ملخص
يكشف تقرير مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون" أن أفريقيا كانت مسرحاً لحرب على الإرهاب أكثر من عقدين تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية، لكن نادراً ما نالت تغطية إعلامية، سواء من دون قصد أو ضمن الاستراتيجية المعتمدة التي كان يفترض أن تجلب الاستقرار والأمن وتعزيز القدرات المحلية، غير أن آثارها الميدانية كانت مدمرة، وحولت الجهود إلى حلقة من العنف وعدم الاستقرار السياسي والكوارث الإنسانية.
يشهد الوضع الأمني في أفريقيا تفاقماً ينذر بمستقبل "أسود" على رغم الجهود المبذولة في سياق تضييق الخناق على الجماعات الإرهابية وجلب الأمن والاستقرار وتعزيز القدرات المحلية في القارة السمراء، وأشار تقرير أميركي صدر حديثاً إلى أنه بدلاً من تقليل التهديد، زاد النهج العسكري الأميركي الأزمة تفاقماً في كثير من الحالات.
فشل تشغيلي وفشل مفاهيمي
وأوضح تقرير مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون"، أن تصاعد النشاط العسكري الأميركي من إنشاء قواعد عسكرية متقدمة، واستخدام طائرات مسيرة، والاعتماد على قوات خاصة وأسلحة متطورة، وتعزيز تدريبات الجيوش الحكومية المحلية، بدلاً من كبح جماح الجماعات الإرهابية، وفرت بيئة خصبة لتوسعها، مضيفاً أن الفشل ليس تشغيلياً فحسب، بل هو فشل مفاهيمي، على اعتبار أن العقيدة الأمنية الأميركية تعتمد على تقديم مساعدات عسكرية لحكومات حليفة في الحرب على الإرهاب، لكن كثيراً من هذه الأنظمة استخدمت التمويل والأسلحة الأميركية لقمع الأقليات العرقية أو الخصوم السياسيين، بدلاً من مواجهة الجماعات المسلحة.
تقرير "البنتاغون" اعترف بأن القيادة العسكرية الأميركية لأفريقيا "أفريكوم" التي تقود عمليات محاربة الإرهاب منذ عام 2002، كانت نتائجها مروعة حسب وصفه، إذ شارك 15 ضابطاً تدربوا على يد الأميركيين في 12 انقلاباً عسكرياً عبر القارة، مشيراً إلى أنه في مالي وبوركينا فاسو دمرت هذه الانقلابات المتتالية مؤسسات الحكم المنتخبة، وما يجري في النيجر مثال يثير الانتباه، ففي 2023 أطاح انقلاب قاده خمسة ضباط تلقوا تدريباً أميركياً الرئيس المنتخب ديمقراطياً، ومنذ ذلك الحين، تضاعفت أعمال العنف أربع مرات، ومع ذلك لا تزال "أفريكوم" تصر على أنها تحقق أهدافاً أمنية مشتركة.
ارتفاع الاعتداءات الإرهابية 60 في المئة
وذكر المصدر في توضيح لفشل الاستراتيجية الأميركية لمحاربة الإرهاب في أفريقيا، أنه بين عامي 2013 و2025، ارتفعت الوفيات الناجمة عن الاعتداءات الإرهابية بنسبة 60 في المئة، إذ قتل قرابة 155 ألف أفريقي بسبب الأنشطة الإرهابية، بخاصة في الصومال ومنطقة الساحل، وأبرز أن المناطق التي تسيطر عليها التنظيمات الإرهابية تمتد على مساحة 950 ألف كيلومتر مربع، أي ما يعادل مساحة تنزانيا، كما تضاعفت إيرادات حركة "الشباب" في الصومال لتصل إلى 200 مليون دولار سنوياً، ما يوازي موازنات بعض الولايات الصومالية الفيدرالية نفسها.
كما أن التدخلات الأميركية زادت الأزمة الأمنية سوءاً، إذ إنه في بعض المناطق أصبحت القوات المحلية المدعومة من واشنطن مسؤولة عن انتهاكات جسيمة، يضيف التقرير الذي أوضح أنه في مالي، تسببت القوات الأمنية في 82 في المئة من القتلى المدنيين في 2024، وفي بوركينا فاسو بلغت النسبة 41 في المئة، وشدد على أن هؤلاء الحلفاء لم يكونوا عوامل استقرار، بل تحولوا إلى وكلاء للفوضى.
الحل الأمني انتحار استراتيجي
في منطقة تعاني الفقر المدقع والإقصاء الاجتماعي وغياب البنية التحتية، وهي من العوامل التي تشجع على الانضمام إلى الجماعات المسلحة والإرهابية، يبدو الاعتماد الكلي على الحل الأمني انتحاراً استراتيجياً، ويقول التقرير إن 30 مليون شخص في الساحل يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة بنهاية 2025، لكن لم يتم توفير سوى ثمانية في المئة من المبلغ المطلوب والمقدر بـ4.3 مليار دولار، حسب الأمم المتحدة، وأبرز أن التركيز على العسكرة، أضعف النفوذ الأميركي في أفريقيا لمصلحة روسيا عبر مجموعة "فاغنر" ثم "الفيلق الأفريقي"، والصين من خلال البنى التحتية، ثم تركيا عبر التعاون الديني والأمني.
ويواصل التقرير أن الاستمرار في النهج الحالي يعني إضفاء الشرعية على حرب لا تنتهي، تزهق الأرواح وتضر بالمصالح الاستراتيجية، مشدداً على أن الحرب على الإرهاب في أفريقيا لا تربح بالسلاح وحده، بل بالسلام فقط.
ويكشف التقرير عن أن أفريقيا كانت مسرحاً لحرب على الإرهاب أكثر من عقدين تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية، لكن نادراً ما نالت تغطية إعلامية، سواء من دون قصد أو ضمن الاستراتيجية المعتمدة التي كان يفترض أن تجلب الاستقرار والأمن وتعزيز القدرات المحلية، غير أن آثارها الميدانية كانت مدمرة، وحولت الجهود إلى حلقة من العنف وعدم الاستقرار السياسي والكوارث الإنسانية.
غموض
وإن رافق إصدار "البنتاغون" تقريره حول نشاط قوات "أفريكوم" بعض الغموض حول أسباب ظهوره في هذا التوقيت بالذات، بين كشف حقيقة الأوضاع في القارة الأفريقية أو تبرئة الذمة أو الاستعداد للمرحلة المقبلة، غير أن الصحافي الاستقصائي الأميركي نيك تورس، أكد في تقرير على موقع "ذي أنترسيبت"، أن المساعي الأميركية لمكافحة ما تسميه الإرهاب في أفريقيا لم تثمر سوى مزيد من الموت والدمار، لا سيما في المناطق التي شهدت الوجود العسكري الأميركي الأبرز، مثل الصومال ومنطقة الساحل في غرب أفريقيا، مضيفاً أن تقرير "البنتاغون" يعد التقييم الأسوأ حتى الآن لنتائج التدخلات العسكرية الأميركية في القارة الأفريقية.
وأشار الكاتب إلى أن ما نشر في التقرير المذكور ينسجم مع ما قاله قائد القيادة الأفريقية في الجيش الأميركي السابق، مايكل لانجلي، خلال مؤتمر صحافي في يونيو (حزيران) الماضي، حين قال إن منطقة الساحل في غرب أفريقيا أصبحت مركز الإرهاب والتهديد الإرهابي الأخطر للأراضي الأميركية.
صدور بعد تعيين
واللافت أن التقرير صدر بعد مصادقة مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع في الـ31 من يوليو (تموز) الماضي، على تعيين الجنرال داغفين أندرسون، مرشح الرئيس دونالد ترمب، قائداً للقيادة الأميركية في أفريقيا "أفريكوم"، خلفاً للجنرال مايكل لانجلي، وما يثير الانتباه في الخطوة أن الوافد الجديد يعد أول ضابط في سلاح الجو الأميركي يتولى قيادة هذه المؤسسة العسكرية منذ تأسيسها قبل 18 عاماً، مما فتح أبواب التساؤلات والتأويلات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن مسيرته العسكرية تمنح بعض الإشارات حول أسباب التعيين، إذ إنه من يونيو 2019 إلى يوليو 2021 قاد أندرسون العمليات الخاصة في أفريقيا، تحت السيطرة العملياتية للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا "أفريكوم"، وهي المهمة التي شهدت اختباراً صعباً في يناير (كانون الثاني) 2020 عندما هاجم عشرات من عناصر حركة "الشباب" الصومالية منشأة عسكرية أميركية في "خليج ماندا" بكينيا، مما أسفر عن مقتل جندي أميركي واثنين من المتعاقدين الأميركيين.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2020 شاركت عناصر من القوات الجوية الخاصة في عملية مشتركة مع وحدة "سيل تيم 6" التابعة للبحرية الأميركية لتحرير مواطن أميركي اختطف في النيجر، ونفذت العملية بنجاح من دون خسائر أميركية، بينما قتل ستة من الخاطفين.
تصريحات تكشف النيات
وعلى رغم الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس محمد بازوم، واضطرار واشنطن إلى إخلاء قاعدتها الجوية في "أغاديز"، يرى أندرسون أن العلاقات مع النيجر لم تنهر بالكامل، وقال إن "العلاقات التي بنيناها مع الجيش في النيجر على مدى عقود لا تزال قائمة، وعندما يحين الوقت المناسب، أعتقد أن هناك فرصة، لكن تحديد ذلك الوقت يتطلب تقييماً دقيقاً".
وفي جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ، أوضح أندرسون بخصوص مسيرته، أن "هذه الخبرة تتيح لي فهماً أعمق للتهديدات التي تواجه وطننا ومصالحنا وقواتنا، إضافة إلى الفرص المتاحة في جميع أنحاء القارة الأفريقية لتعزيز المصالح الأميركية"، محذراً من أن روسيا والصين تريان مستقبلهما يمر عبر القارة، إذ سلط الضوء على شبكة الصين المتنامية عسكرياً، وسعيها نحو موانئ ذات استخدام مزدوج على المحيط الأطلسي، التي اعتبرها مقلقة للأمن البحري الأميركي، ووصف أفريقيا بأنها مركز تنافس القوى العظمى.
وأشار أندرسون إلى أن النفوذ الروسي وعمليات المعلومات الروسية كانت حاسمة في تأليب الشعوب ضد الفرنسيين في منطقة الساحل، لافتاً إلى أن "ما يقوم به الروس في مجال المعلومات ليس من مصلحتنا إطلاقاً"، وأجاب رداً على سؤال عما إذا كانت الولايات المتحدة تخسر معركة الحقيقة، بالقول إن "الحقيقة قوية للغاية، علينا أن نكون أكثر حزماً، إذا لم نشارك، فإننا نخاطر بفقدانها"، مبرزاً أنه سيبحث عن طرق مبتكرة لتعميق التعاون مع الدول الشريكة.
الفشل يعكس أزمة منهجية عميقة
وفي السياق يعتبر الباحث في الشؤون الأمنية والعلاقات الدولية أحمد ميزاب، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن تقرير البنتاغون كشف هشاشة الاستراتيجية الأميركية في مواجهة الإرهاب بأفريقيا، وأن الفشل ليس حادثاً عابراً، بل يعكس أزمة منهجية عميقة تتجاوز مجرد أداء القيادة العسكرية، وقال إن قوات "أفريكوم" التي تشكل العمود الفقري للتدخل الأميركي، أظهرت محدودية الخيارات العسكرية المبنية على الضربات الجوية والمساعدات اللوجيستية، ولم تعالج جذور المشكلة، مثل ضعف المؤسسات والفساد المستشري والفقر المتزايد والنزاعات المحلية المستمرة، وهي عوامل أساسية تغذي الإرهاب والتطرف في المنطقة.
وبخصوص تغيير رئيس "أفريكوم" بعد صدور التقرير، فإنه يحمل رمزية واضحة، يعتقد ميزاب، الذي أوضح أنه يمثل رسالة صارمة للجيش الأميركي بأن الأداء مطلوب ومحاسب، داخلياً، ويسعى إلى إظهار قدرة واشنطن على استعادة المبادرة على المستوى الخارجي، مشيراً إلى أن الفشل ليس نتاج قائد واحد، بل نتيجة إطار استراتيجي غير متكامل، وشدد على أن التغيير التكتيكي قد يحقق بعض الحركة على الأرض، لكنه لن ينجح إذا استمرت السياسات نفسها من دون إعادة تقييم شاملة، مضيفاً أن المؤشرات الأخيرة تدل على أن واشنطن قد تفكر في إعادة توجيه تدخلاتها، من التركيز على العمليات العسكرية المباشرة إلى دعم محلي أعمق وبناء قدرات مؤسساتية، وهو ما قد يشكل خطوة نحو مقاربة أكثر استدامة.
تحول استراتيجي واختبار نوعي
من جانبه يعتقد الحقوقي آدم المقراني في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن فشل واشنطن في مواجهة الإرهاب في أفريقيا، والإقدام على تغيير قيادة "أفريكوم"، يجسدان تحولاً استراتيجياً واختباراً نوعياً في مقاربة السياسة الأمنية الأميركية تجاه القارة السمراء، وقال إن تغيير قيادة "أفريكوم" هو محاولة لإعادة الهيكلة وإدخال أدوات جديدة في المعركة، خصوصاً توسيع نطاق الطلعات الجوية والمراقبة من بعد، وربما إشارة إلى إعادة تقييم النهج المتبع سابقاً، والتركيز على عنصر جديد أكثر فاعلية.
يمكن اعتبار هذا الحدث ترجمة عملية لقرار سياسي أوسع يقضي بتحميل الشريك الأفريقي مزيداً من المسؤولية الأمنية، وتقليص الهامش الأميركي المباشر، على أمل تحفيز قدرات محلية أكثر ديمومة وفاعلية، مشيراً إلى أن التحديات كبيرة، لكن المقاربة الجديدة ترمي إلى معالجة الوقائع التي فرضتها الأعداد المتصاعدة للعمليات الإرهابية.