ملخص
يقدم هذا الكتاب نظرة متعمقة عن كيف استطاع العالم الإسلامي العربي التعرف على أوروبا في القرون الوسطى، على نحو ثقافي، لا يخلو من أغراض سياسية، في سياق ما يسمى "الاستغراب"، أي دراسة العرب والمسلمين للغرب، وهو عكس الاستشراق، وذلك في زمن طالما ارتبط بالعنف في العلاقات الإسلامية المسيحية.
يسعى الباحث دانييل ج. كونيغ، عبر كتابه "الغرب اللاتيني كما رآه العرب – المسلمون: تقصي نشأة أوروبا في العصور الوسطى"، إلى إلقاء الضوء على جهود العرب في الحصول على المعلومات الخاصة بأوروبا الغربية واستخدامها، ويرصد قنوات الإرسال التي من خلالها وصلت تلك المعلومات إلى العالم الإسلامي العربي. واللافت، كما تقول مترجمة الكتاب من الإنجليزية إلى العربية (المركز القومي للترجمة - القاهرة) آمال علي مظهر، أن المؤلف استشهد بالآية الكريمة: "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" (الحجرات، آية 13) في مستهل كتابه، "بوصفها تلخيصاً معجزاً لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الشعوب والأقوام المختلفة" (ص 9).
والمؤلف نال درجة الدكتوراه من جامعة بون في 2006، وتولى كرسي الأستاذية للدراسات العابرة للثقافات في سياق العولمة، في جامعة هايدلبرغ بألمانيا، وأصدر الطبعة الأولى من كتابه هذا في أواخر عام 2015، تحت عنوان ARABIC- ISLAMIC VIEWS OF THE LATIN WEST: TRACING THE EMERGENCE OF MEDIEVAL EUROPE علماً أنه يتناول العوامل العامة التي أثرت في استقبال هذه المعلومات وتقديمها على يد العلماء المسلمين العرب، ومن ثم الاهتمام بالتعامل مع مواضيع مثل البعد الغربي للإمبراطورية الرومانية، وكذلك القوط الغربيين، والفرنجة، والمؤسسة الباباوية، وأخيراً أوروبا الغربية في زمن التوسعات المسيحية اللاتينية.
وكما لاحظت المترجمة، التي تعمل أستاذة للأدب المقارن في كلية الآداب في جامعة القاهرة، فإن دانييل ج. كونيغ (1976) بذل جهداً كبيراً في دراسة قائمة طويلة من أعمال أهم العلماء المسلمين، وتحديداً من أولئك الذين انشغلوا بدراسة نشأة أوروبا على مدى زمني استغرق قرابة ثمانية قرون، وعلى نطاق جغرافي مترامي الأطراف، امتد من فارس شرقاً إلى شبه جزيرة إيبيريا غرباً.
التاريخ المشترك
يتألف الكتاب في ترجمته العربية (497 صفحة من القطع فوق المتوسط) من كلمة للمترجمة، ثم مقدمة للمؤلف، وتسعة فصول وببلوغرافيا. وفي المقدمة يذهب كونيغ إلى أن صور "أوروبا" و"الغرب" تلعب دوراً محورياً في الأشكال المختلفة للخطاب الذي يتشارك فيه مسلمو العالم، بمن فيهم المسلمون الذين ينتمون إلى أوروبا الغربية. ووفقاً لتلك الملاحظة، أو الخلفية، طرحت دراسة كونيغ الأسئلة الخاصة بالتفسيرات والتأويلات "الراسخة" عن كيفية إدراك "العالم الإسلامي" لـ"أوروبا"، في المرحلة التأسيسية لتاريخهما المشترك.
واستدعى ذلك – كما يقول المؤلف – ضرورة التفكير بإمعان في مجموعة كبيرة من العوامل التي كان لها تأثير في تشكيل تصورات شديدة التباين من جانب المسلمين. ولا يخفي كونيغ انطلاقه في هذا الأمر، من كونه مؤرخاً متخصصاً في مجتمعات أوروبا العصور الوسطى، ومن كونه في بداية خطواته نحو أن يصبح مستعرباً. وهكذا راح يتتبع عمليات التلقي والاستقبال التي تمت زمنياً عبر نحو ألف عام، ومكانياً عبر آلاف من الكيلومترات، وفي إطار رؤية هذه العمليات معاً، فإنها شكلت مع بعضها بعضاً ما سماه "المشهد المعرفي".
وهذا المشهد كما يستخلص المؤلف هو أكثر تعقيداً من ثنائية المراقب/ المراقب التي يمكن أن تبدو عند النظرة الأولى للأمر. ويمكن القول إن ظهور هذا المشهد المعرفي ارتكز على صيرورة تاريخية ساعدت في ظهور نقاط اتصال"، و"فضاءات ثالثة"، وعدد كبير من البشر الذين تحركوا في – وبين – مجالات وأوساط ثقافية عدة، بحيث تسمح بالمرور من خلالها.
قبول الآخر
ومع ذلك – يضيف المؤلف – فإن هذه الدراسة لا تنتمي إلى مجال التاريخ الاجتماعي، كما أنها لا تقوم بالتركيز على العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بين المسيحيين والمسلمين، ولا على الظواهر العابرة للثقافات، والتي تنتج من تفاعل تلك العلاقات مع بعضها بعضاً. والأصح هو أن تلك الدراسة تنتمي إلى ما يوصف بـ"تأريخ التاريخ"، لأنها تحاول فهم كيف تمكن ممثلو تراث فكري - تم تعريفه بلغة واحدة هي اللغة العربية، وبتفسير ديني وحيد ومحدد وهو الإسلام - من تتبع ظهور عالم غير إسلامي مجاور عبر عدد من القرون.
وعلى رغم بعض مظاهر الاحتقار أو التعليقات المسيئة، والتي كانت تظهر من آنٍ لآخر، فإن عدداً من العلماء نظروا إلى المجتمعات غير المسلمة باعتبارها تمثل أشكالاً أخرى من الوجود الإنساني، تستحق الاحترام. وفي نوع من الاعتراف بتعددية المجتمعات الإنسانية، والقبول بمعتقدات "الآخر" الدينية، وبتنوع أشكال الحياة، فإن العلماء المسلمين كانوا أوفياء لعقيدتهم، وللقرآن الكريم الذي يمكن فهمه وتأويله باعتباره يدعو إلى تعدد الاختيارات الدينية. تبلورت الفكرة الرئيسة لهذا الكتاب في ربيع سنة 2007، أي قبل بضعة أشهر من التحاق مؤلفه بالعمل في المعهد الألماني للدراسات التاريخية في باريس، وتحديداً في القسم الخاص بدراسات أواخر العصور القديمة وأوائل العصور الوسطى.
ووجد كونيغ الفرصة سانحة للتفرغ على نحو أفضل لإنجاز الدراسة التي يضمها الكتاب، عندما انتقل عام 2011 إلى "فرانكفورت مين"، حيث قام بيرنهارد جوسين بتوظيفه باحثاً ومحاضراً ضمن وظائف كرسيه لدراسات العصور الوسطى. وبذلك تمكن كما يقول من الحصول على المؤهلات العلمية المطلوبة للحصول على الأستاذية الكاملة في سنة 2013.
توسعات الجانبين
يتناول الفصل الأول من الدراسة الكتابات العربية - الإسلامية عن أوروبا اللاتينية - المسيحية. وتناول الفصل الثاني المشهد المعلوماتي المتطور (من القرن السابع إلى القرن الخامس عشر، وركز الفصل الثالث على "اشتغال العلماء بأبحاثهم"، وتناول الفصل الرابع موضوع اكتشاف الغرب الروماني، وجاء الفصل الخامس تحت عنوان "القوط الغربيون: تاريخ شعب مهزوم"، والفصل السادس "من الفرنجة إلى فرنسا"، والسابع "من بطريرك روما إلى البابا"، والثامن "توسع العالم اللاتيني – المسيحي"، وجاء الفصل التاسع تحت عنوان "إعادة تقييم للكتابات العربية – الإسلامية عن أوروبا اللاتينية المسيحية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي المحصلة، رأى دانييل ج. كونيغ، أن المسار الصاعد لأوروبا الغربية في العصور الوسطى، والآخذ في الاستقرار الحثيث بعد فترة من الصراعات مع متغيرات ما بعد الحقبة الرومانية، كان بعيداً من المراكز الحيوية في قلب الشرق الأوسط الإسلامي، ومن ثم لم يكن له أي تأثير في تشكيل العلم والفكر العربي – الإسلامي. ولم يصبح لأوروبا الغربية تأثير، إلا بعد التوسعات الإسلامية تجاه الغرب، وهي التوسعات التي زاد تأثيرها نتيجة للعلاقات المكثفة، وبخاصة نتيجة التوسعات اللاتينية – المسيحية في ذروة العصور الوسطى وأواخرها.
ويضيف أنه رغم أن الغرب المسلم أبدى في أواخر العصور الوسطى ميلاً لكتابة أعمال على نطاق إقليمي، فإنه أثمر التاريخ العالمي لابن خلدون، إضافة إلى كتابين مهمين في الجغرافيا من تأليف ابن سعيد والحميري، "وهما كتابان اهتما بالمجالين الغربي والشرقي على حد سواء" (ص 416). وعلى الجانب الآخر، لوحظ أن التصوير السلبي للمسلمين ودينهم احتل مكاناً بارزاً في المصادر اللاتينية - المسيحية خلال العصور الوسطى. ومع ذلك فحتى وقت قريب جداً- يقول المؤلف - أدى الاهتمام العلمي بتصوير اللاتين – المسيحيين للإسلام بوصفه ديانة "الآخر"، إلى طمس حقيقة أن النصوص اللاتينية – المسيحية تتضمن أيضاً كماً هائلاً من المعلومات عن وجود معاملات متبادلة خالية من المشكلات بين المسيحيين والمسلمين، وعن وجود صور للترابط، لكن التركيز على الكتابات الأيديولوجية المغالية دفع إلى خلفية الصورة بحقيقة أن العلماء اللاتين – المسيحيين أخذوا وقتاً طويلاً، ليس فقط من أجل دراسة الإسلام دراسة منهجية، بل أيضاً من أجل تسجيل المعلومات عن تاريخ وصيرورة المجتمعات الإسلامية، ومن ثم لم يركزوا على دراسة الإسلام والشخصية الأساسية فيه (وهو محمد صلى الله عليه وسلم) ولا على أمثلة من التفاعل المباشر.