ملخص
ما زالت أم كلثوم تمثل أيقونة قادرة على شحن الذاكرة الجمعية واستدعاء طاقة خاصة من الحنين والفخر. وفي مناسبة مرور نصف قرن على رحيلها، لم يكن مفاجئاً أن تُخصص وزارة الثقافة المصرية معرضاً فنياً يحتفي بها كرمز بصري؛ فصوت أم كلثوم ما زال حيّاً في وجدان أجيال متعاقبة، يثير المشاعر ويستدعي صورة زمن كامل من التحولات.
يكشف المعرض، رغم أهميته منذ الوهلة الأولى، عن ميل واضح إلى الاحتفال أكثر من الرغبة في المراجعة أو طرح الأسئلة. فهل يكفي أن نعيد إنتاج صورة أم كلثوم كرمز وطني جامع، أم أن اللحظة تستدعي مقاربة مختلفة، تحاول مساءلة هذا الإرث وفتح آفاق جديدة لتلقيه؟
ضم المعرض أعمالاً لما يقرب من ثلاثين فناناً مصرياً من أجيال واتجاهات مختلفة، تنوعت بين الرسم والتصوير والنحت، سعت إلى تقديم تصورات بصرية لشخصية أم كلثوم ومسيرتها. كما خُصص قسم توثيقي يضم مقتنيات نادرة وصوراً فوتوغرافية وأعداداً أصلية من الصحف والمجلات التي أرّخت لمشوارها، إلى جانب متعلقاتها الشخصية المحفوظة في متحفها بحي المنيل. هذه العناصر منحت الزائر فرصة لتأمل الوجه الأرشيفي والحميمي لكوكب الشرق، لكنها بدت في الوقت نفسه جزءاً من سردية احتفالية مألوفة، كرّست الصورة التقليدية لأم كلثوم كرمز وطني جامع، من دون أن تدفع إلى مساءلة حضورها في سياقات جديدة.
منذ البداية، حرص القائمون على تأكيد صورة صوت مصر كرمز للهوية الوطنية. انعكس ذلك في كلمات وزير الثقافة أحمد فؤاد هنو حول المعرض، والذي أكد أن أم كلثوم "كانت صوت أمة كاملة" وأنها "رفعت الفن إلى مصاف الرسالة الوطنية". مثل هذه التصريحات، التي استعادها البيان الرسمي، تضع المعرض في إطار خطاب تعبوي مألوف يربط الفن بالمهمة الوطنية، لكنه يضيّق أفق التلقي ويجعل من التجربة امتداداً لاحتفالية رسمية، أكثر مما هو مجال للتجريب والطرح النقدي.
اللافت أيضاً هنا أن المعرض تجاهل البُعد الإقليمي لأم كلثوم، فهي لم تكن مطربة مصرية فحسب، بل أيقونة عربية غنّت في دمشق وبغداد والرباط وباريس، وظل صوتها جزءاً من تكوين الوجدان الجمعي العربي. ومع ذلك، اقتصر المعرض على مشاركة فنانين مصريين فقط، في إغفال واضح للبعد العربي الذي كان من شأنه أن يثري التجربة ويمنحها تنوعاً أوسع. كان من الممكن أن يكون معرضاً عربياً يضم رؤى من بلدان مختلفة تأثرت بها، لكن الاختيار بقي محصوراً في الإطار المحلي الضيق.
الأعمال الفنية المشاركة حاولت بطريقتها أن تمنح وجهاً آخر لأم كلثوم. بعض الفنانين استعاد صورها الأيقونية على المسرح بوقفتها الشهيرة ووشاحها الأبيض، فيما اتجه آخرون إلى مقاربة رمزية عبر استخدام ملامحها في تشكيلات تجريدية. ومع ذلك، ظل الطابع الغالب أسير الرمز الممجّد، من دون محاولات حقيقية لتفكيك الأيقونة أو طرح أسئلة عن علاقتها بالسلطة أو بالتوترات الاجتماعية والسياسية التي شكّلت خلفية عصرها. بدا الأمر كما لو أن القاسم المشترك هو تكريس صورة الصوت الخالد لا مساءلته.
وثائق مرجعية
الجانب التوثيقي، الذي ضم صوراً وجرائد ومقتنيات شخصية، استقطب اهتماماً واسعاً من الجمهور، ربما أكثر من الأعمال الفنية نفسها. فهذا القسم لبّى نزعة نوستالجية لدى الزائرين، أعادتهم إلى زمن يُنظر إليه كعصر ذهبي للغناء والفن. غير أن الميل إلى الحنين، رغم جاذبيته، يظل سيفاً ذا حدين: فهو يقرّب الجمهور من التجربة لكنه يعمّق الطابع الاحتفالي ويغلق الباب أمام القراءة النقدية.
علاقة أم كلثوم بالسلطة السياسية تمثل بحد ذاتها مدخلاً كان يمكن أن يثري المعرض، لكنه غاب تماماً. فمنذ بداياتها حرصت على نسج علاقات وثيقة مع دوائر النفوذ الثقافي والسياسي، ومع ثورة يوليو تحولت إلى صوت رسمي للدولة، تغني لعبد الناصر والجيش وتشارك في تعبئة الوجدان العام. أغنياتها الوطنية مثل والله زمان يا سلاحي صارت شعاراً لمرحلة كاملة، واستخدمت في لحظات مفصلية كعدوان 1956 وحرب الاستنزاف. هذه العلاقة جعلت صوتها جزءاً من خطاب الدولة، لكنها أثارت في الوقت نفسه نقاشات حول حدود الفن حين يندمج بالسياسة، وحول ما إذا كان هذا الاندماج قد حجب وجوهاً أخرى من شخصيتها الفنية. كان من الممكن أن يطرح المعرض هذه الأسئلة، كيف نتلقى صوتها اليوم في ضوء هذا التداخل؟ وهل ما زالت تُستقبل كرمز فني خالص أم كجزء من آلة سياسية صنعت وعياً معيناً؟ غياب هذا النقاش جعل المعرض يكرر رواية رسمية جاهزة، من دون أن يغامر بفتح الملفات المسكوت عنها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البيان الرسمي وصف المعرض بأنه تجربة بصرية توثيقية تجمع بين الفنون التشكيلية والذاكرة الغنائية والمقتنيات النادرة. لكن التأمل يكشف أن الصورة المقدمة واحدة تقريباً، تدور حول المطربة التي جسدت صوت الأمة ورفعت الراية الوطنية. أما الصور الأخرى الممكنة، الأكثر تعقيداً وثراءً، فقد غابت عن المشهد. كان يمكن للمعرض أن يطرح كيف تداخل صوتها مع تحولات السياسة في مصر والعالم العربي، أو كيف عبّرت تجربتها عن الصراع بين الحداثة والتقاليد، أو كيف أثر حضورها في الأجيال اللاحقة من الفنانين والموسيقيين.
لا شك أن "صوت مصر" نجح في استقطاب اهتمام جماهيري وإعلامي واسع، فاسم أم كلثوم وحده كفيل بجذب الأنظار وإحياء مشاعر الانتماء. لكن في سياق الحياة الثقافية المصرية، يبدو المعرض نموذجاً مألوفاً، حدث يتخذ من أيقونة وطنية عنواناً له في إطار من الاحتفال والتكريم، من دون أن يتجاوز ذلك إلى طرح أسئلة جديدة أو فتح مسارات مغايرة. وكأن الهدف النهائي هو تأكيد أن أم كلثوم هي "صوت مصر"، وأن مصر ما زالت قادرة على الاحتفاء برموزها، حتى لو ظل هذا الاحتفاء أسيراً لقوالب جاهزة، خالية من المغامرة الفكرية والجمالية.
بهذا المعنى، يصبح المعرض انعكاساً للحظة الثقافية التي تعيشها مصر اليوم، لحظة تميل إلى ترديد الشعارات والاحتفاء بالرموز أكثر مما تنزع إلى النقد والمساءلة. ولعل القيمة الأهم لمعرض "صوت مصر" تكمن في ما يكشفه من حدود الرؤية الرسمية للفن ودوره، وفي الحاجة إلى ابتكار طرق أخرى للاحتفاء برموزنا الثقافية، طرق لا تكتفي بتمجيد الماضي بل تضعه موضع السؤال وتفتحه على احتمالات المستقبل.