ملخص
الشهرة الواسعة التي حظي بها العيش البلدي المصري على "تيك توك" خلال أيام قليلة، بعد انتشاره في المتاجر الأميركية والكندية تبدو مثيرة للانتباه. فهل هي صحوة للمصدرين المصريين أم مجرد مصادفة، إذ تتمتع منتجات ذات طابع شعبي أخرى بقبول لدى المستهلك العالمي، مثل الطعمية والفول والكشري والملوخية.
يحمل المغتربون وطنهم في حقائبهم، ثم يفرغونه ببطء ويعيدون ترتيبه حولهم أينما حلوا، إذ يتذكرونه بقطعة موسيقية أو لفظ شعبي محلي، أو حتى قطعة خبز ذات طعم خاص لا يشبه إلا الأرض التي جاؤوا منها، ربما هذا ما جعل تريند العيش البلدي المصري يجتاح مواقع التواصل الاجتماعي خلال وقت قياسي، بعدما وجده عشاقه داخل متاجر أميركية وكندية وفقاً لشهادات كثيرة من المغتربين، فتدريجاً لم يعودوا زبائنه الوحيدين إنما جاليات أخرى وحتى مواطنو البلد لديهم فضول تجربته.
الحنين هنا يـترجم إلى بيع وشراء ويوضع في خانة الاقتصاد، فالمأكولات الشعبية المصرية التي تصدر للخارج تصبح ترينداً عاطفياً في البداية يحمل أصالة خالصة يبحث عنها المهاجر، ومن ثم تتحول إلى أطباق مطلوبة لها جمهور يتسع في أنحاء قارات العالم، وإن كان البطل الأول هنا هو الدعاية التلقائية البحتة التي ليس لها علاقة بالتجارة، إنما تفضيلات شخصية ورغبة صادقة في تذوق طعم الطفولة والصبا، فلا شيء أسهل من الطعام يمكن أن يعيد المغتربين إلى ذكريات الأهل وتجمعات الأصدقاء.
إن المذاق قوة ناعمة من نوع خاص يندرج تحت بند التراث الثقافي غير المادي حتى لو لم يُدرج رسمياً إلى الآن على قائمة اليونيسكو، لكن كثيراً منها مدرج على قائمة الصادرات الأكثر طلباً، فالخبز المصري أو العيش البلدي، بحسب التسمية الشائعة، برائحته الشهية وسعره الزهيد ومكوناته الصحية من الخبز الكامل وردة الطحين التي تتناثر مع كل قضمه، وبحضوره الطاغي على الموائد في كل أوقات اليوم، ليس المنتج الوحيد الذي وجد جمهوراً آخر له خارج الحدود، فقائمة الصادرات المصرية تشمل أطعمة أخرى ذات طابع شعبي، بعيداً بالطبع من الفاكهة والخضراوات والحاصلات الزراعية الأخرى التي تأتي على رأس صادرات البلاد الأكثر طلباً.
العيش البلدي نجم "تيك توك" أميركا
تقدم المطاعم الاعتيادية في أنحاء العالم أطباقاً شتى بعضها متخصص في الطعام الإيطالي أو المصري أو اليمني أو السوري أو المكسيكي أو غيره، إذ يجتهد أصحابها في جلب مكونات الأطباق من بلدانها الأصلية لمحاولة الوصول إلى الطعم الحقيقي، وفي حال تعذر استخدام المكون الأساس يمكن استبدال مكون بديل قريب في الطعم به، لكنها في النهاية وجبات يجري صنعها بصورة كاملة خارج بلدانها في محاولة لاستحضار مذاق وأجواء معينة لجمهور ذواق، وليس شرطاً أن يكون هذا الجمهور من أهل البلد الذي يحمل المطعم شعاره في أطباقه، بل على العكس فالطعام يقرب بين الشعوب ببساطة ومن دون خطط دبلوماسية.
الحديث هنا عن توريد الأطباق الشعبية المصرية كما هي جاهزة كمنتج متكامل معلب ومغلف وبه سر صنعة البلد الأصلي، وفي ما يتعلق بالخبز المصري (العيش البلدي) فهو يحاكي الخبز المدعم الذي يباع الرغيف منه بـ20 قرشاً، إذ أصبح نجم تجمعات المصريين بالخارج عبر مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية بعدما ظهر بكميات كبيرة في سلسلة متاجر "ترايدر جوز" داخل الولايات المتحدة الأميركية، ومنها انتشرت صوره في تدوينات المهتمين بالاقتصاد والتذوق أيضاً، والمعبرين عن سعادتهم بوجود المنتج ضمن قائمة بيع مراكز تسوق كبيرة، إذ ينتشر أيضاً في مئات المتاجر بين الولايات المتحدة وبعض المدن الكندية، فهو يمثل صميم الثقافة الغذائية لدى المصريين ومن ثم كان لحضوره خارج الحدود أثر طيب، وبخاصة أنه مصنوع من الحبوب الكاملة وبه كمية هائلة من الألياف الطبيعية ويباع الكيس مجمداً بسعر يصل إلى ثلاثة دولارات، وانتشرت عشرات الفيديوهات لمدونين أجانب يجربون طعم الخبز المصري بعد تسخينه، ويصنعون منه سندوتشات متنوعة ويعبرون عن إعجابهم به.
وجود المنتج وانتشاره بصورة كبيرة داخل الولايات المتحدة الأميركية يتوافق مع بيانات مجلس التصدير المصري للصناعات الغذائية حول حجم الصادرات، إذ جاءت الولايات المتحدة الأميركية في المرتبة الثانية بالنسبة إلى الصادرات الغذائية خلال النصف الأول من هذا العام، بقيمة 274 مليون دولار بنسبة نمو 47 في المئة مقارنة بالعام الماضي.
الطعمية والفطير المشلتت
كذلك وفقاً لتصريحات تلفزيونية لنائب المدير التنفيذي للمجلس التصديري للصناعات الغذائية تميم الضوي، فإن المخبوزات وبينها الخبز البلدي جاءت ضمن المركز الـ15 ضمن أهم صادرات مصر خلال النصف الأول من العام الحالي، لافتاً إلى أن الفطير المشلتت والطعمية في قائمة الصادرات التي سيجري الاهتمام بها خلال الفترة المقبلة، إذ تنتشر في بلدان متعددة قريباً.
إذاً الطعمية ستوجد بصورة أكبر مستقبلاً لتقدم للمستهلك العالمي، وكذلك الفطير المشلتت الذي يعد تراثاً غذائياً مصرياً قادماً من الصعيد والريف، وهو نوع من المخبوزات التي تتكون من الدقيق والماء والزبدة الطبيعية، وشكله النهائي عبارة عن طبقات رقيقة محمصة الوجهين، وقبل الحديث عن باقي قائمة الأطعمة المصرية التي يمكن وصفها بالشعبية وتجد مكانها بين أرفف متاجر العالم، يجب أولاً التساؤل عن فترة ما بعد التريند والنجاح "الإلكتروني" وشهرة "تيك توك" التي اكتسبها العيش البلدي، وبخاصة أن التجربة بدأت منذ عامين بكميات قليلة ولم يكن التأثير ملحوظاً، فهل من السهل تغيير عادات تناول الخبز الذي هو بدوره ثقافة محلية ومرتبط كثيراً بكل مجتمع ومتوافق مع طبيعة سكان كل منطقة جغرافية ونظامهم الغذائي المرتبط أيضاً بمناخهم.
فرصة حقيقية أم حنين عابر؟
يعتقد المتخصص الاقتصادي أشرف حسني العضو السابق في شعبة المواد الغذائية بغرفة القاهرة التجارية أن الأمر ينبغي أن تجري قراءته بصورة جيدة جداً، والانتظار بعد فترة الانتشار السريع، لافتاً إلى أن الاستهلاك الأكبر للسلع الغذائية المصرية الشعبية يأتي بطبيعة الحال من المصريين والعرب المغتربين، لافتاً إلى أنه أمر متعلق بعادات الشعوب الصميمة والراسخة، ولهذا فإن التقبل على نطاق أوسع يكون بطيئاً وتدريجاً.
وتابع حسني "ينبغي الانتظار فترة طويلة بعض الشيء ثم قراءة الأرقام، لأنه خلال هذا الوقت لا يمكننا الحديث عن الخبز البلدي بصورة منفردة كسلعة تدر دخلاً قومياً كبيراً أو مؤثراً حتى تتضح معالم التجربة بصورة كاملة، والحقيقة أن تجارب تصدير السلع الغذائية الجاهزة للأكل ذات البعد الشعبي كثيرة، لكن غالبيتها تلعب على وتر الحنين لدى المهاجرين فحسب ولا يتوسع، فقد عاينت قبل أعوام تجربة لتصدير ’المفتقة‘ وهي وصفة مصرية تتكون من العسل الأسود وبعض المكسرات، وتعرف بأنها مغذية، وبيعت في بريطانيا على أنها مربى لكن التجربة لم تكتمل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن، يبدو أن عضو شعبة المواد الغذائية باتحاد الغرف التجارية علي هاشم أكثر تفاؤلاً، فبناءً على تجاربه فإن السلع الجيدة ذات السعر المتوازن قادرة على أن تجد مكاناً لها، وقد تدخل في العادات الغذائية لمختلف الشعوب بسهولة. مشيداً أولاً بالمستهلك المصري والعربي في مختلف أنحاء العالم الذي يحرص على شراء المنتجات المصرية، لكنه أيضاً يشدد على أن المستهلك الأجنبي نفسه يمكنه أن يستبدل وصفات ذات مكونات مصرية بأخرى من بلده.
ويضرب هاشم المثل بما حدث أخيراً من فتح سوق للتمر المصري داخل أوروبا وتحديداً في سويسرا، حيث يجري استيراده بكميات ضخمة خلال مواسم الأعياد لا سيما الكريسماس، ويدخل في صنع وصفات المخبوزات وأنواع الكيك المختلفة، لافتاً إلى أنه في ما يتعلق بكمية المبيعات خارجياً من الخبز المصري لم تُعلن حتى الآن، إذ من الممكن أن يحقق طفرة ولا يوجد ما يمنع من انتشاره نظراً إلى كونه يستوفي المعايير الصحية مقارنة بالخبز المصنوع من الدقيق الأبيض.
الملوخية والفول والكشري
حلقة الترويج للعيش البلدي المصري جعلت المدونين العرب والأجانب يبحثون عن منتجات مصرية شعبية أخرى في المتاجر، واتضح أن القائمة تضم الجبن الرومي وهي ظاهرياً تشبه الجبن التركي، لكنها ذات طعم مختلف وتتميز بصلابتها وبكونها ضمن الأطباق الرئيسة في إفطار المصريين، إذ تبدو سلعة شديدة الشعبية بين المصريين في مختلف أنحاء العالم، وتفرغ من المتاجر فور توافرها، ونفس الشيء بالنسبة إلى الملوخية المصرية التي تباع مهروسة ومجمدة، وتصبح جاهزة للأكل بعد أن توضع في المرق مع بعض الإضافات. وعلى رغم شهرة طبق الملوخية عربياً فإن تحضيره بالطريقة المصرية يبدو مختلفاً وله جمهور أيضاً، إضافة إلى الفول المدمس المحضر بالطريقة المصرية والذي ينتشر في متاجر البقالة عالمياً بكثرة، بينما تنتشر خلطة الطعمية المصرية المعتمدة على الفول والخضراوات كمكونات أساس بصورة أقل على رغم شعبيتها.
إضافة إلى ذلك، فإن وصفات الأكل المصرية مثل الكشري وكفتة الرز والمسقعة والفتة والفسيخ تُقدم في مطاعم عربية تنتشر حول العالم، وبالتحديد الكشري الذي يتمتع بجماهيرية كبيرة بحسب ما يروي كثير من المغتربين داخل عدد من دول أوروبا على سبيل المثال، فهناك سلاسل مطاعم كبيرة وصغيرة تقدم هذا الطبق الذي يصبح تدريجاً ذا طابع عالمي بفعل الترويج له من قبل الدبلوماسيين ورجال السياسة، إذ يجرى صنعه بمكونات كثير منها مستورد من مصر خصيصاً ويقدم طازجاً للمستهلكين.
ووفقاً لشهادات إحدى المغتربات في هولندا فإن المنتجات المصرية لها شعبية بين العرب وحتى بعض أصدقائها الأجانب يحبونها بعد أن تقنعهم بتجربتها، لكنها تواجه صعوبة كبيرة في توافرها بالمتاجر، فمقارنة ببلدان مثل الولايات المتحدة وألمانيا تبدو السوق الهولندية على سبيل المثال في ذيل قائمة المصدرين المصريين. وتتابع "المنتجات التي نبحث عنها لا تتوافر إلا نادراً وفي متاجر بعينها، والحقيقة أنني حتى في بعض الأوقات أجد خلطة (الدقة) المكونة من السمسم المجروش وبعض التوابل، وحتى الطحينة على الطريقة المصرية والمخللات والحلويات المصرية، إذ يستقدمها بعض البائعين من مصر ولكن بكميات قليلة للغاية".
الصادرات الغذائية
على جانب آخر، لم يكشف تفصيلياً عن قيمة صادرات مصر من هذه السلع على وجه التحديد أو بصورة مفندة، لكن بحسب ما تقوله الباحثة الاقتصادية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية سنية الفقي فإن صادرات مصر الغذائية في ارتفاع ملحوظ خلال الأشهر الماضية، مشيرة إلى أن الخبز البلدي يندرج تحت بند السلع الغذائية التامة الصالحة للاستهلاك المباشر، أي إنها سلع دخلت عليها عمليات تصنيع ويجري تصديرها جاهزة، مضيفة أنه وفقاً للبيانات الرسمية صدرت مصر خلال النصف الأول من العام الحالي ما قيمته 1.8 مليار دولار من هذه السلع بصورة عامة.
وترى الفقي أن صادرات مصر الغذائية تسير بوتيرة جيدة في عدة بنود، إذ إنه جرى تصدير مواد غذائية أولية للدخول في الصناعات بما قيمته 156 مليون دولار، بحسب بيانات المجالس المتخصصة، فيما وصلت صادرات السلع الأولية الجاهزة للاستهلاك مثل البرتقال والفراولة إلى 3.2 مليار دولار، أما قيمة صادرات السلع المصنعة التي تدخل مرة أخرى في عمليات تصنيع إضافية فقد وصلت إلى 442 مليون دولار.
هذه البيانات المرتفعة تعززها أحدث تصريحات للمجلس التصديري للصناعات الغذائية، الذي أشار إلى أن صادرات القطاع خلال النصف الأول من هذا العام زادت ثمانية في المئة مقارنة بالمدة نفسها من العام الماضي، إذ وصلت إلى 4 مليارات دولار مقابل 3.7 مليار دولار خلال الفترة نفسها من عام 2024.
وفقاً لبيان المجلس التصديري للصناعات الغذائية ارتفعت صادرات الصناعات الغذائية المصرية خلال الفترة (2015 - 2025)، إذ شهدت صادرات الصناعات الغذائية المصرية نمواً ملحوظاً خلال العقد الأخير، وارتفعت قيمتها من 2.7 مليار دولار عام 2015 إلى 6.1 مليار دولار عام 2024، مع استمرار النمو في النصف الأول من عام 2025. وخلال الفترة من يناير (كانون الثاني) حتى يوليو (تموز) 2025، ارتفعت صادرات القطاع إلى 4 مليارات دولار مقابل 3.7 مليار دولار خلال الفترة نفسها من عام 2024، بمعدل نمو ثمانية في المئة.