتداعيات جائحة كوفيد، وسط عجز النظام التعليمي والخدمات العلاجية عن الاستجابة، مما يهدد جيلاً كاملاً بخسارة فرصه التعليمية والمستقبلية.

انقطع ريس* (13 سنة) عن الدراسة منذ نحو 400 يوم. من المفترض أن يبدأ الصف التاسع الخميس المقبل في مدرسته الشاملة شمال غربي لندن، لكنه لم يقصد المدرسة أبداً في الصف الثامن بعدما بدأ يصاب "بانهيار يومياً قبل موعد الذهاب إلى المدرسة" في الصف السابع، كما تقول والدته إيلاين. لدى الأخيرة ثلاثة أطفال غيره أحدهم من ذوي الحاجات الخاصة وعندما تحدثت إليها، لم تبد لي متعبة فحسب، بل خائرة القوى تماماً.

وتشرح قائلة "أعرف أن الآخرين سيقولون عني إني أم رديئة وسبق لبعض أن قالوا ذلك أمامي حتى وأعرف ما يدور من كلام على منصات التواصل الاجتماعي، لكنني استخدمت كل الأساليب الممكنة مع ريس - طرقت أبواب المرشدين النفسيين وتحدثت إليه واستخدمت اللطف تارة والتهديد تارة أخرى وحرمته من جهاز البلايستيشن، فوصل صراخه درجة دفعت الجيران إلى المجيء عندنا، لأنهم اعتقدوا أن أحداً يتعرض للقتل. حتى عندما أتى نائب مدير المدرسة ليحاول اصطحاب ريس معه، صرخ وبصق وأصابته حالة هستيرية وكان الأمر مستحيلاً. لم يعد بيدي حيلة، لقد وصلت إلى حافة الجنون".

يعد ريس واحداً من 1.28 مليون طفل ومراهق (ما يساوي تقريباً 17.9 في المئة من الأفراد بعمر الالتحاق بالمدرسة) يتغيبون بصورة مستمرة عن الدراسة.

يعرف التغيب المستمر على أنه غياب الطالب عن أكثر من 10 في المئة من حصصه المدرسية، أما التغيب الحاد فهو غياب الطالب عن أكثر من 50 في المئة من هذه الحصص. ويمكن تصنيف ريس في خانة رافضي المدرسة، أي الطلاب الذين ينقطعون عن الدراسة لأسباب سلوكية معقدة وليس لأسباب انضباط أو التزام مثل الطلاب الذين لا يحضرون إلى المدرسة لأنهم لا يرغبون في ذلك ببساطة، أو لأنهم لا يحسنون التصرف ضمن النظام المدرسي.

من المفترض بـكايلب، الطالب البالغ من العمر 15 سنة، أن يبدأ عامه الأول من التعليم الثانوي في مدرسته داخل مانشستر، ويعتقد أنه ربما حضر "يوماً أو يومين" من كل أسبوع مدرسي خلال العام السابق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشرح ذلك بقوله "كنت لأرتاد المدرسة أكثر لكنني أتسبب بمشكلات. كنت أعاهد نفسي أن أكون حسن السلوك، لكن بعد ذلك إما أشعر بالسأم أو أعجز عن فهم ما يشرحه الأستاذ فأبدأ في التصرف بحماقة وأتسبب بفوضى، وفي نهاية المطاف يخرجوني من الصف ويعزلوني عن الطلاب الآخرين، ثم تبكي أمي أو توبخني وهي تصرخ. بكل صراحة، لم يكن الأمر يستحق كل هذا العناء. أعتقد أنني تعلمت أكثر عبر مشاهدة فيديوهات على "يوتيوب". داخل غرفتي أبقى بعيداً من المشكلات".

لكن حجم المشكلة في المملكة المتحدة يدل على وجود قضية أكبر من مجرد وجود بعض الطلاب الذين لا يحبون المدرسة ولا الاستيقاظ على صوت المنبه والالتزام بالقوانين. طالما شكل الغياب المتكرر مشكلة لكنه بات يؤثر في الطلاب كافة، لمختلف الأسباب.

ترتاد ريشما* مدرسة للبنات جنوب لندن وتمتاز بدرجة عالية من المنافسة وبإقبال يفوق قدرتها الاستيعابية. ريشما متفوقة وكانت في طريقها للحصول على أعلى العلامات ضمن الاختبارات الثانوية الرسمية، لكنها بدأت تعاني قلقاً حاداً واضطراباً في الأكل لم يشخص نوعه - لم تعد تتناول سوى الأطعمة البيضاء أو الخضراء اللون - وأثر ذلك في انتظامها في ارتياد المدرسة بصورة كبيرة. يظن والدها أنها تخلفت عن حضور المدرسة نصف أيام الأسبوع تقريباً خلال الصف التاسع وتوصل إلى تدبير معين مع المدرسة في هذا الفصل يسمح لها بأن تخرج من الحصص التي تشعر فيها بالتوتر، وأن تعود لتناول الغداء في المنزل وتغادر باكراً يومي الخميس والجمعة لحضور جلسات خاصة للعلاج النفسي.

أسأل والدها كم سيكلفه العلاج النفسي فيجيبني متهكماً "تقريباً كما قد تكلفنا سيارة عائلية جميلة، لكننا محظوظون لأننا قادرون على تحمل هذه الكلف". ليست كل الأسر محظوظة، فيما تعاني خدمات الصحة النفسية للمراهقين مثل هيئة خدمات الصحة النفسية للأطفال والمراهقين في بريطانيا ("كامز" اختصاراً) من الضغط الشديد عليها، وهناك قوائم انتظار قد تمتد أعواماً، فتسوء في هذا الوقت أعراض وسلوكات الأطفال والمراهقين الذين يعانون مشكلات.

تبلغ نسبة حالات القلق المرضي التي يبلغ عنها طلاب المدارس حجماً لم نشهده قبلاً. في أكبر استطلاع للآراء عبر التاريخ استهدف الفئة العمرية 16 و17 سنة أجرته صحيفة "صنداي تايمز"، قالت نحو 70 في المئة من الفتيات إنهن تغيبن عن المدرسة لأسباب متعلقة بالصحة النفسية. وفي خضم الاستعدادات للعودة إلى مقاعد الدراسة هذا الشهر، اختارت الفتيات وصف عالمهن بعبارات "صعب" و"يمثل تحدياً" و"ضغط نفسي" و"مخيف".

تفاقمت مستويات القلق بصورة ضخمة بسبب كوفيد، حين أخرج أطفال البلاد من مدارسهم بعمر التأسيس في ظل ظروف عالمية كارثية شعر الجميع خلالها بالخوف، وكان مستوى التوتر مرتفعاً جداً في الفضاء الإلكتروني وعلى أرض الواقع. وجميع أولياء الأمور الذين أكلمهم يشيرون إلى أعوام كوفيد على أنها الحافز الذي انطلق منه رفض المدرسة أو الذي فاقم سلوكات موجودة أساساً، فجعل الانتظام في الدراسة أصعب على الأطفال الذين يعانون هشاشة نفسية. كما أن تقديم الدروس إلكترونياً خلال تلك الفترة أسهم في زيادة الصعوبة على المدارس في الإصرار على طلاب الصفوف الحضور جسدياً.

تحمل والدة ريس الجائحة المسؤولية الكاملة. فوفقاً لشهادتها، كان ريس "يحب المدرسة الابتدائية لكنه غدا شديد القلق خلال فترات الإغلاق بسبب كوفيد، لأنه اعتقد أن جميعنا سنموت، وبدأ يشاهد فيديوهات على "يوتيوب" بصورة مهووسة وتغير منذ ذلك الوقت". ويؤيد كايلب هذا الرأي ويعد أن فترة الانقطاع عن حضور المدرسة بسبب كوفيد خلال أعوام التأسيس دمرت قدرته على التأقلم مع المدرسة. تذكروا أن المدارس أغلقت أبوابها في مارس ولم تفتحها مجدداً قبل سبتمبر (أيلول) (وقد فُتحت الملاهي قبل المدارس) وحتى عندها، كانت الدراسة متقطعة إلى حد بعيد بسبب الإغلاقات الموقتة وغياب الأساتذة. ويقول ريس "بصورة عامة، حطم الخروج من المدرسة لعامين تقريباً كثراً منا. كانت العودة شاقة. كنت في العاشرة من عمري عندما ضربتنا الجائحة، لذلك عندما بلغت مرحلة ارتياد الثانوية قلت كلا، لن أذهب".

تبرز الصحة النفسية كأحد العوامل الأساس التي يتكلم عنها الأساتذة وأولياء الأمور والطلاب باعتبارها سبباً من أسباب وباء التسرب المدرسي. إن أبناء جيلي "ألفا" و"زد" صغار في السن ومتمرسون بلغة الصحة النفسية ومنفتحون على مناقشة تشخصيهم و/أو تشخصيهم الذاتي بالإصابة باضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط واضطراب الوسواس القهري والقلق والاكتئاب، وجميع أنواع اضطرابات الأكل والسلوك والتفكير.

إن اهتمامنا بالصحة النفسية بالقدر نفسه من الاهتمام بالصحة البدنية أمر جيد، لكنه يشكل تحديات جديدة للآباء والمدارس أيضاً. يعتقد والد ريشما (الذي يبدي أقصى درجات التعاطف مع مشكلاتها) أن المراهقين سريعو التأثر بالانطباعات الخارجية وأنهم يمتلكون وعياً زائداً بمشكلات الصحة النفسية التي يعانيها أصدقاؤهم والمؤثرون الذين يفضلونهم، وقد يعكسون سلوكاً مشابهاً لهؤلاء أو يشخصون بأنفسهم إصابتهم بهذا الاضطراب السلوكي، فتترتب على ذلك تبعات حقيقية على أرض الواقع.

ويتابع كلامه شارحاً "طالما كانت ريشما طفلة قلقة تعيد كتابة واجباتها المدرسية التي أجادتها أساساً ومهووسة بالتوضيب، وهو ما لم نعترض عليه أبداً في الحقيقة! لكن عندما حصلت على هاتف بدأت بمتابعة شخصيات على "تيك توك" كانت جميعها تتكلم عن تشخصيها باضطرابات في الصحة النفسية. إحدى هذه الشخصيات كانت تتابع دراستها في المنزل لأنها عاجزة عن التكيف مع المدرسة، وسرعان ما بدأت ريشما تظهر سلوكاً مشابهاً. أنا لا أعتقد أن هذا هو السبب الرئيس لمعاناتها، ولكنه جزء منها".

وبدأت نتائج هذا الوضع بالانعكاس على مستوى المجتمع. بحلول نهاية عام 2024، لامس عدد الأشخاص بين 16 و24 سنة من العمر الذين لا يرتادون مدرسة ولا يتابعون تدريباً مهنياً المليون شخص، وهي زيادة مقدارها 42 في المئة حدثت على امتداد ثلاثة أعوام. من بين هؤلاء عدد كبير ممن رفضوا ارتياد المدرسة وخسروا جزءاً كبيراً من تحصيلهم العلمي، فما عاد بإمكانهم الخضوع للاختبارات أو الحصول على العلامات التي كانوا ليحصلوها لولا التسرب. وهذه خسارة كبيرة لقدرات مجموعة من الناس ستعتمد عليها بقيتنا في المستقبل.

تشغل إيلا دينوس منصب مديرة الدعم ضمن هيئة ساوث ويست في هيرتفوردشير وتعمل بصورة مباشرة على حالات أزمة الصحة النفسية لدى المراهقين، فتزور مدارس المنطقة وتعمل وجهاً لوجه مع الطلاب الذين تظهر عليهم بوادر تحديات متنوعة، وإحداها فقط هي رفض المدرسة.

وحققوا نجاحات ملموسة في التعامل مع موضوع التسرب ورفض المدرسة. وتشرح ذلك بقولها "عليك انتهاج مقاربة ثلاثية الجوانب، بحيث يعمل أولياء الأمور والمدرسة والطلاب باتجاه تحقيق هدف الحضور. وعليك النظر في عوامل الطرد والجذب في المنزل والمدرسة. مثلاً، قد يدفعهم حب الفنون إلى الذهاب إلى المدرسة، فيما تشمل عناصر الطرد مشكلة تكوين الصداقات فيكرهون استراحة الغداء. يجب تحديد شخص بالغ في المدرسة لتقديم الدعم وتنسيق أمور المساعدة. ويجب فرض روتين منتظم في المنزل (مرئي أو مكتوب، إلخ) حيث تكون التوقعات واضحة، لا تسمح لهم بقضاء وقت على الشاشة أثناء الفترة التي يفترض بهم ارتياد المدرسة خلالها، لكن إن انتظموا في المدرسة لفترة متفق عليها، يمكن منحهم وقتاً للراحة".

إن المنظور العام للتغيب الدائم عن الدراسة قاتم إجمالاً، إذ يعتقد كثر أن مقاربة "ما عليكم سوى جرهم إلى المدرسة قسراً" تنجح، وأن انتشار هذه المشكلة إلى هذا الحد ليس سوى دليل على الدلال الزائد في التربية، وبصورة عامة يعد أولياء الأمور مذنبين. لكن غالباً ما تكون المشكلة أكثر تعقيداً بكثير من كون الأهل متساهلين أكثر من اللازم مع الأطفال أو غير مكترثين لأمرهم.

يعتقد بعض أن المدرسة داخل المملكة المتحدة مؤسسة من الطراز القديم يحشر فيها مئات إن لم نقل آلاف الطلاب طوال ثماني ساعات تقريباً كل يوم، ويطلب منهم أن يتعلموا مفاهيم، كثر من بينهم لا يفهمونها أو يعانون حقاً من أجل استيعابها. ولذا، فإن عدم تأقلم كثر مع النظام بصورة جيدة أمر لا مفر منه.

ينظر إلى نظام التعليم في فنلندا، الذي غالباً ما يقدم على أنه المعيار الذهبي للمدارس، إلى الأطفال باعتبارهم أفراداً لديهم قدرات فردية على التعلم وليسوا جزءاً من كتلة متجانسة كما هي الحال في نظامنا نحن. لكن حتى في فنلندا، زادت نسبة التغيب المدرسي المتكرر بعد كوفيد ولو بقدر ضئيل، فباتت تطاول ما بين اثنين وثلاثة في المئة من شريحة الأشخاص الذين يرتادون المدرسة. ويتكرر هذا النمط في كل أنحاء أوروبا حيث ترتفع نسب التغيب المدرسي قليلاً، لكن حجم المشكلة لدينا أكبر بكثير.

ففي المملكة المتحدة، من الواضح أنه علينا أن نتعامل مع المشكلة ككل، لكن المشكلات الكبرى تحتاج إلى حلول كبرى. ونحن لا نملك خلال الوقت الحالي الموارد المطلوبة لتلبية حجم أزمة الصحة النفسية التي تطاول الأطفال والمراهقين، ولا دعمهم، ولا شك في أنه من الضروري ضخ استثمارات كبيرة في مزيد من الخدمات لهؤلاء الصغار ومزيد من الدعم لعائلاتهم.

إن أعداداً هائلة من صغار السن غير قادرة على التكيف مع القيود التقليدية للنظام المدرسي، لكن تقليص موازنات المدارس تعني أنه لا يمكن تلبية تلك الحاجات الحيوية، وأن المدارس في حاجة ماسة لعدد أكبر من الأساتذة المتخصصين في التربية الخاصة وحصص وخدمات مثل تلك التي تقدمها إيلا دينوس وزملاؤها. وتؤمن دينوس بأنه يجب التركيز على الأعوام الدراسية الأولى لأنها تشكل عماد العادات المدرسية، سواء الجيدة منها أو السيئة. وتشرح ذلك بقولها "إن لم نشخص المشكلة باكراً (في مرحلة مبكرة جداً) من الصعب جداً تغيير المسار، لذلك على الآباء والمدارس اكتشاف أنماط السلوك في مرحلة مبكرة".

فيما تفتح المدارس أبوابها للعام الجديد بعد انقضاء العطلة الصيفية، لا ينبغي اعتبار الضغط النفسي عند الصغار وأسرهم والذي يرافق هذه العودة "ضعفاً" أو "[إحدى تجليات] موضة ’تيار اليقظة‘" أو "مثاراً للشفقة". فإن المعاناة التي يمر بها أولياء الأمور والصغار الذين يعانون الغياب المتكرر ورفض المدرسة معاناة شديدة، وعلينا التعامل معها باعتبارها جزءاً من أزمة الصحة النفسية ومن نظام مدرسي مليء بالعيوب ويعاني شح التمويل، دون أن نراها مشكلة أطفال يفضلون اللعب على جهاز بلايستيشن بدل حل مسائل رياضيات.

تجهش إيلاين بالبكاء وهي تقول لي "أخبروني أن ’كامز‘ لا يمكن أن تستقبل ريس لتقييم أولي حتى سوى بعد خمسة أشهر، وأعلم أن بداية الفصل محكوم عليها بالفشل بالنسبة إليه، وأشعر باليأس التام وأنني فاشلة لأنني أعجز عن إدخاله مكاناً عادياً وأساساً كالمدرسة". ملايين أولياء الأمور يتفهمون كلامها بلا شك.

*أسماء مستعارة

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير