Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أوجه التشابه للصراعات العرقية في تركيا وإيران

أسباب الأزمات الحالية في دول الشرق الأوسط تكمن في الحرمان والتهميش والقمع واستبعاد الشعوب

يشكل الأكراد حوالى 20 في المئة من سكان تركيا (أ.ف.ب)

  لم نسمع كثيراً عن عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني "ب ك ك" منذ سجنه عام 1999 حتى وقت قريب، عندما سمحت السلطات التركية له بالزيارات.

منذ أن بدأ "ب ك ك" الكفاح المسلح عام 1984، مطالباً بحق تقرير المصير، تمهيداً لـ"استقلال كردستان تركيا"، فقد سُفكت دماء كثيرة من كلا الجانبين، ويدّعي "ب ك ك" أن أكثر من 40 ألف كردي قُتلوا، إضافةً إلى الجنود والمواطنين الأتراك. هذا، بينما يشكل الأكراد حوالى 20 في المئة من سكان تركيا البالغ عددهم 80 مليون نسمة. 

لكن في 3 يوليو (تموز) 2019، حصل تطور كبير في خطاب الحزب، إذ كتب جميل بايك، أحد مؤسسيه الخمسة وأقرب المقربين لأوجلان، مقال رأي في صحيفة "واشنطن بوست"، تحت عنوان "ها هي لحظة السلام بين الأكراد والدولة التركية... لا تضيعوها"، وكان من الواضح أنه ينقل رسالة من عبد الله أوجلان.

تاريخ الصراع

السيد بايك لخّص في مقالته محطات من تاريخ الصراع بين الدولة التركية والشعب الكردي، مستشهداً بأشكال لا حصر لها من التمييز والقمع ضد الأكراد في القانون وفي الممارسة العملية، منذ أن أسس أتاتورك تركيا الحديثة.

وأشار بايك إلى أن "الأكراد كانوا مخطئين في مواجهة التحديات وسذّج لاعتقادهم بأنّ القضية الكردية ستُحل فقط من خلال الحوار مع حزب أردوغان". وأعلن كذلك التزام حزبه التفاوض لإيجاد حل سياسي للقضية الكردية في إطار الجغرافيا التركية ووقف جميع أشكال الحروب الساخنة والباردة بين الأتراك والأكراد.

وبرأيي فإنّ ذلك، شكّل تحولاً جذرياً في الخطاب الكردي لصالح الأجيال المقبلة وفرصة لإحلال السلام على صعيد الصراع القائم ليس فقط في تركيا، بل في الدول المجاورة الأخرى، وربما لسائر الشعوب التي توصف بالأقليات في منطقة شرق الأوسط. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي جعل الأكراد في تركيا يغيرون من خطابهم بعد مضي عقود على ذلك؟

إذا نظرنا إلى الأزمات الحالية في دول الشرق الأوسط، نرى أن معظم الأسباب تكمن في الحرمان والتهميش والقمع واستبعاد الشعوب والقوميات والأقليات المضطهدة التي تعاني من تمييز ثقافي واقتصادي وسياسي وإقصائهم من إدارة الدولة والمشاركة السياسية.

6 قوميات رئيسة في إيران

 هناك أزمة مماثلة في إيران، بل أعتقد بأنها أعقد من مثيلتها في تركيا. فالأزمة في إيران مرشحة لتكون أكبر بكثير مما نراه في سوريا، بسبب التنوع العرقي والإثني الواسع، إذ هناك ما لا يقل عن 6 قوميات رئيسة في إيران وهي الفرس والأتراك والعرب والبلوش والأكراد والتركمان وهناك مكونات أصغر من المجموعات الإثنية/اللغوية والقبلية والأقليات الدينية.

ومع ذلك، فإن الفرس الذين يمثلون ثلث السكان تقريباً، يهيمنون سياسياً وثقافياً على البلاد ويحكمونه منفردين منذ عقود. ويمكن الجزم بأنه لا توجد مجموعة عرقية واحدة لديها الغالبية العددية في إيران.

بطبيعة الحال، فقد واجهت الدولة القومية الفارسية دائماً، تحديات من قبل القوميات التي تريد الحفاظ على وجودها أمام محاولات انصهارها القسري في بوتقة التفريس.

وفي المقابل، وصفت الحكومات الإيرانية المتعاقبة أي مطالبة مشروعة من جانب هذه الشعوب والأقليات القومية بـ"الانفصالية" أو بـ"العمالة لبلدان أجنبية" أو بـ"تهديد للأمن القومي ووحدة التراب الوطني الإيراني" وغيرها من المزاعم التي تستخدمها السلطات لتبرير كل أنواع القمع والاضطهاد والتمييز والتهميش التي تمارسها بحق هذه الشعوب.

إلاّ أنّ استمرار هذا النهج القمعي الإقصائي ضد الشعوب والأقليات القومية، هو بمثابة قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، مما سيؤثر في الأمن الإقليمي في المنطقة برمتها. وفي تركيا، يشكل تغيير نهج وخطاب "ب ك ك" تحولاً كبيراً، إذ سيؤثر بالطبع في المجتمعات الكردية الأخرى في العراق وسوريا وإيران. 

نهج جديد

ويحدث هذا في حين كانت الغالبية للتنظيمات الكردية الإيرانية توصلت منذ عقود إلى طرح حق تقرير المصير الوطني داخل إيران، أي ضمن إطار نظام جمهوري اتحادي لامركزي فيدرالي، فتعيش جميع القوميات العربية والتركية الآذرية والبلوشية والفارسية والتركمانية وغيرها، جنباً إلى جنب تحت ظل نظام ديمقراطي تعددي ودولة مسالمة، تُوزّع فيها السلطة والثروة على الجميع.

في الواقع، يمكن تطبيق هذا النهج الجديد وتوسيع نطاقه ليكون حلاً لإنهاء جميع الحروب والأزمات الحالية والنزاعات الداخلية في دول الشرق الأوسط.

 ولكن ما هي الطرق السلمية لمواجهة معضلة الشعوب والأقليات القومية؟ قبل كل شيء، ينبغي تحقيق الديمقراطية والسماح لهم بممارسة الحريات الاجتماعية والسياسية وتحسين أوضاعهم المعيشية.

واليوم، فقد أصبحت قضايا ومعضلات الشرق الأوسط معروفة للعالم بفضل الإنترنت والثورة المعلوماتية والتقنية وباتت هذه القضايا تفرض نفسها بقوة وتبحث عن حلول موضوعية وسلمية بدلاً من استمرار العنف وسفك الدماء. 

وترى الشعوب في إيران اليوم، اتساع المطالبات المتزايدة للفئات المهمشة في كل من العراق وسوريا وأفغانستان والمغرب العربي وباكستان والهند وأذربيجان وغيرها.

 ومن جانب آخر، ترى إقليم كردستان العراق، الذي حاول إعلان الاستقلال وتشكيل دولة مستقلة من خلال تطبيق حق تقرير المصير، إلاّ أنّه لم يتمكن من تحقيق ذلك.

 ونعلم جميعاً أن العالم بأسره والأمم المتحدة، وجميع الدول الغربية والإقليمية والحكومة العراقية وجميع الأحزاب السياسية، وقفت ضد استقلال كردستان العراق.

يمكن أن نستشف من ذلك، أن طرح حق تقرير المصير في الوقت الراهن بهدف الاستقلال، ليس مقبولاً لا داخلياً ولا إقليمياً ولا دولياً. ما الحل إذاً لمعضلة القوميات؟

تاريخياً، معظم الدول المتعددة الأعراق والقوميات حُكمت بشكل غير ديمقراطي وعلى أساس نظام شديد المركزية، لكن استقرارها كان دائماً مؤقتاً وكل هذه البلدان مهددة بسبب التمييز العرقي والثقافي والقومي بنشوب الصراعات عاجلاً أو آجلاً.

حق تقرير المصير

من جهة أخرى، تنص مواثيق وقرارات الأمم المتحدة وسياساتها العملية على أن حق تقرير المصير بغية الاستقلال لن يحدث إلاّ في حالات نادرة، مثل وقوع إبادة جماعية بحق الشعب المضطهد، وخلافاً لذلك، فإنّ الحدود الحالية التي رُسمت وفقاً لاتفاقية سايكس-بيكو، لا تزال غير قابلة للمساس. ولكن في الوقت ذاته، يُسمح للأقليات المضطهدة التي ترغب في ممارسة حق تقرير المصير أن تقوم بذلك داخل حدود الدولة المعترف بها دولياً.

 على أية حال، هناك إدراك لحقيقة وهي أن الأمم المتحدة التي دافعت منذ عقود عن حق تقرير المصير، لم تعد تدعم هذا المبدأ في الوقت الحاضر، أو بالأحرى، لا تتبناه على أقل تقدير كحل يفضي إلى تشكيل دول مستقلة. ووفقاً لآخر تفسيرات الأمم المتحدة، يمكن تطبيق هذا المبدأ ضمن حدود الدول القائمة حالياً.

وفي تقرير لخبراء الأمم المتحدة خلال مؤتمر أممي لعام 1998 عُقد في برشلونة تحت عنوان "تطبيق حق تقرير المصير كمساهمة في منع النزاعات"، قُدّم نوعان من هذا الحق، الأول حق تقرير المصير الداخلي والثاني حق تقرير المصير الخارجي.

ويُفسَّر حق تقرير المصير الداخلي على أنه يهدف إلى تقرير هوية وشكل هيئة الإدارة من قبل جميع مواطني الدولة، إلى جانب حق مجموعة سكانية معينة داخل تلك الدولة، بتطبيق الاستقلال السياسي والاقتصادي الذاتي والحقوق الثقافية واللغوية والدينية داخل حدود الدولة القائمة بشكل فيدرالي أو كونفدرالية أو حكم محلي أو حكم ذاتي أو أي ترتيب آخر يتوافق مع رغبات الشعب، على أن يتوافق مع سيادة أراضي الدولة وسلامتها.

ووفقاً لذلك، يمكن تقديم حق تقرير المصير كحل وكأداة لإدارة الأزمات للحؤول دون حدوث صراعات في الدول ذات التنوع القومي والعرقي والمذهبي.

وبرأيي، يُعد حق تقرير المصير الداخلي الذي يتبلور في الفيدرالية، الحل الواقعي الذي يمكن لشعوب وقوميات الشرق الأوسط من خلاله التحكم في شؤونهم الخاصة، وحماية حقوقهم والمحافظة على هوياتهم المميزة. كما ستتاح لهم الفرصة لتطوير ثقافاتهم ولغاتهم وتاريخهم واقتصاداتهم تحت مظاهر السيادة الإقليمية.

قد لا يرضي هذا الحل دعاة الاستقلال، إلاّ أنّه أفضل من الحروب الأهلية. ثم إنّ الفيدرالية فيها ضمانات دستورية لتطبيق حقوق الشعوب والقوميات بشكل تام مع ضمان حق تقرير المصير في المستقبل. هذا بينما لم يستطع الخطاب الراديكالي المتطرف في منطقتنا من تقديم حلول لتجنب المزيد من الحروب والصراعات ولم يدفع نحو التعايش السلمي ضمن المشاركة السياسية للجميع، مع ضمان الحقوق لمكونات الدولة المعترف بها ضمن منظومة الأمم المتحدة.

المزيد من آراء