ملخص
تبدأ فاتورة الموت من مصروفات سيارة نقل الموتى والغسل والتكفين مروراً بالسرادق ومعدات الصوت والإنارة وصولاً إلى بورصة القراء التي تتبارى داخلها العائلات تعبيراً عن الوجاهة والترف.
صار الموت مكلفاً في بلد طالما قيل فيه إن "الموت راحة"، فمن شراء مدفن أو "حوش" في أطراف القرى والمدن إلى مصروفات الدفن والغسل والنقل، مروراً بسرادق العزاء بمكبراته ومقاعده وكهربائه، وصولاً إلى أتعاب قراء القرآن وعمال الضيافة، تصنع تفاصيل صغيرة فاتورة كبيرة ترهق الجيوب وتقلص المدخرات.
تحول الوداع الأخير إلى عبء مالي ثقيل يدفع بعض الأسر لإلغاء بعض الإجراءات أو تقليصها إلى الحد الأدنى، بدءاً من أول حفر في التراب حتى آخر آية في السرادق. لكن، متى صار الفراق مكلفاً إلى هذا الحد؟ وكيف قفزت أسعار المدافن والخدمات من "واجب اجتماعي" إلى سوق كاملة بقواعدها وسماسرتها وهوامش ربحها؟ ولماذا يجد أهل المتوفى أنفسهم بين ضغط العرف وكلفة تتضخم مع كل تفصيلة؟
اقتصاد غير رسمي في مصر
تسكن "صناعة الموت" ظلال الاقتصاد غير الرسمي في مصر، وتتسع لتشمل مدافن تباع وتشترى وخدمات دفن وتسويق وتأجير سرادقات، ومعدات صوت وقراء قرآن بأجور متفاوتة، وكل حلقة تضيف هامشاً وكل هامش يتضخم، ومع ذلك يبقى العرف أقوى من الترشيد، فلا أحد يريد أن يبدو بخيلاً في حضرة الغياب.
في بلد الـ108 ملايين نسمة لا تعرف "صناعة الموت" ركوداً، فهي صناعة منتعشة مع وجود نحو 70 وفاة خلال كل ساعة، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2024، لكن مع هذا الانتعاش الواسع بفعل الطلب، تظل هذه الصناعة خارج أطر الاقتصاد الرسمي للدولة، فلا يؤدي أعضاؤها أي ضرائب تذكر.
كم تبلغ فاتورة الدفن؟
وفي المقابل، ثمة حضور باهت لمن أراد تنظيم تلك الصناعة وإتاحة خدماتها عبر تطبيق إلكتروني في مصر، يتيح خدمات تجهيز الجثمان والكفن والنقل بـ12500 جنيه (258.16 دولار)، واستخراج تصريح الدفن ومشرف للجنازة وأربعة مساعدين وتجهيز محدود أمام المقابر (كراسٍ وشمسيات ومناديل ومياه) بـ22 ألف جنيه (454.36 دولار)، إلى جانب برنامج متكامل بـ65 ألف جنيه (1342.43 دولار) مقابل سيارة وتنظيم للموكب وتنسيق لفتح المقبرة وإحضار شيخ أزهري وباقة زهور و50 صدقة جارية وقاعة عزاء متواضعة، وفق تسعيرة إحدى تلك الشركات.
لكن هذا النوع من الخدمة المرقمنة لم يلق انتشاراً واسعاً في ظل اقتصاره على الطبقات الاجتماعية العليا، وارتفاع كلفته من منظور كثر.
آخر المشاوير أغلى الفواتير
وتستقبل رحلة الوداع التي تبدأ فور خروج الجثمان من المستشفى أو المشرحة ذوي المتوفى بأول كلفة مباشرة، سيارة الإسعاف التي تنقل الجثمان إلى مكان الغسل أو إلى المقبرة والتي تختلف كلفتها تبعاً للمسافة، وعلى رغم أن بعضها يتبع جمعيات خيرية فإن التقدير الشخصي للسائق أمر واجب.
وتبدأ عملية الغسل والتكفين وصولاً إلى الدفن، وتجري في العادة داخل بيت العائلة، وبحسب شهادة محمد طه وهو حانوتي شاب ورث المهنة عن والده، الذي كان قبل رحيله حفاراً للقبور ومغسلاً للموتى بأجر زهيد تقدره عائلة المتوفى تبعاً لمقدار السخاء، فإن المسألة بات تتعدى كونها "واجباً شرعياً" كما يقول لـ"اندبندنت عربية"، فلا يزال الابن مصراً على وجوب وجود كلفة تغطي أعباء صناعة كثيراً ما نفر منها بعض، واستهلكت الوقت والجهد.
واجب شرعي... لكن
ويتقاضى طه متوسط 300 جنيه (6.20 دولار) في الغسل والدفن تزيد أحياناً وتقل أخرى، وهي كلفة فرضتها العادة وصارت عرفاً لدى العائلات داخل قريته الصغيرة وفق ما يقول، مضيفاً أن الأمر كله خاضع لتقدير ذوي المتوفي، وفي المقابل ثمة حالات لفقراء لا يتقاضى عن غسلهم ودفنهم مليماً واحداً، مكتفياً بثواب ذلك.
لكن هذا ليس كل شيء، فثمة كلفة تتحملها العائلات للدفن في مقابر خاصة، وهنا يكشف مسح لـ"اندبندنت عربية" في منصات العقارات الإلكترونية وشهادات حية لنشطين في تلك الصناعة، أن أسعار المقابر في البلاد تتفاوت تبعاً للمنطقة والمساحة والموقع داخل المقبرة، وتراوح الكلفة ما بين 200 ألف جنيه (4130.55 دولار) و1.2 مليون جنيه (24783 دولاراً) أو أكثر في مناطق مختلفة، بدءاً من القاهرة الجديدة وطريق الفيوم وصولاً إلى طريق الواحات أو حتى في كثير من قرى الدلتا والصعيد.
ضيافة وغداء وشاي وقهوة
لكن ما إن يواري الميت ثراه ويكشط التراب صفحته حتى يبدأ ذووه المفجوعون برحيله في مواصلة سداد فاتورة الموت، فما تلبث أن تنتهي أعمال الدفن حتى تبدأ مهام أخرى أكثر كلفة، بدءاً من الضيافة والواجبات الاجتماعية التي تتسع لتشمل وجبات الغداء التي تجهز للأقرباء الوافدين لتقديم التعازي، وكذلك القهوة والشاي وزجاجات المياه التي لا غنى عنها ضمن فاتورة هذا اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، سجل معدل التضخم في مصر خلال يوليو (تموز) الماضي 13.9 في المئة مقابل 14.9 في المئة خلال يونيو (حزيران) الماضي، مدفوعاً بتضخم أسعار اللحوم والدواجن بنسبة 4.9 في المئة، والأسماك والمأكولات البحرية بنسبة 0.2 في المئة، والزيوت والدهون بنسبة 0.1 في المئة، إلى جانب 0.2 في المئة للسكر و0.2 في المئة أيضاً للبن والشاي.
سرداق العزاء حتى مئات الآلاف
إلى خارج منزل العائلة أو في إحدى المناطق الفسيحة داخل البلدة يُنصب سرادق العزاء أو "الفراشة"، وهي صناعة قائمة بذاتها تبدأ بإيجار خيمة وسجاد وكراسٍ وإنارة ومولدات الكهرباء ومكبرات صوت، وأحياناً مبردات هواء تقي المعزي حر الصيف، وفي الأحياء الشعبية يمكن أن يكلف السرادق عشرات الآلاف، بينما في المناطق الراقية فقد تصل الكلفة إلى مئات الآلاف، بحسب ما ينقله محمود عبدالعظيم أحد عمال "الفراشة".
ويضيف أن الكلفة النهائية تتحدد تبعاً لإجمال عدد الكراسي وحبال الإنارة ومستوى الخدمة المقدمة للمعزين من شاي وبن ومياه، وذلك كله خلافاً لبند المقرئ الذي تتحدد تسعيرته وفقاً لبورصة المقرئين بحسب شهرته وأدائه والطلب عليه.
القراء ميدان التباري ودلالة الوجاهة
هذا البند الأخير الذي يشير إليه عبدالعظيم ميدان واسع للتفاخر والتباري بين الأسر والعائلات ممن يرون في المقرئ تعبيراً عن الوجاهة والترف وفي سعة "الصوان" دليل على منزلة المتوفى وذويه، وبينما كانت قراءة القرآن قبل عقود واجباً يؤديه مقرئ القرية بأجور زهيدة ورمزية، إلا أنه تحول إلى صناعة وسوق لها سعر، فتصل أجور بعض القراء إلى 250 ألف جنيه (5163 دولاراً) في العزاء الواحد، إلى جانب نثريات وإكراميات لـ"الصييتة" والأتباع ممن يحيطونه بصيحاتهم أثناء التلاوة ويتنقلون معه من عزاء إلى آخر.
على جانب آخر، ارتفعت رسوم استخراج شهادة الوفاة إلى حدود 45 جنيهاً للمرة الأولى (0.93 دولار)، و25 جنيهاً (0.52 دولار) للمرات التالية، ويمكن أن يرتفع السعر ليصل إلى 66 جنيهاً (1.36 دولار) في حال الاستخراج إلكترونياً مع إضافة خدمة التوصيل.
صناعة الموت ليست مستثناة من التضخم
لم يعد الأمر مثيراً للغرابة، فمع تحرير سعر صرف الجنيه خمس مرات، بحسب ما يوضح كامل إبراهيم أحد العاملين في تلك الصناعة، تراجعت القيمة الشرائية للعملة وأصبح من الطبيعي أن ترتفع كلفة هذه الصناعة على طول مراحلها المختلفة، فهي ليست استثناءً وحيداً في ظل تضخم لم يغفل أي شيء.
هكذا، أصبحت كلفة الموت في مصر عبئاً يرهق عائلات كثيرة، فبعدما كان الرحيل قديماً حدثاً يختتمه الوداع والذكر الطيب، صار اليوم معضلة مالية تفرض نفسها في أقسى لحظات الحزن والفجيعة.