ملخص
بريطانيا في 2025 تواجه عودة صادمة إلى أنماط الفقر القديمة رغم مظاهر التقدم، مع تفاقم العَوَز المطلق وارتفاع معدلات فقر الأطفال و"فقر العاملين" إلى مستويات قياسية. السياسات التقشفية وسقف إعانة الطفلين وتراجع نظام الدعم الاجتماعي عمّقت الحرمان، تاركة ملايين الأطفال والأسر أمام مستقبل أقل أملاً وأكثر هشاشة.
قال رئيس وزراء بريطانيا الأسبق غوردون براون الأسبوع الماضي: "بريطانيا اليوم بلد ممزق. وهناك أزمة اجتماعية حقيقية تعصف بنا"، لم يكن مجرد تحذير قاسٍ من واقع دولة تترنح تحت وطأة الاضطراب وعدم الاستقرار - بل اعتراف مُرعب بأننا نتراجع إلى الوراء.
وتابع براون في حديثه مع مقدم برنامج "توداي" على إذاعة "بي بي سي راديو 4" الخميس الماضي: "أعيش في الدائرة الانتخابية التي نشأت فيها. ما زلت أعيش هنا. أرى كل يوم كيف تزداد الأوضاع سوءاً، ولم أكن أتصور أنني سأرى من جديد نوع الفقر الذي عاصرته طفلاً، عندما كانت لدينا مساكن متداعية، وعندما كان أطفال جماعات الرحّل يأتون إلى مدرستي".
وأضاف: "هذا عودة إلى نمط الفقر الذي شهدناه قبل 60 عاماً، وأعتقد أن علينا أن نتحرك الآن. ولهذا السبب من الملح أن نتخذ إجراءات في الميزانية المقبلة".
تزامنت تصريحات براون في سياق دعمه لإصلاحات ضريبية على أنشطة المقامرة، بهدف توفير 3.2 مليار جنيه إسترليني اللازمة لإلغاء سقف إعانة الطفلين - وهي السياسة التي باتت تطاول حياة أكثر من 1.5 مليون طفل. واعترافه هذا يحمل في طياته حقيقة مزعجة هي أن بريطانيا في عام 2025 لا تواجه أشكالاً جديدة من الحرمان وحسب، بل تدور في حلقة مفرغة تُعيدها إلى أنماط البؤس القديمة أيضاً.
وربما كان الأمر قبل نصف قرن أوضح للعيان. ففي ذلك الوقت، كان الفقر يتمركز أساساً في مجمعات سكنية معزولة، وأبراج أسمنتية مترامية، وسلالم تفوح منها الروائح الكريهة، وأراجيح مكسورة، وأطفال يلعبون خارج البيوت بمعاطف ضيقة عليهم. وعام 1975، كان للفقر حضور مادي في خطوط الاعتصام العمالية وصفوف المطابخ الخيرية، بطريقة نحب أن نتخيل أنها باتت اليوم محصورة في صور باهتة باللونين الأبيض والأسود أو في دراما قاسية على شاشات "آي تي في" أو موضوعاً لأفلام المخرج كين لوتش.
غير أن العقود الماضية شهدت تحولاً جذرياً في مستويات الثروة والمعيشة وأعادت تعريف الفقر ذاته وملامحه. صحيح أن التحسن واضح للعيان لكنه ظاهرياً فقط.
تضاعف متوسط الدخل الأسري، مما أدى إلى ارتفاع خط الفقر. كذلك شهدت معدلات الفقر بين المتقاعدين تقدماً كبيراً مع زيادة متوسط الأعمار.
ومع ذلك، فإن عدد الأطفال الذين يعيشون في فقر نسبي ليس أعلى بقليل مما كان عليه في السبعينيات وحسب، بل تضاعف المعدل ليصل إلى 31 في المئة، أو ما يعادل 4.5 مليون طفل. ووفقاً لمؤسسة جوزيف راونتري (JRF)، فإن 56 في المئة من الأشخاص الذين يعيشون في فقر بالمملكة المتحدة هم من الأسر العاملة، كما أن الفقر المدقع - حيث تعيش الأسر على أقل من 40 في المئة من متوسط الدخل - أصبح أكثر انتشاراً بشكل ملحوظ من أي وقت مضى.
واليوم، تواجه الأسر عقبات أكثر خفاءً، منها الاستبعاد الرقمي (إذ إن نحو ستة في المئة من المنازل في المملكة المتحدة لا تملك اتصالاً بالإنترنت)، والتطوير العمراني، وعقود العمل غير المستقرة (هناك 1.05 مليون شخص يعملون بعقود لا التزام فيها بعدد محدد من ساعات العمل)، إضافة إلى العبء النفسي المصاحب لتدبير سبل البقاء يوماً بيوم.
وقد وجدت مؤسسة "مايند" و"معهد سياسة المال والصحة النفسية" في العام الماضي أن الأشخاص الذين يعيشون في فقر هم أكثر عرضة للإصابة بمشكلات الصحة النفسية بمرتين، بينما كشفت مؤسسة "Turn2Us" أن سبعة من كل 10 آباء منخفضي الدخل يعانون القلق أو الاكتئاب كنتيجة مباشرة للضغوط المالية.
خلال العقود الماضية، التي أثقلتها سياسات التقشف المتكرر وخفض الإنفاق وجائحة كورونا والحروب والتضخم وأزمة كلف المعيشة، ظهرت أنماط جديدة من الحرمان تتخطى الفوارق الطبقية والحدود الجغرافية. فقد يبدو الفقر اليوم في صورة أسرة تسكن منزلاً شبه منفصل وبسيارة متوقفة أمامه، لكن مظاهر البؤس التقليدية، الواضحة التي لا يمكن تجاهلها، بدأت تعود لتفرض نفسها من جديد.
ووفقاً للبحث الشامل الذي أجرته مؤسسة جوزيف راونتري، فإن واحداً من كل أربعة أشخاص محرومون من أساسات الحياة، وواحداً من كل خمسة يعيشون في فقر مدقع بعد دفع كلف السكن. أما الرقم الأكثر صدمة فهو أن أكثر من واحد من كل 10، أي 11 في المئة من السكان، أو 7.5 مليون شخص، يجدون صعوبة في الحصول على الطعام.
وبحسب بيتر ماتيجيك، كبير المحللين في مؤسسة جوزيف راونتري: "لدينا بيانات عن الفقر تعود إلى عام 1961، والملحوظ أن معدلات الفقر بين العاملين والأطفال زادت بشكل كبير خلال الـ50 عاماً الماضية. لو قارنت صورة جماعية للفقراء قبل 50 عاماً بأخرى اليوم، ستجد خليطاً مختلفاً تماماً من الناس [من حيث الطبقة الاجتماعية والتعليم]. على رغم أن هناك جوانب تحسنت، مثل أن جودة المساكن اليوم أفضل بكثير مما كانت عليه آنذاك". وأضاف: "لكن، وبكل تأكيد خلال العقد الأخير تقريباً، فإن أشكال الفقر الأكثر وضوحاً والأعمق أثراً قد تفاقمت بالفعل. على رغم كل التقدم الذي حققناه، نحن الآن أمام انتكاسة حقيقية".
تتضح هذه الحقيقة بشكل خاص في المدارس حيث بات يستحيل إخفاء الفقر. وقد وثق تقرير حديث لاتحاد التعليم الوطني (NEU) واقع التدريس اليوم من خلال مشاهد صادمة يواجهها المعلمون، منها أن أكثر من ثلثهم يوفّرون شخصياً لطلابهم مستلزمات أساسية مثل معجون الأسنان والفوط الصحية والملابس الدافئة.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، نشرت "اندبندنت" تقريراً من مدرسة ابتدائية في لينكولنشاير، حيث يعيش أطفال صغار في ظروف يائسة لدرجة أنهم يسكنون في خيام، وتحول المعلمون إلى "مسعفين أوليين" بدلاً من مربين.
وأوضحت إحدى المعلمات التي وردت شهادتها في التقرير: "علينا أن نوفر الطعام والملابس، وأحياناً نغطي كلف تذاكر الحافلات. لم نعد نُدرس فحسب، بل أصبحنا ندير الأزمات".
في منتصف السبعينيات، كان 14 في المئة من السكان فقط يعيشون تحت خط الفقر النسبي، وهو الحد الرسمي المحدد عند 60 في المئة من متوسط دخل الأسرة بعد كلف السكن. أما اليوم، فقد ارتفعت النسبة في إنجلترا إلى 22 في المئة. ويوضح ماتيجيك أن هذا الفارق الكبير يرجع أساساً إلى عقد الثمانينيات، العقد المفصلي الذي تميز بارتفاع البطالة وإصلاحات ضريبية كبيرة، خصوصاً خفض معدلات الضرائب المفروضة على أصحاب الدخول الأعلى.
ويضيف ماتيجيك: "جرى تخفيض الضرائب بشكل كبير على ذوي الدخول المرتفعة، وفي الوقت نفسه شهدت الدخول في قمة الهرم نمواً واسعاً". ونتيجة لذلك، تراجع من هم في أسفل السلم الاجتماعي إما بسبب البطالة أو بسبب تخفيض الإعانات، بينما تقدم من هم في القمة بسرعة. وهكذا اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وكذلك بين ذوي الدخول المنخفضة والمتوسطة.
وعلى رغم فترات تحسن متقطعة، مثل تلك التي رافقت بدايات حزب العمال الجديد بعد انتخاب توني بلير عام 1997، فإن فترات التدهور كانت أكثر بروزاً. ويقول ماتيجيك: "لقد تضاعفت حالات العَوَز المُطلق بين عامي 2017 و2022". وبحلول نهاية عام 2022، كان 3.8 مليون شخص (من بينهم مليون طفل) يعانون هذا الحرمان، ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى قصور نظام الدعم الاجتماعي، وارتفاع كلف الأساسات، وتفاقم مستويات الدّين.
ويتابع: "كلما تعمقت في التفاصيل، ازدادت الصورة قتامة. العوز المطلق - الذي نُعرفه بالحرمان من اثنتين من سبع ضرورات كالطعام ومستلزمات النظافة والمأوى، أو انخفاض الدخل لدرجة تحول دون توفيرها - يتصاعد بوتيرة أسرع من الفقر المدقع نفسه".
حتى مستويات التوظيف القياسية لم تتمكن من تقليص معدلات الفقر، التي بقيت مستقرة أو ازدادت سوءاً لدى كثر. هناك أكثر من 8 ملايين شخص عالق في ما يُعرف اليوم بـ"فقر العاملين"، إذ أظهرت دراسة لمؤسسة الأجر المعيشي أن 60 في المئة من ذوي الأجور المنخفضة يتخطون وجبات بانتظام، فيما نصفهم متخلفون عن دفع فواتيرهم على رغم أنهم يعملون. الوضع بلغ حداً من الهشاشة جعل واحداً من كل ثلاثة عمال ذوي دخل منخفض يصف وضعه بأنه بات قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في أزمة حقيقية إذا واجهته "مصاريف غير متوقعة".
وقد أدت التخفيضات الإضافية في نظام الرعاية الاجتماعية، وبخاصة تلك التي تستهدف العاجزين عن العمل كالمعوقين ومقدمي الرعاية، إلى دفع ملايين آخرين تحت خط الفقر. وبين عامي 2010 و2020، شهدت الأسر الأشد فقراً انخفاضاً في دخلها بأكثر من 11 في المئة، بينما خسرت الأسر الأغنى اثنين في المئة فقط.
وعندما قارن معهد أبحاث السياسات العامة التخفيضات في أكثر وأقل 10 مجالس محلية حرماناً قبل أكثر من خمسة أعوام بقليل، وجدوا أن المناطق الأفقر تضررت بمعدل يزيد ستة أضعاف.
سقف إعانة الطفلين لا يزيد الوضع إلا سوءاً بالنسبة إلى ملايين الأطفال في المملكة المتحدة. التبرير الأصلي لهذه السياسة، التي تحرم الأسر من الدعم المالي للطفل الثالث وما بعده إذا وُلد بعد أبريل (نيسان) 2017، كان يقوم على فكرة تشجيع "المسؤولية" في التخطيط الأسري. لكن خفض الإعانة كان قصير النظر. فالقرار تجاهل تماماً واقع الحياة الحديثة: المرض، والانفصال، وفقدان الوظيفة، وغيرها من الأحداث غير المتوقعة التي قد تصيب أية أسرة وتجعلها في وضع هشّ ومعرّض للخطر. وليس من المستغرب أنه يطاول بشكل غير متناسب الفئات المهمّشة مثل الأمهات العازبات والأسر المنتمية للأقليات العرقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأسوأ في تفاقم الحرمان هو ما سيأتي لاحقاً: نحن الآن نُنشئ ملايين الأطفال في ظروف أقل فرصاً وأماناً، والأهم، أقل أملاً من الأجيال السابقة. وهذا ليس مجرد كلام بلاغي - إنها عودة حرفية إلى مستويات الفقر التي سادت في عصر كاتب الروايات ديكنز، تتجسد الآن في الفصول الدراسية والمطابخ على صعيد البلاد، وستستمر لأعوام مقبلة.
إلغاء هذه السياسة، كما يُجمع معظم المتخصصين، ضرورة حتمية لتحسين معدلات الفقر والحياة في بريطانيا الآن. وهذا التغيير الوحيد سيُخرج ربع مليون طفل من دائرة الفقر، ويُخفف وطأة المعاناة عن أعداد أكبر بكثير. لكن الأمر لا يمكن أن يتوقف عند هذا الحد، كما يؤكد ماتيجيك، موضحاً: "عليك الاستثمار في نظام الضمان الاجتماعي لخفض الفقر"، مثل رفع الإعانات بما يتماشى مع التضخم، واستعادة مخصصات الإعاقة المفقودة، وجعل أنظمة الدعم الشامل تعمل بانسجام مع - وليس ضد - إيقاع الحياة العملية.
إن الاستثمار في سوق العمل وفي المجتمعات التي تعيش على بنية تحتية هشة يجب أن يكون أولوية قصوى، فالمجالس المحلية استُنزفت، والمدارس مكتظة، والمستشفيات تتدهور، والمكتبات تكاد تكون معدومة. لكن، ولإحداث فرق حقيقي على المدى الطويل، لا بد من وجود خطة بعيدة المدى واضحة المعالم. اليوم، تكاد حركة الحراك الاجتماعي تتوقف، وحقوق العمال – ولا سيما أولئك العالقين في فخ عقود العمل الصفرية المجحفة – تشهد تراجعاً، أما الأجر المعيشي العادل فما زال بعيد المنال.
ما دام يُنظر إلى الفقر باعتباره فشلاً فردياً لا نتيجة لخلل هيكلي في النظام، فلن يتغير شيء. وحتى يتوقف الساسة عن استغلال المعاناة كسلاح في صراعاتهم، ويبدؤوا في التعامل معها بصدق وبإلحاح، ستظل الأوضاع معرضة لمزيد من التدهور.
قد يكون وجه الفقر قد تغير خلال الـ60 عاماً الماضية – أحياناً لدرجة أننا قد لا نتعرف إليه – لكن حالة انعدام الأمان والعجز والظلم التي يتسبب بها الفقر باتت أكثر إحكاماً وقبضةً من أي وقت مضى.
© The Independent