Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأرض الموعودة... قراءات في السردية والمشروع ومبررات التوسع

الرؤية التوراتية القديمة والحقائق التاريخية المنقولة عبر الأجيال تخالف ادعاءات الحركة الصهيونية

فكرة إسرائيل الكبرى قامت على تأسيس الدولة العبرية على الأراضي الفلسطينية في عام 1948 (أ ف ب)

ملخص

 تتكرر فكرة "الأرض الموعودة" في الكتب المقدسة، وفي البداية بدت مجرد وعود لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، لكن خلال فترة الخروج من أرض مصر لم تعد "الأرض الموعودة" مجرد وطن للعبرانيين بل رمزاً للحرية.

تبدو هذه القصة من أشد القصص تعقيداً ووعورة عبر أكثر من 3 آلاف عام، إذ تتداخل فيها الجغرافيا مع الديموغرافيا والتاريخ المحقق مع المرويات والسرديات الأسطورية، وفوق كل ذلك أنها تتشارع وتتنازع مع المطلقات، أي الكتب السماوية، التوراة والإنجيل والقرآن، مما يجعل من تخليص الخيوط وتفريق الخطوط أمراً صعب للغاية.

 وفي هذه القراءة نحاول أن نقدم ولو بشكل مختصر قصة الوعد المقدس، أو وعد الأرض المقدسة لنبي الله إبراهيم بأرض كنعان، والتي هي أرض فلسطين في واقع الأمر.

 هذا الوعد الذي ينظر إليه من قبل اليهود تاريخياً على أنه وعد إلهي، وأن تحقيقه لابد من أن يجري عبر الأجيال، حتى ولو كلف الأمر القتال والحروب.

 غير أنه ومن ناحية مسيحية يعتبر وعداً منتهى الصلاحية، إذ تؤمن الكنائس التقليدية، أي الكاثوليكية والأرثوذكسية، أن هذا الوعد انتهى بمجيء السيد المسيح، وأن كل ما يتردد من حوله لا علاقة له بصحيح الرؤى الإيمانية، وإنما مجرد أوهام ساسة يريدون إخضاع الدين للسياسة بهدف تحقيق مآرب لا تخفى عن أعين الناظرين.

تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أخيراً، أعادت ومن جديد البحث في ذلك الملف الشائك، ولا سيما أن الرجل أعتبر أن فكرة إسرائيل الكبرى، من الفرات إلى النيل لا بد لها من أن تجد طريقها عبر الأجيال اليهودية، كما فعلت أجيال سابقة، قامت على تأسيس الدولة العبرية على الأراضي الفلسطينية في عام 1948.

 على أنه وقبل الدخول في عمق الحديث عن الوعد المقدس من زاوية الرؤية التوراتية، ربما يتعين علينا أن نتوقف عند عدة نقاط عن بداية الشعب اليهودي وجذوره وتاريخه ثم الهدف من وجوده منذ البداية، بحسب المنظور التوراتي، عطفاً على التحولات والتبدلات التي طرأت عليه عبر التاريخ، وأهمها ظهور الروح القومية فيه، مما حرف المسار كما يجمع اللاهوتيون عن الهدف الرئيس من نشوئه وارتقائه، وصولاً إلى اسم إسرائيل، معناه ومبناه، قبل الوصول إلى فكرة إسرائيل الكبرى، والتي باتت حجر الزاوية لأمة بلا أرض كما يراها بعضهم، وضعت ذاتها في مسار شعب وأمة، ثابتة على أرضها بحسب روايات أخرى.

بداية الشعب وجذوره العرقية

ولعل أحد أهم الذين تناولوا سيرة ومسيرة هذا الشعب وتأصيل قصته اللاهوتي الكبير الأب متى المسكين، المصري الأصل، أحد أعمدة الرهبنة المصرية والذي خصص ضمن مؤلفاته العالمية مؤلفاً خاصاً عن هذا التاريخ جاء تحت عنوان "تاريخ بني إسرائيل من واقع نصوص التوراة والأسفار وكتب ما بين العهدين"، وبحسب التقليد يعد شعب إسرائيل في الأصل أرامياً من جهة الجنس، يضرب جذوره العميقة في أرض الكلدانيين حيث مدينة أور التي تقع جنوب نهري دجلة والفرات، ثم مدينة حاران في الشمال وهي مدينة تاريخية مشهورة عاش فيها تارح أبو إبراهيم، وهي المنطقة التي انحدر منها إبراهيم أبو الأنبياء والذي بحسب التوراة هو أبو كل المؤمنين بالله على وجه الأرض، وهذا الذي دعاه الله ليخرج من موطنه ومن وسط عشيرته وينطلق تحت رعاية الله وتوجيهه ليتغرب في أرض كنعان، فاستقر في المنطقة الوسطى في فلسطين بعض الوقت ولكنه ارتحل قليلاً نحو الجنوب حيث جبل حبرون، وضرب خيامه في بئر سبع وامتد حتى إلى وادي العريش.

 

 

 ولم يفلح إبراهيم أرضاً ولا بنى بيوتاً بل عاش هو وأولاده في الخيم يرعون قطعانهم، ولم يمتلك من الأرض إلا مقدار قبر، وهكذا ظل متغرباً كل أيام حياته، واُعتبر إبراهيم على هذا النحو عبرانياً، والعبرانيون كانوا طائفة من البدو الرحل لهم نظام معين في الحياة وقوانين يعيشون بمقتضاها كما يقول عالم التوراة الأميركي الشهير جورج إرنست رايت في مؤلفه الشهير "عالم الآثار الكتابي"، والذي يؤرخ فيه لشكل حياة قبيلة إبراهيم حيث كانوا يعيشون حول المدن في نوع من الاستقرار.

ووفق رايت فإن إبراهيم ترك بصماته المقدسة على أماكن كثيرة في فلسطين، فقد بنى مذابح على مرتفعات بلوطة مورة بقرب شكيم (نابلس الآن)، ومرتفعات جبل الموريا في أورشليم، وفي بيت إيل حيث رفع ذبائح كثيرة وخدم الله بحسب شريعة تلك الأيام.

هدف البدايات والروح القومية لاحقاً

وبالخوض في عمق القراءات التوراتية يتضح منذ البداية أن الله يعلن في وضوح مقاصده الأزلية المرسومة بدقة، وكيف اختار إبراهيم ليكون أباً للإيمان والوسيط لإبلاغ بركات الإيمان إلى كل أمم الأرض، والمرجع التوراتي هنا هو سفر التكوين الإصحاح الـ12 الآيات من الأولى إلى الثالثة "وقال الرب لإبرام (اسم إبراهيم الأول) اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض".

 وبهذا الوعد وعلى هذا الإيمان تصوّر شعب إسرائيل في صلب إبراهيم، وتسجل ميلاده على صفحة تاريخ أعمال الله بالنسبة إلى العالم، وعلى الدوام القراءة هنا من منطلق رؤية توراتية.

ومن هنا يؤمن يهود العالم، والتيار اليميني الإنجيلي البروتستانتي، ذاك الذي يؤمن بحرفيه التوراة، أن إبراهيم أخذ نسله بوعد من قسم الله، ومن صلب حفيده يعقوب "إسرائيل" خرجت الأسباط الـ12.

 ولكن العجيب حقاً أن تتآلف هذه الأسباط بغاية السرعة لتأخذ الروح القومية، على رغم ما كانت تعانيه في ما بينها من خلافات بلغت أحياناً حد الحروب الداخلية حتى كادت تُفني بعضها بعضاً، وأكبر مثال على ذلك قصة محاولة قتل أولاد يعقوب لأخيهم يوسف، وأخيراً باعوه لقافلة مرتحلة إلى مصر، وهذه الروح القومية التي كانت تتأجج في دمائهم على رغم عراكهم الداخلي المستمر هي التي أهلت بني يعقوب أو شعب إسرائيل لتحديد هويتهم كأمة.

كما أن هذه الروح القومية كانت هي العامل وليست الأساس لنصرتهم في الحروب التي أهلتهم لابتلاع القبائل الصغيرة المحيطة بهم وتذويبها في النسيج الإسرائيلي، فهل يختلف الحاضر عن الماضي كثيراً؟ فليراجع القارئ حديث المستوطنات ويدرك أبعاد الماضي ويستشرف ملامح المستقبل.

معنى ومبنى ودلالة لفظ إسرائيل

 تعني كلمة إسرائيل باللغة العبرية "الله يجاهد" أو "يسرائيل"، ولكن أعطيت ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، بمعنى أنه جاهد مع الله وغلب، وذلك بعد ليلة جهاد في الصلاة وتوسل حتى الفجر، "فقال له ما اسمك؟ فقال يعقوب، فقال لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت" (سفر التكوين الإصحاح الـ 32، الأعداد من 27 إلى 28)، ومنذ ذلك الحين ويعقوب يسمى "إسرائيل".

 ثم أطلقت كلمة "إسرائيل" على أسباط يعقوب الـ 12 "بنو إسرائيل" كشعب تكون في مصر عندما هاجروا من أرض كنعان مع أبيهم يعقوب (إسرائيل)، وكان عددهم آنذاك 70 نفساً، والتجأوا إلى مصر إثر مجاعة اجتاحت العالم مدة سبعة أعوام، "جميع نفوس بيت يعقوب التي جاءت إلى مصر سبعون" (سفر التكوين الإصحاح الـ 46، آية 27)، "وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت 430"، وذلك بحسب ما ورد في سفر الخروج من التوراة الإصحاح الـ 12 آية 40.

 

 

أما تاريخ يعقوب (إسرائيل) في مصر فيحدد بالتقريب عام 1700 قبل الميلاد إذ عاصروا في مصر كل حكم الهكسوس (1700 – 1570 قبل الميلاد)، وكل ملوك الأسرة الـ 18 (1570- 1300 قبل الميلاد) الذين منهم تحتمس الثالث وأمينوفيس الثالث وأمينوفيس الرابع وأخناتون، وكذلك بعضاً من ملوك الأسرة الـ 19 (1300 – 1200 قبل الميلاد) ومنهم رمسيس الأول وسيتي الأول ورمسيس الثاني، والذي تشير بعض المصادر إلى أن خروج بني إسرائيل من أرض مصر قد جرى بالفعل في أيام ملكه عام 1280 قبل الميلاد تقريباً.

وهذه اللمسة التاريخية التي لا تخلو من التداخل مع الرؤية التوراتية، وكان لا بد منها بداية، قبل الدخول في عمق فكرة الوعد الممتد من النيل إلى الفرات، والذي تشاغب العقل فيه تساؤلات مثيرة وربما خطرة، منها سبب الحث على الخروج من أرض مصر إلى أرض كنعان، ذلك أنه بحسب الوعد تعتبر أرض النيل جزءاً من الأرض الموعودة، فلماذا تركها وهجرها واللجوء إلى أرض فلسطين؟

إسرائيل الكبرى وفكرة أرض الموعد

بحسب الفكر اليهودي فإن الله تعالى وعد إبراهيم وذريته بأن يمنحهم أرض إسرائيل لرخائهم، وقد جاء الوعد للمرة الأولى في سفر التكوين الإصحاح الـ 15 الآيات من 18 إلى 21، بحسب النص التالي "في ذلك اليوم قطع الرب ميثاقاً مع إبرام قائلاً لنسلك أعط هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات، أرض الفينيقيين والفيزيين والقدمونيين والحثيين والمرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين"، ثم جرى تأكيد هذا الوعد لإسحاق بن إبراهيم ويعقوب ابن إسحاق.

ولا تتوقف فكرة الوعد عند آيات سفر التكوين وحسب، بل تنطلق عبر كثير من المواقع، فنجد الوعد عينه يتكرر في سفر العدد من العهد القديم، الإصحاح الـ 34، وسفر حزقيال الإصحاح الـ 47 اللذين يحددان الأراضي الموعودة أو المخصصة لأسباط إسرائيل.

وتشكل هذه النصوص التوراتية أساساً للمطالبة بأرض أكبر بكثير من دولة إسرائيل الحديثة، مع وجود تفسيرات مختلفة في شأن حدودها ومدى وعد الله بها، وعلى سبيل المثال فإن ما ورد في سفر التكوين الإصحاح الـ 15 يصف حدود الأرض باعتبارها المنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات والتي وعد بها نسل إبراهيم، أما في سفر حزقيال فتصف تلك النصوص الأراضي المخصصة قبائل إسرائيل والأراضي المخصصة لفكرة الفداء النهائي على التوالي، بينما في سفر تثنية الاشتراع والذي يعد بمثابة سفر القوانين للأمة اليهودية ودستورها، فتشير الآيات إلى الأراضي الأوسع التي ستمنح لأبناء إسرائيل بمرور الوقت، مما يعني حدوداً مرنة وقابلة للتوسع، ومن هنا يمكننا فهم لماذا لم تعتمد دولة إسرائيل حتى الساعة حدوداً جغرافية واضحة لها، ومن هنا يمكننا أن نفهم كيف أن مفهوم إسرائيل الكبرى متجذر في تفسير هذه المقاطع الكتابية مع الرغبة في السيطرة على كامل الأراضي الموعودة للشعب اليهودي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والمعروف أن القوميين المتدينين والعلمانيين على حد سواء استشهدوا بهذه الروايات التوراتية لدعم إنشاء دولة يهودية أكبر وبخاصة بعد حرب عام 1967 عندما أصبحت مناطق مثل يهودا والسامرة (الضفة الغربية) متاحة للاستيطان اليهودي، وتشير الفكرة عينها إلى أن توطين اليهود في الأرض المقدسة هو تحقيق للنبوءة، وهي الفكرة التي يتبناها التيار القائم في الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص، والمعروف باسم المسيحيين المتهودين أو "الصهيو-مسيحية"، وإن كان المصطلح في عمقه مضلل وغير صادق.

إبراهيم والوصول إلى الأرض الموعودة

على أن واحدة من أهم علامات الاستفهام تتمثل في كيف وصل إبراهيم من أور المدينة الكلدانية إلى أرض فلسطين؟ وهل كانت هذه الرحلة بحسب الفكر الآبائي اليهودي خريطة سيجب على نسل إبراهيم الرجوع لها وبسط سيطرتهم عليها من جديد؟

أحد أفضل من قدم لنا إجابة عن السؤال المتقدم هو نائب رئيس السفارة المسيحية في القدس، دافيد بارسونز، والتي تعتبر من مهماتها الرئيسة إظهار حقيقة وعد الله لإبراهيم، ومن ثم أحقية اليهود المعاصرين في أرض فلسطين، إذ يعتبر بارسونز أن إبراهيم جاء من أور الكلدانيين من منطقة السهل الخصيب بين نهري دجلة والفرات، وعلى النقيض من ذلك تتميز أرض إسرائيل بنظام بيئي فريد من نوعه، إذ تقع على مفترق طرق ثلاث قارات وتربط بين الحضارات العظيمة في العصور القدمية، ومثل غيره من المسافرين من الشرق تجنب إبراهيم رحلة مباشرة عبر الصحراء ووصل إلى الأرض من الشمال مستخدماً معلماً مألوفاً وهو جبل حرمون، ويبلغ ارتفاع كل من قمم حرمون الثلاث أكثر من 9200 قدم (2800 متر)، وتغطيها الثلوج نصف العام تقريباً، وكان جبل الشيخ أيضاً بمثابة نقطة مرجعية رئيسة لملايين الطيور المهاجرة سنوياً.

بدأ إبراهيم بالنزول من وادي الأردن السفلي لكنه انعطف يميناً في منتصف الطريق إلى وادي ترصة الموصوف بساطة بأنه جميل في سفر نشيد الأنشاد، ثم صعد تدريجاً إلى تلال شومرون مع انحناء الوادي الضيق حول إيلون موريه، وهي قمة عالية مستديرة تطل على شكيم التوراتية (نابلس حالياً)، وهناك نصب خيمته على القمة العالية، وبحسب بارسونز فقد كان هدف إبراهيم التجسس على الأرض في جميع الاتجاهات، وهو ما يؤيده ما جاء في سفر التكوين الإصحاح الـ 12 الآية السادسة، وهذا المسار منح إبراهيم أيضاً إمكان الوصول المباشر إلى "طريق الملك"، وهو طريق قديم يمتد على طول العمود الفقري لسلسة جبال "يهودا/ السامرة" والذي يمكن أن يأخذ المرء بسهولة إلى أسفل شيلوه وبيت إيل، مدينة اليبوسيين التي نسميها الآن القدس، وصولاً إلى الخليل.

 على أن المجاعة التي جرت في تلك الأراضي دفعت إبراهيم لتحويل مساره موقتاً إلى أرض مصر، لكنه سرعان ما عاد لبيت آيل واتبع الطريق السريع إلى الخليل، فأقام معسكره مرة أخرى وهذه المرة بجوار بلوطة ممراً (سفر التكوين الإصحاح الـ 13 آية 18)، وفي هذه الفترة تقريباً حل الخلاف بين رعاة إبراهيم ورعاة ابن أخيه لوط، وبعرضه تقسيم الأرض معه اختار لوط على نحو مشهور سهل الأردن الخصب قرب أريحا اليوم، وانتهى به الأمر إلى العيش في ضيق بين أهل سدوم الفاسدين، ولاحقاً أخذ إبراهيم قطعانه إلى جرار قرب غزة ومنها إلى منطقة بئر سبع.

من كان يعيش في تلك الأرض؟

هل كانت تلك الأرض الموعودة خالية من البشر وما من ساكنين يعمرونها؟ أم وجدت فيها قبائل وشعوب وأمم سابقة على مجيء إبراهيم؟

 قبل الجواب نشير إلى أن رحلات إبراهيم حول الأرض التي وعد بها الله، بحسب النصوص المتقدمة، كان أحد أهدافها الرئيسة البقاء قريباً من مصادر المياه، وهو أمر مفهوم في مثل هذا المناخ الجاف، عطفاً على مراقبة من حوله من قبائل بدو ورعيان آخرين، والثابت أن تلك الأرض التي دخلها إبراهيم كان بها شعب آخر هم الكنعانيون، والذين ينظر إليهم توراتياً بحسب قصة مثيرة في العهد القديم، إلى كونهم أحفاد حام ابن نوح الملعون من قبل والده، أما إبراهيم فهو كما تقول التوراة من نسل سام، والمعروف تقليدياً بأنه خادم الله المستقيم.

وفي وقت لاحق من العهد القديم توصف أرض إسرائيل مراراً وتكراراً بأنها أرض "تفيض لبناً وعسلاً"، وهو ما نطالعه في سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد، ويتحدث الرب بإيجابية عن الأرض في سفر التثنية الإصحاح الـ 11 الآيات من 11 حتى 12 وفيها "هكذا تكلم الرب قائلاً لتكن الأرض التي تعبرونها لتمتلكوها هي أرض جبال ووديان، تشرب ماء من مطر السماء، أرض يعتني بها الرب إلهكم، عينا الرب إلهكم عليها دائماً، من أول السنة إلى آخرها".

 

 

وفي الواقع يجمع شرّاح العهد القديم على أنه عند الرب سبعة أنواع من الفاكهة والمحاصيل الأصلية للأرض، والتي ستكون موجودة دائماً لتغذيتهم وللحفاظ عليهم وهي "العنب والزيتون والتمر والتين، وكذلك الرمان والقمح والشعير"، كما كان بإمكانهم الاعتماد على وادي يزرعيل شديد الخصوبة، أكبر سلة خبز طبيعية تمتد 1000 ميل في أي اتجاه، ومع ذلك كانت الأرض الموعودة تقع أيضاً على حافة الصحراء، وكانت عرضة للجفاف والمجاعة، والتي استخدمها الله مراراً وتكراراً لاختبار شعبه وتقويمهم كما يقول نفر كبير من حاخامات إسرائيل.

على أن حديث إسرائيل الكبرى لا يتوقف عند الوعد لإبراهيم وحسب، إذ سيكون لموسى النبي دور كبير في تأصيل قصة هذا الوعد، فماذا عن ذاك الجانب الآخر الذي يمتد من أرض مصر رجوعاً لأرض كنعان أو الأرض الموعودة مرة جديدة، وبعد إقامة قاربت القرون الخمسة لبني إسرائيل في أرض مصر المحروسة؟

الأرض الموعودة: موسى وسفر الخروج

تتكرر فكرة الأرض الموعودة في الكتب المقدسة، ففي البداية بدت مجرد وعود لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، لكن خلال فترة الخروج من أرض مصر لم تعد "الأرض الموعودة" مجرد وطن للعبرانيين بل رمزاً للحرية، وفي حديثه مع موسى أشار الله إلى الأرض الموعودة كأرض تفيض لبناً وعسلاً، وهذا ما نقرأه في الإصحاح الثالث من سفر الخروج، ثاني أسفار العهد القديم، الآيات 16 و17"وكلم الرب موسى قائلاً اذهب واجمع شيوخ إسرائيل وقل لهم الرب إله آبائكم، إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، قد ظهر لي قائلاً إني قلق عليكم وعلى ما حدث لكم في مصر، فقلت أخرجكم من ضيق مصر إلى أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين، إلى أرض تفيض لبناً وعسلاً".

على أن مسألة الخروج هذه فيها أكثر من رأي وتدور حولها التفسيرات، مما يجعل فكرة الوعد تحتاج إلى مزيد من التدقيق، ذلك أنه من المستحيل أن يخرج العدد الذي تحدث عنه سفر الخروج بين عشية وضحاها.

ونقرأ في سفر التكوين الإصحاح الـ 37 آية 12 "وكان عدد الرجال المجاهدين نحو ستمئة ألف ما عدا النساء والأولاد"، ومع إضافة هؤلاء الأخيرين فإن من خرجوا من أرض مصر يقاربون مليوناً أو 1.5 مليون، والسؤال كيف اجتمع كل هذا العدد في ليلة واحدة وعبروا البحر الأحمر مرة واحدة، وهنا يقدم كثير من شرّاح العهد القديم قراءات متباينة حول الذين خرجوا، وكيف أن هذا الخروج استغرق ربما أكثر من 100 أو 150 عاماً، وأنه جرى عبر البحيرات المرة في منطقة خليج السويس قرب البحر الأحمر، كما أن موعد الخروج نفسه مختلف عليه، فهناك من يرى أنه حدث في القرن الـ 16 قبل الميلاد، وهو ما أشار إليه مانيتون المؤرخ البطليمي المصري الذي عاش عام 250 قبل الميلاد.

 وفريق آخر يرى أن خروج العبرانيين جرى في منتصف القرن الـ 15 قبل الميلاد أو نحو عام 1447 وأنه حدث في زمن تحتمس الثالث أو أمنوفيس الثاني، على أنه مهما يكن من شأن الخروج فإن هناك إشكالاً عميقاً يواجه فكرة الخروج إذا كانت الأرض الموعودة لإبراهيم تمتد من الفرات إلى النيل، فلماذا يقوم الرب بتهجير شعبه من الأرض ذاتها التي وعد بها؟

والسؤال الثاني المثير والخطر "لماذا لم يكن مقدراً لموسى قائد الشعب العبراني أن يدخل الأرض الموعودة، وأن يحكم عليه بالموت في برية سيناء، وأن لا يعرف أحد أين جرى دفنه حتى الساعة؟

يقول الحاخام اليهودي الأشهر شلومو إسحاق والذي يعتبر عموماً الأكثر شهرة بين جميع المعلقين اليهود على التوراة والتلمود، ويعرف اختصاراً باسم "راشي"، إن الرب كلم موسى قائلاً "خذ العصا ثم اجمع مع هارون أخيك كل الجماعة أمام الصخرة، وكلم الصخرة أمامهم جميعاً، فتخرج لهم ماء ليشربوا هم ومواشيهم"، وذلك بعد أن اشتكى الشعب في برية سيناء بأنهم يهلكون جوعاً وعطشاً هم وبنيهم، غير أن موسى لم يكلم الصخرة بل ضربها بعصاه مخالفاً قول الرب، وهذا ما يعتبره الحاخام راشي "خطيئة موسى الكبرى، وأنه لم يؤمن بما قاله الرب من أن يخاطب الصخرة وحسب".

 

 

وهنا نحن أمام إشكال أن "موسى ربينو" أي موسى المعلم وليس القائد فقط قد اختفى في وقت مصيري، إذ كان مكلفاً بأن يقود العودة لأرض الموعد، فهل كانت العودة صحيحة وحقيقية لجهة الأرض الموعودة؟

والتساؤل يفتح أبواباً للشك في حقيقة الرواية، وهل المقصود هو الحرف أم الروح؟ وما الذي يبقى في قصة الأرض الموعودة؟

إعادة النظر في فكرة الأرض الموعودة

الحديث عن إعادة قراءة فكرة الوعد، وهل هو وعد حرفي، يعني الأرض بمعناها ومبناها التقليدي، أم أن هناك معان روحية أبعد من فكرة الحدود والسدود الجغرافية وتحتاج إلى قراءات قائمة مستقلة، وهو ما كثر العمل عليه حتى من يهود خُلص، بل إن هناك من بني إسرائيل جماعات يهودية مثل "ناطوري كارتا" ترفض قيام دولة إسرائيل على المفاهيم التوراتية الحرفية، وهذا التوجه يقطع بأن الوعد روحي أكثر منه حرفي، ولا سيما أن الوعد لإبراهيم يشمل نسله من العرب أيضاً من ابنه إسماعيل، والذي كان أباً لعدد كبير من القبائل العربية، وإسماعيل هو الابن الأكبر والأول لإبراهيم من زوجته المصرية هاجر، والوعد الإلهي بإعطاء إبراهيم ونسله من بعده أرض كنعان ملكاً أبدياً جرى في وجود إسماعيل، إذ إن إسحاق لم يكن قد ولد بعد، ولهذا فإن تفسير الوعد بأنه يختص بإسحاق دون غيره أمر يبدو في نظر كثيرين مغالطة دينية وتاريخية معاً، بخاصة وأن المنطقة كانت على الدوام محكومة من العرب الذين هم نسل إسماعيل.

والثابت كذلك أن هناك كثيراً من الأصوات اليهودية نفسها تُراجع حديث الوعد، فعلى سبيل المثال نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها الصادر في الـ 18 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1959 قراءة لأستاذ التصوف اليهودي في كلية اللاهوت اليهودية في نيويورك البروفيسور إبراهام هيشيل"، أشار فيها إلى أن هذا الوعد وتلك النبوءة قد تحققت في الماضي، وعطفاً على ذلك فإن الأب متّى المسكين وكثيرين من أمثاله يقدمون لنا رؤية مغايرة عن الإرث الموعود، والذي كان أحد أهم شروطه أن يبقى هذا الشعب في دائرة الخضوع للتعاليم السمائية وليس الاتكال على الأدوات السياسية والتذلل للأمم، مفيدين بأن الوعد قد بطل منذ 2000 عام، وتتحقق النبوءات المسيانية تلك التي رفضتها الأجيال التي سبقت تدمير الهيكل الثاني في زمن الإمبراطور الروماني تيتوس.

ويبقى الحديث في كل الأحوال في حاجة إلى مشاغبة أيقونة أخرى لا تجري الرؤية إلا من خلالها، حديث مملكة إسرائيل، وهل هي بعينها مضمونة بوعد الأرض؟ أم أنها سرديات روحية لا مادية؟

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات