Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"طعم الجدران مالح" مسرحية ترثي البيت السوري المنكوب

 فواز حسون ورزان السيد مزجا بين الواقع والخيال لنسج حكايتهما عن الحرب

من المسرحية السورية "طعم الجدران مالح" (خدمة الفرقة)

ملخص

بيت منكوب بجدران عارية يجمع فتاة وشاباً لا نعرف لهما اسماً طوال زمن المسرحية (90 دقيقة). الشاب (أنطونيو طعمة) يعاني أمراض النوم، أما الفتاة (نور أبوصالح) فقد جاءت لتفقد بيت عائلتها الذي دمرته الحرب. يسوق عرض "طعم الجدران مالح" هذه الفرضية التي تحاول الشخصيتان ترميمها. يستعيدان ذكرياتهما ورؤاهما المتباينة عن العائلة والموت والحياة، والظروف التي دفعت الفتاة الشابة للعودة إلى هذا المكان بعد قرابة عقد من مغادرته.

يروي العرض السوري (المورد الثقافي- آفاق) حكاية الشابة الصيدلانية التي تعود لتفقد بيت العائلة بعد توقف العمليات العسكرية في منطقتها، لكنها تتعرض لحادثة مفاجئة عندما ينهار جزء من سلم البناء بها. دخولها إلى البيت، أو ما تبقى منه، يجمعها بشاب لجأ هو الآخر إلى المكان هرباً من عائلته، ويتضح أنه مصاب بالأرق المزمن، ويخشى أن ينقل إلى وليده الصغير هذا الداء. حتى الآن تبدو الفرضية التي بنى عليها كاتبا العرض ومخرجاه (رزان السيد وفواز حسون) أحداثهما مثيرة وجذابة، فهي لا تسلم مفاتيح القصة دفعة واحدة. لكن هذه الفرضية تبدو مرتبكة في تبرير المصادفة التي جمعت كلاً من الشخصيتين، فانهيار جزء من درج البناء لا يعطل فرصة الخروج من المكان، لا سيما أن العرض يورد أصواتاً لشاحنات في الجوار تجوب المكان بغية سرقة المنازل و"تعفيشها".

على رغم ضعف الفرضية درامياً، فإن هذا يولد حالة من الترقب في الجزء الأول من العرض (مسرح سعد الله ونوس)، فالشابة التي تعاني كدمات في ساقها جراء انهيار جزء من البناء، تظهر بداية الحذر من الشاب النحيل، إذ يبدو منظره المتهالك ونبرته الخافتة مصدراً للريبة والخوف. ومع أن الشاب يقوم بمحاولة بناء الثقة مع الفتاة وتقديم الماء والخبز لها، إلا أنها تظل متوجسة منه، وتخبره بأنها مهندسة معمارية جاءت لتفقد الأبنية المتداعية، ودراسة إمكانية تدعيمها من قبل البلدية.

في المقابل يخبرها الشاب أن صديقه سيأتي مساء لزيارته، وعندها يمكن أن يقدم لهما النجدة، وعندما تطلب الفتاة منه أن يتصل به، يخبرها أن صديقه لا يحمل هاتفاً محمولاً، أما هي فينفد شحن بطارية هاتفها.

تبدو كل هذه المصادفات أنها جاءت تباعاً حتى يتمكن كاتبا العرض ومخرجاه من إنجاز فرضية الحصار لشخصيتيهما، فلو استبعدنا إمكانية تواصل الشابين مع أحد ما في الجوار، وكان المكان مهجوراً إلى هذا الحد، ولو استبعدنا كذلك مسألة انعدام التغطية في منطقة دمرتها الحرب، سنقبل مباشرة ببقاء كل من الشخصيتين في بيت بجدران جرداء إلا من نبتة "إكليل الجبل" التي يواظب الشاب على سقايتها. تغضب الفتاة من حيادية الشاب ولا مبالاته إزاء ما يحدث، فتقوم برمي أصيص النبات من النافذة. مما يخرج الشاب عن هدوئه، وكذلك الفتاة التي تخبرنا بأنها ليست مهندسة معمارية، وأنها جاءت لتفقد بيت العائلة، ثم تطالبه بمغادرة المكان. لكن هذا لن يجدي نفعاً، فالبيت الذي تحتفظ الفتاة حتى بمواقع نور الشمس على جدرانه، يتحول إلى سجن لها مع شاب غريب الأطوار.

الذكريات الحميمة

ولكن سرعان ما تبحث الفتاة من طريقة تخرج بها من هذا المأزق، فتشرع بتجميع ثياب كانت ترتديها، وهي ملابس شتوية، وتصنع منها حبلاً لتتدلى منه إلى الطوابق السفلى من البناء. لكن السؤال يعود هنا ليذكرنا مجدداً بضعف البناء الدرامي: لماذا كانت الفتاة ترتدي ملابس شتوية في حين أن الشاب كان يرتدي لباساً صيفياً؟ نستنتج أن خيار الملابس الشتوية للفتاة هي لتصنع منها في ما بعد حبلاً لتتدلى من نافذة البيت وتخرج من مأزقها. تتهيب الفتاة التدلي على حبل الثياب الذي صنعته، مما يمدد فترة الإقامة الجبرية مع الشاب، التي تتحول إلى ملاذ آمن لبوح الفتاة عن ماضيها، فتخبرنا عن بيت العائلة، وعن قطع الأثاث الملون التي كانت تملأ المكان قبل أن تضطر العائلة للمغادرة تحت القصف.

استعادة الفتاة ذكرياتها الحميمية عن والديها وأخيها الصغير، يقابلها بوح الشاب أيضاً عن مرض الاستيقاظ المتواصل الذي يعانيه، ونتعرف أكثر على شخصيته التي تخشى من المواجهة، وأنه فضل هجران زوجته الحامل خشية من نقل أمراض النوم التي يعانيها لطفله. ويروي أيضاً قصة مقتل شقيقه بطلقة قناص أثناء محاولته الهرب من الحي الذي يقطن فيه.

نلاحظ هنا أن العرض تتوقف أحداثه، ويكتفي بطلاه باستعادة ذكرياتهما، مما بدد أي صراع ممكن بين فتاة تجد نفسها أمام رجل غريب يقيم في بيت عائلتها، وينقلب الحذر والخوف الشديدان من رجل غريب إلى مشاعر من التعاطف معه في محنته، من دون أن نعثر على سبب مقنع لتخلي الشاب عن أسرته، فيختار الإقامة في بيت لا يعرف له صاحباً رفقة نبات "الروز ماري".

الجزء المثير من العرض هو خروجه عن المعطى الواقعي الذي حاول كاتبا "طعم الجدران مالح" ومخرجاه، تبرير مسنداته، ففجأة تتحرك قطع الديكور (سينوغرافيا غيث المرزوقي)، وينقلب الحاجز الأسمنتي إلى أريكة وثيرة، وتظهر طاولة من يمين الخشبة عليها حوض أسماك زينة. ويحضر كرسيان، وتتحول فجأة الولاعة الخربة في يد الشاب إلى ولاعة بلهيب قوي، فيشعل سيجارته التي كان منذ بداية العرض يحاول إشعالها بلا جدوى. هذه لحظة تحسب لهذه التجربة، لا سيما عندما يقوم كل من الشاب والفتاة بالتهام أسماك الزينة كعشاء متخيل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 مزج كاتبا العرض ومخرجاه بين الواقع والخيال، وصولاً إلى مسرح اللامعقول، فتحركت الجدران الجرداء لتفسح عن صور العائلة، وعن تزيين داخلي منسق بدلاً من تجهم المشهد، وأحاله فسحة من جمال وألفة، إلا أن المكان لم يقارب البيت كما كان قبل الحرب، بل بدا أقرب إلى بار أكثر منه المنزل الذي جهدت الفتاة في وصف تفاصيله وغرفه وحميمية أمسياته.

ينتهي العرض مع بزوغ شمس نهار آخر، لنجد الشاب وقد غفا أخيراً على القاطع الأسمنتي، فيما نشاهد الفتاة تقوم مجدداً بجدل حبل الملابس الذي كانت قد أعدته منذ الليلة الماضية، وقبل أن تغادر تقوم بتعليق ميدالية مفاتيح البيت في أصابع الشاب النائم، ثم تقوم بالتدلي من النافذة إلى أن تغيب رويداً رويداً عن مجال رؤية الجمهور، مع تصاعد أغنية "بحلم معاك بسفينة" بصوت مي فاروق. يمكن الإشادة هنا بالإضاءة (رباب الدمني) التي أسهمت في إبراز مرور الزمن، والتمييز بين أوقات النهار والليل عبر منابع مختلفة للضوء، واللعب على درجة سطوع الإنارة ونسب الحرارة المطلوبة مع تغيير المناظر.

أداء ممثلي العرض بدا طبيعياً وغير متكلف، وهذا مما أسهم إلى حد بعيد في التغطية على ضعف البناء الدرامي للنص، الذي جاء تفسيره إخراجياً بصورة فنية قوية، وبتوظيف ملائم لعناصر السينوغرافيا من دون أن تكون عاملاً مشوشاً على جودة الأداء وطلاقته. فعرض "طعم الجدران مالح" يطرح مسألة في غاية الحساسية عن عشرات آلاف المنازل التي أتت عليها الحرب، كما يعالج مصير مئات آلاف النازحين، ومدى إمكانية عودتهم إلى ديارهم بعد أعوام طويلة من النزاع الأهلي، مما جعل من طعم الجدران المدمرة مذاقاً أقرب إلى مذاق الملح الذي تركته دموع الغائبين عليها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة