ملخص
تثار علاقة إسرائيل بالأقليات في كل مرة تتحدث فيها تل أبيب عن أحلامها التوسعية، فإسرائيل وفق مراقبين، تراهن على مطالب طوائف وجماعات عرقية بحق تقرير المصير كي تتقسم المنطقة وتتحول إلى دول صغيرة تدين لها بالولاء وتتيح لها التمدد أبعد من حدودها الجغرافية، داعية إلى تحقيق المواطنة التي تقطع الطريق على أية مشاريع انفصالية.
الأصل في "إسرائيل الكبرى" فكرة تستند إلى روايات دينية وتنظيرية، ولكن حزب "الليكود" حولها إلى مشروع سياسي عند وصوله إلى السلطة في تل أبيب عام 1977 بزعامة مناحيم بيغن، ثم بدأ وأحزاب اليمين الأخرى الحشد لها شعبياً، مستغلين ظروفاً مختلفة مرت بها إسرائيل والمنطقة وحتى العالم على امتداد نحو خمسة عقود.
ربما أبرز معتقدات "إسرائيل الكبرى" ما كتبه ديفيد بن غوريون أحد مؤسسيها عام 1937 وتضمنت سطوره "إن إقامة الدولة حتى لو كانت على جزء بسيط فقط من الأرض، هي التعزيز الأقصى لقوتنا في الوقت الحالي ودفعة قوية لمساعينا التاريخية، سنحطم الحدود التي تفرض علينا، ليس بالضرورة عن طريق الحرب".
في أدوات التوسع الأخرى بعيداً من الحرب، يقول أستاذ العلوم السياسية والإعلام في الجامعة اللبنانية يقظان التقي إن تقسيم المنطقة العربية إلى دول صغيرة على أساس ديني أو قومي، وجميعها تدين بالولاء لتل أبيب، هو الترجمة الفعلية لمشروع "إسرائيل الكبرى"، لكن هذا لا يمكن أن تقوم به إسرائيل من دون موافقة ومساعدة من حلفائها.
خرائط قديمة
وللتقسيم في الشرق الأوسط بحسب التقي، خرائط رسمت منذ ثلاثينيات القرن الماضي بأقلام الدول الكبرى، بخاصة فرنسا وبريطانيا، لكن لم تنفذ لأسباب عدة، أما اليوم فتحييها تل أبيب لأن الأمم المتحدة ليست في أفضل أحوالها، وقادة إسرائيل يجدون الظروف مناسبة لتنفيذ مشاريع تخدم الأمن القومي وتسمح بالتوسع أبعد من الحدود.
وارتباط "إسرائيل الكبرى" بمصالح إسرائيل وليس بحقوق الأقليات في المنطقة العربية، يدلل عليه بوضوح ما أشار إليه المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توم براك قبل أيام، حين قال إن "إسرائيل بعد هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لم تعُد تعترف بخرائط ’سايكس بيكو‘، وسوف تذهب إلى أي مكان وكيفما تشاء من أجل حماية أمنها".
ويلفت التقي إلى أن تل أبيب لا تملك جيشاً يمكنها من التمدد في تلك الدول التي تشملها "إسرائيل الكبرى"، لكن يمكن لحكومة بنيامين نتنياهو الدفع نحو تقسيم المنطقة عبر دعم مطالب الأقليات بحق تقرير المصير، وهو أمر دونه تحديات قانونية كبيرة ويحتاج إلى موافقة الأمم المتحدة لكن تل أبيب لا تكترث لذلك، على حد تعبيره.
ويشدد التقي على أن المفهوم الكلاسيكي للأقليات عموماً تبدل اليوم مع كل المتغيرات التقنية والاقتصادية التي عرفها العالم خلال الأعوام الماضية، كما أن المفهوم ذاته غير ثابت ويمكن أن تتحول الأقلية إلى أكثرية مع الوقت واختلاف الظروف، لكن إسرائيل تراهن على تدهور أوضاع بعض دول المنطقة اليوم وتردي أوضاع الأقليات فيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لعل الواقع السوري حالياً يقدم مثالاً لما يتحدث عنه الأكاديمي اللبناني، إذ استعانت الأقلية الدرزية جنوب البلاد بإسرائيل خلال يوليو (تموز) الماضي في مواجهة اعتداءات على الأرواح والأملاك والأعراض من قبل مسلحين يقول أبناء المحافظة إنهم يتبعون لسلطة دمشق الجديدة، بينما تنكر الحكومة ذلك وتتعهد بالتحقيق ومحاسبة الجناة.
وحال الخوف التي يعيشها الدروز الآن تسيطر على العلويين في الساحل السوري منذ مارس (آذار) الماضي بعدما تعرضوا لاعتداءات مشابهة، كما أن الأوضاع تقلق الكرد في مناطق شرق نهر الفرات وسط استعصاء دمج الإدارة الذاتية لتلك المناطق في الدولة السورية بصورة سلمية وعبر المفاوضات التي ترعاها أميركا وفرنسا.
وفق القانون الدولي تمثل "الأقلية" مجموعة من السكان الأصليين أو المهاجرين المستوطنين ممن يختلفون عن الغالبية من ناحية العرق أو الدين أو اللغة، لكنهم يتمتعون بحقوق المواطنة كافة من دون تمييز وتتولى الدولة حماية حقوقهم وحرياتهم مع الاعتراف بولايتها الكاملة عليهم، مما يفترض وجود دولة مواطنة يسودها القانون والتشريع.
وخلال دراسة بعنوان "الأقليات سيرة المصطلح ودلالة المفهوم"، يبين الأستاذ في كلية الآداب بجامعة تلمسان في الجزائر محمد بلبشير أن هناك 29 تعريفاً لمصطلح الأقلية يمكن تقسيمها على فئتين "الأولى تضم المعايير المجتمعية التي تتعلق بحال ووضع الأقليات، والثانية تهتم بالمحددات التي تراعي تطلعات وآمال وأهداف الأقلية".
وبحسب بلبشير، لم تحظَ كلمة "أقلية" بكثير من الاهتمام في اللغة العربية، لكنها تحمل معاني اجتماعية وسياسية وتثير إشكالات في هذا المجال، أما عالم الاجتماع لويس ويرث فيشير إلى أن "نقص القوة أو السلطة لدى الجماعة هو العنصر الحاسم وليس العدد فقط، فحتى الغالبية العددية ممكن أن تعامل كأقلية إن افتقرت إلى القوة السياسية".
حماية الأقليات
إسرائيل اليوم ترفع شعار حماية الأقليات في سوريا وتدعم مشاريع الاستقلال التي تطالب بها تلك الجماعات نتيجة شرخ وقع بينها وبين سلطة فصائل جهادية وصلت إلى الحكم عقب سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، ولم تنجح حتى الآن بتأسيس دولة مواطنة توفر الحماية والأمان للسوريين من دون تمييز.
برأي المفكر المصري جمال أسعد، تحسن إسرائيل استغلال الإشكاليات الداخلية التي تعيشها المجتمعات العربية في ظل غياب المواطنة والقوانين التي تحرر الناس من الخوف وتحصنها من التفرقة، ومثل هذه الإشكاليات تدفع الأقليات إلى تظافر عابر للحدود، وتجعلها تصدق مواقف تل أبيب في حماية المجموعات المضطهدة بالمنطقة.
وإضافة إلى الإشكاليات المجتمعية توظف إسرائيل، برأي أسعد، السرديات الدينية لـ"الصهيونية المسيحية" التي تروج لرواية "اليهود كشعب الله المختار" وما يرافقها من أوهام وخزعبلات، وينوه إلى أن خطط إسرائيل للتوسع في المنطقة أياً كانت حواملها أو أدواتها لن تتحقق إلا بدعم من حلفاء تل أبيب التاريخيين وعلى رأسهم أميركا.
في كتاب نشره عام 2007 تحت عنوان "دور إسرائيل في تفتيت الوطن العربي"، ناقش المؤلف أحمد سعيد نوفل موقف إسرائيل من الأقليات في المنطقة، ويقول إنها "سعت إلى تضخيم مشكلة الأقليات العرقية والدينية واستغلالها ضد أي مشروع وحدوي، وحضها على التمرد والانفصال"، معتمدة مبدأ "شد الأطراف ثم بترها، مد جسور العلاقة مع الأقليات ثم جذبها خارج النطاق الوطني وتشجيعها على الانفصال".
تفسيرات خاطئة
ولا يشجع رئيس المركز الكردي للدراسات في ألمانيا نواف خليل، الحديث عن دعم الأقليات لإسرائيل في مشروع دولتها الكبرى، فهو يطعن في انتماء الأقليات للدول التي يعيشون فيها، وثانياً يستهين بقدرتها على محاكمة المعطيات والظروف السياسية التي تعيشها المنطقة بصورة عامة، وثالثاً يفسر مطالبها على الصعد كافة بمشاريع تخوينية.
ويلفت خليل إلى أن الأقليات جزء أصيل من شعوب المنطقة، ولم تخالف سياق علاقات الدول التي تنتمي إليها مع إسرائيل، فلم تنشئ سلاماً معها إن كانت محتلة ولم تخاصمها إن كانت في سلام مع الدول التي تعيش فيها الأقليات، أي إنها التزمت الموقف الرسمي تجاه إسرائيل حتى لو كان لدى أفرادها وجهات نظر مختلفة في هذا الشأن.
ويشدد رئيس المركز الكردي للدراسات على أن الفعاليات المختلفة لدى الأقليات تقرأ الواقع التي تعيشه المنطقة والعالم بصورة جيدة، فهي تدرك أن إسرائيل ليست حمامة سلام ولا تعنيها إلا مصالحها، فتؤيد تل أبيب المشاريع التي تلتقي معها وتخالف ما يهددها أياً كانت حوامله أو أبعاده، وهذا ما يجب أن تتمعن به حكومات المنطقة جيداً.
وانطلاقاً من مبدأ المصلحة، ينوه خليل إلى أن مطالب الأقليات في بعض دول المنطقة ليست مشاريع تقسيم وإنما هي مبادرات توحيد لأن دولة المواطنة هي التي تلبي تطلعات الشعوب، وتواجه محاولات الخارج استغلال التباينات والخلافات التي تنشأ داخل المجتمع الواحد في دول تروج لها تل أبيب كخريطة لما تسميه "إسرائيل الكبرى".