Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القرار الأممي 181... وتصدع الجغرافيا والعدالة في فلسطين

زعماء الوكالة اليهودية لم ينظروا إليه كحل نهائي بل اعتبروه "فرصة تكتيكية" يبنى عليها لاحقاً لتحقيق السيطرة الكاملة على مزيد من الأرض

رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة أوزوالدو أرانا يعلن اعتماد الجمعية رسمياً تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين عربية ويهودية (غيتي)

ملخص

القرار 181 لم يمت، بل ما زال شبحه يخيم على المنطقة، بين تقسيم لم يكتمل، ودولة فلسطينية لم تولد، وكيان إسرائيلي لا يستطيع حسم شرعيته على رغم القوة. وإسرائيل، بعد 78 عاماً، ليست في ذروة انتصارها، بل في قمة تناقضها الوجودي، دولة قوية، لكنها فاقدة السلام، مشكوك في شرعيتها، ومعزولة أخلاقياً، ومتورطة في صراع لا مخرج له إلا بالاعتراف بالشعب الذي أنكرته منذ قرار التقسيم.

في خضم الحروب المشتعلة في المنطقة، ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وعلى خلفية حرب غزة، التي عرفت بـ"طوفان الأقصى"، أتى اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية، كمحاولة دولية من الناحية الشكلية لتقنين واقع متأزم، وفتح كوة في جدار الصراع ما بين إسرائيل والفلسطينيين منذ نحو 78 عاماً، وأعاد فتح النقاش حول مشروعية قيام إسرائيل على أنقاض نكبة لم تحل. واعتراف فرنسا (إلى جانب إيرلندا وإسبانيا عام 2024) بدولة فلسطين، ليس مجرد موقف رمزي، بل هو تحول نوعي في مواقف الغرب الأوروبي التقليدي، الذي كان تاريخياً أقرب إلى الرؤية الإسرائيلية.

ويأتي الاعتراف في وقت تواجه فيه إسرائيل أسوأ "صورها الأخلاقية" عالمياً، نتيجة حربها على غزة. وكان رئيس مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" في الأراضي الفلسطينية، جوناثان ويتال، وصف الأوضاع الكارثية الإنسانية المتفاقمة التي تعيشها غزة والضفة الغربية، بأنها "إجراءات انتقامية ضد العاملين في الوكالات الإنسانية".

أضاف ويتال أن تأشيرته لم تجدد بقرار إسرائيلي، وذلك بعد مؤتمر صحافي كان عقده تحدث فيه عن إطلاق النار على المدنيين المجوعين أثناء محاولتهم الوصول إلى الطعام. وأكد المسؤول الأممي، في تصريحات إعلامية، أن إسرائيل مارست منذ بداية الحرب سياسة العقاب الجماعي في حق سكان قطاع غزة، مشيراً إلى أن "غزة تواجه مجاعة جماعية"، وأن نحو 2.1 مليون شخص يجبرون على التكدس في 12 في المئة فقط من مساحة القطاع. ولفت ويتال إلى أن الناس يقتلون أثناء محاولتهم الوصول إلى الطعام، معتبراً الأمر بأنه "اعتداء يومي على الحياة والكرامة".

 

وفي تطور بارز اتهمت منظمتان إسرائيليتان رائدتان في مجال حقوق الإنسان إسرائيل "بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة"، لتصبحا بذلك أول منظمتين من هذا النوع توجهان هذا الاتهام. وأفادت منظمة "بتسيلم"، في تقرير لها، بأنها توصلت إلى هذا "الاستنتاج القاطع" بعد "فحص سياسة إسرائيل في قطاع غزة ونتائجها المروعة، إلى جانب تصريحات كبار السياسيين والقادة العسكريين الإسرائيليين حول أهداف الهجوم". في حين، أعلنت منظمة إسرائيلية أخرى، وهي "منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان" في إسرائيل، انضمامها إلى "بتسيلم" في وصف أفعال إسرائيل في غزة بالإبادة الجماعية. ونشرت تحليلاً قانونياً وطبياً منفصلاً يوثق ما سمته "إبادة متعمدة ومنهجية للنظام الصحي في غزة".

وكانت وزارة الخارجية الإسرائيلية قد رفضت التقرير، ووصفته بأنه "ذو دوافع سياسية"، كما الاتهامات التي اعتبرتها "فاضحة" و"لا أساس لها"، مؤكدة أن إسرائيل تستهدف "حماس" فحسب، وليس المدنيين، وتتخذ "إجراءات مكثفة" لتجنب إيذاء المدنيين أثناء تقديم المساعدات.

وفي السياق كانت ثلاث دول أوروبية وهي إسبانيا والنرويج وإيرلندا، قد اعترفت بالدولة الفلسطينية، في مايو (أيار) 2024، لتنضم إلى الدول التي تعترف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس، والتي أعلن عنها رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" الراحل ياسر عرفات في الـ15 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1988، في دورة المجلس الوطني الفلسطيني الـ19 التي انعقدت في قاعة قصر الصنوبر بالعاصمة الجزائر.

ومنذ ذلك الوقت اعترفت 139 دولة من بين 193 دولة عضواً بالأمم المتحدة، بفلسطين كدولة، من بينها الصين والهند ومعظم الدول العربية، وكل دول القارة الأفريقية، والكتلة السوفياتية السابقة، أي دول أوروبا الشرقية، كما اعترفت المجموعة المعروفة باسم "مجموعة فيشغراد" (جمهورية التشيك والمجر وبولندا وسلوفاكيا) كلها بفلسطين، لكنها على على رغم ذلك تعتبر من بين أشد المؤيدين لإسرائيل داخل الاتحاد الأوروبي. وفي عامي 2010 و2011، اعترفت معظم بلدان أميركا الوسطى واللاتينية بالدولة الفلسطينية، لكن ذلك الاعتراف يختلف بأنه لا يشير إلى حدود تلك الدولة، ومنحت الأمم المتحدة عام 2012 فلسطين صفة دولة مراقبة غير عضو.

القرار الدولي رقم 181

وبعد مرور 78 عاماً على القرار رقم 181، تقف إسرائيل عند مفترق وجودي حقيقي، يجمع بين أعلى درجات القوة وأعمق أشكال التآكل، فكيف بدأت القصة؟

وفقاً لموقع "الأمم المتحدة" أنه في يوم الـ29 من نوفمبر عام 1947، اتخذت الجمعية العامة القرار 181 (د-2)، الذي أصبح يعرف باسم "قرار التقسيم"، بموافقة 23 دولة ورفض 13 وامتناع 10 دول. وقد نص القرار على أن تنشأ في فلسطين "دولة يهودية"، و"دولة عربية"، مع اعتبار القدس كياناً متميزاً يخضع لنظام دولي خاص. ومن بين الدولتين المقرر إنشاؤهما بموجب هذا القرار، لم تظهر إلى الوجود إلا دولة واحدة هي إسرائيل. ويعيش الشعب الفلسطيني، الذي يبلغ تعداده ما يزيد على 8 ملايين نسمة، أساساً في الأرض الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية، وفي إسرائيل، وفي بلدان عربية مجاورة، وفي مخيمات اللاجئين بالمنطقة.

 

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين تحت الانتداب البريطاني، واندلاع مواجهات متكررة بين العرب واليهود، أحالت بريطانيا المسألة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة عام 1947، فشكلت الأخيرة لجنة UNSCOP (اللجنة الخاصة في شأن فلسطين)، التي أوصت بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، مع تدويل القدس.

من الناحية القانونية، قرارات الجمعية العامة ليست ملزمة قانونياً مثل قرارات مجلس الأمن، لكنها تحمل وزناً سياسياً وأخلاقياً، وتعد تعبيراً عن الإرادة الدولية، كذلك فإن القرار اعترف بحق اليهود والعرب على حد سواء في تقرير المصير داخل أرض فلسطين التاريخية.

من وجهة نظر القانون الدولي القرار حاول موازنة الحقوق القومية للطرفين، لكن من دون توافق شعبي فلسطيني أو عربي عليه. وبطبيعة الحال رفض العرب والفلسطينيون القرار رفضاً قاطعاً، معتبرين أنه غير عادل لأنه يمنح أقلية (اليهود) أكثر من 55 في المئة من الأرض على رغم أنهم كانوا لا يملكون إلا سبعة في المئة منها. في المقابل، قبله قادة اليهود على مضض، باعتباره قاعدة انطلاق لقيام الدولة، لا كحد نهائي.

لكن المفارقة الكبرى أن الفلسطينيين، الذين رفضوا القرار آنذاك، باتوا اليوم يستندون إليه في مطالبهم، بعدما صار وجودهم وتاريخهم أمام ماكينة محو ممنهج، ليس فقط جغرافياً، بل رمزياً، وعلى صعيد الهوية.

وثيقة أميركية تتحدث عن "عواقب تقسيم فلسطين"

جاء القرار 181 الذي دعا إلى التقسيم، كمنصة شرعية متعثرة، من الناحية الشكلية، لكنه كان، أيضاً، قراراً مشروعاً من ناحية الاعتراف بالدولتين، وجائراً من ناحية التوزيع والانحياز الظاهر لمصلحة المشروع الصهيوني. ومع أنه لم ينفذ بالكامل فقد منح إسرائيل غطاءً شرعياً دولياً أولياً ساعدها في إعلان دولتها عام 1948. وفي وثيقة أميركية بعنوان "عواقب تقسيم فلسطين" أصدرتها "وكالة الاستخبارات المركزية" يوم الـ28 من نوفمبر 1947، ورفعت عنها السرية، وصدرت قبل يوم واحد من التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على خطة تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية على النحو الذي أوصت به لجنة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بفلسطين UNSCOP، تناولت الارتدادات المحتملة لقبول الأمم المتحدة بخطة تقسيم فلسطين على المنطقة، وأهمها اندلاع القتال بين "العرب واليهود"، وعدم قدرة اليهود على الصمود أكثر من عامين "من دون مساعدات خارجية من ناحية القدرات البشرية والمادية"، وتأثير ذلك كله في "هيبة" الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخطورته المحتملة على العلاقات الأميركية - العربية والعلاقات الأميركية - السوفياتية، في ذلك الوقت.

وتوقعت الوثيقة أن تندلع الأعمال القتالية المسلحة بين اليهود والعرب إذا ما قبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية. وأشارت إلى أن "العرب في سوريا ولبنان والعراق والأردن ومصر والسعودية إضافة إلى فلسطين، وبدافع القومية والحماس الديني، مصممون على مقاومة أي قوة، أو مجموعة من القوى، تحاول إقامة دولة يهودية في فلسطين".

وربما يعيد تفعيل القرار 181، ليس باعتباره مرجعية تقسيم الأرض، بل كوثيقة اعتراف دولي بوجود الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره، عزل إسرائيل دبلوماسياً في بعض المحافل، وإرباك روايتها التي تتحدث عن انعدام "شريك فلسطيني" في التسوية. ومع اعتراف دول أوروبية بدولة فلسطين، وتزايد عزلة إسرائيل "الأخلاقية"، يمكن القول إن التاريخ يعيد فحص شرعية نتائج 1948، من خلال الدماء التي سفكت منذ ذلك الوقت وحتى اليوم.

 

الجغرافيا المعقدة

اقترح القرار توزيع فلسطين كما يلي: دولة يهودية: 55.5 في المئة من الأرض، كانت ستشمل السهل الساحلي من حيفا حتى جنوب تل أبيب، والجليل الشرقي بما في ذلك بحيرة طبريا وإصبع الجليل، والنقب بما في ذلك أم الرشراش (إيلات حالياً).

الدولة العربية: 44.5 في المئة، كانت ستشمل الضفة الغربية الحالية، والجليل الغربي، ومدينة عكا، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود وجنوباً حتى رفح، مع جزء من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر. في حين وضعت كل من القدس وبيت لحم، تحت إدارة دولية Corpus Separatum كان الهدف من هذا الاقتراح هو منح القدس وبيت لحم وضعاً خاصاً بسبب أهميتهما الدينية المشتركة.

لم تكن الدولتان العربية واليهودية متصلتين جغرافياً، بل تخللتهما ممرات ومعازل، مما جعل التقسيم عملياً صعب التنفيذ. واحتوت الدولة اليهودية على نسبة كبيرة من الأراضي الصحراوية (النقب)، بينما الدولة العربية كانت أكثر كثافة سكانية وأقل موارد.

الدوافع وراء قبول "الوكالة اليهودية" بالقرار

تفاعلت "الوكالة اليهودية لأجل إسرائيل" مع القرار 181 بصورة براغماتية ورحبت به في العلن، على رغم أنه لم يمنحها كل ما كانت تطمح إليه من الأرض والسيادة. وفي اليوم التالي لصدور القرار (30 نوفمبر 1947)، أعلنت "الوكالة اليهودية" قبولها الرسمي به. ووصفت القرار بأنه "خطوة تاريخية نحو تحقيق تطلعات الشعب اليهودي في العودة إلى وطنه القومي". وعبرت عن امتنانها للأمم المتحدة والدول التي صوتت لمصلحة القرار، وبدأت على الفور التحضير لإنشاء المؤسسات التي تقود نحو إعلان الدولة.

وعلى رغم أن القرار لم يمنح اليهود كل فلسطين، فقد قبلته "الوكالة اليهودية" لأسباب استراتيجية، منها، أنه الاعتراف الدولي الأول بحق اليهود في إقامة دولة، وهو مكسب ضخم سياسياً ومعنوياً، وفرصة لتعزيز الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين تحت غطاء دولي. وتعاملت مع القرار كمجرد مرحلة أولى، وليس كحدود نهائية. وأشار زعماء الحركة الصهيونية، في ذلك الوقت، مثل ديفيد بن غوريون، في خطاباتهم الخاصة إلى إمكان التوسع لاحقاً إذا سنحت الظروف.

وفي تصريح علني، في ديسمبر (كانون الأول) 1947، قال بن غوريون، "لقد منحتنا الأمم المتحدة الحق القانوني والأخلاقي في إقامة دولة يهودية مستقلة، وسنقاتل لحماية هذا الحق". لكنه اعتبر، في اجتماع داخلي للوكالة أن "الدولة اليهودية في جزء من أرض إسرائيل ليست نهاية الطريق، بل بداية… لدينا الآن قاعدة نستطيع منها التوسع عندما تسنح الظروف"، وعلى هذا المنوال كان التعامل اليهودي مع القرار، أمام العالم يقبل، ويشاد به، وفي الداخل يلمح إلى النيات التوسعية مستقبلاً. وهذا يعكس براغماتية سياسية واعية تستثمر اللحظة الدولية من دون التخلي عن المشروع الصهيوني الأوسع، والقبول بالممكن الآن، بانتظار توسيع الممكن لاحقاً بالواقع العسكري والسياسي. وبعد القرار، بدأت الوكالة في إنشاء هياكل الدولة اليهودية وأجهزة إدارية وأمنية وتعليمية. وشكلت قوات "الهاغاناه" النواة العسكرية للدفاع عن "الدولة المقبلة"، واستثمرت في إقامة البنى التحتية، وتكثيف الاستيطان في المناطق التي خصصها القرار للدولة اليهودية.

الموقف من تدويل القدس

أبدت الوكالة قبولاً رسمياً بتدويل القدس كما جاء في القرار، لكنها، عملياً، لم تتخل عن تطلعها لجعل القدس "عاصمة للدولة اليهودية". ولاحقاً، في 1948، وبعد احتلال الجزء الغربي من القدس، أعلنت الحكومة الإسرائيلية الوليدة ضمها إلى الدولة.

وتكشف الوثائق والمراسلات الداخلية عن أن زعماء "الوكالة اليهودية" لم ينظروا إلى القرار كحل نهائي، بل اعتبروه "فرصة تكتيكية" يبنى عليها لاحقاً لتحقيق السيطرة الكاملة على مزيد من الأرض. وهو ما حدث فعلياً خلال حرب 1948، حين استولت القوات الإسرائيلية على 78 في المئة من فلسطين بدلاً من 55.5 في المئة التي خصصها القرار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"استعمار جديد"

وقابل الفلسطينيون والعرب القرار 181 برفض حاسم وقاطع، سياسياً وشعبياً، واعتبروه ظلماً تاريخياً ومقدمة لاستعمار جديد شرع الاستيلاء على الأرض الفلسطينية لمصلحة أقلية مهاجرة. هذا الرفض لم يكن عاطفياً فحسب، بل استند إلى اعتبارات قانونية وتاريخية وديموغرافية، ورافقه رد فعل شعبي ومسلح امتد حتى اندلاع أول حرب عربية - إسرائيلية عام 1948.

ورفضت "الهيئة العربية العليا لفلسطين"، بقيادة الحاج أمين الحسيني، القرار بصورة قاطعة. ووصفت التقسيم بأنه اعتداء على حق الفلسطينيين في تقرير المصير، بخاصة أنهم كانوا يشكلون ثلثي السكان ويملكون أكثر من 90 في المئة من الأراضي، كما رفضت مبدأ إعطاء دولة ليهود مهاجرين حديثي العهد بفلسطين.

وكان أن اندلعت احتجاجات واسعة في المدن والقرى الفلسطينية فور صدور القرار. وتصاعدت أعمال المقاومة المسلحة ضد المستوطنات اليهودية والطرق الحيوية، وبدأت مرحلة حرب أهلية غير معلنة داخل فلسطين. ونظر للقرار كتمهيد للنكبة، وقد عبر الفلسطينيون عنه في شعاراتهم وبياناتهم بأنه تقسيم باطل وجائر فرضه المجتمع الدولي بقوة الأمر الواقع.

إضافة إلى الموقف الفلسطيني، كان هناك إجماع على الرفض من قبل الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة آنذاك (مصر، سوريا، لبنان، العراق، السعودية، اليمن) التي صوتت ضد القرار. وأكد ممثلو تلك الدول أن القرار يمثل انتهاكاً صارخاً لحق العرب في وطنهم، وأنه لن يؤدي إلا إلى الحرب والدمار.

وعلى أثر ذلك عقد "مؤتمر بلودان" في سوريا في ديسمبر 1947، ضم ممثلي الدول في الجامعة العربية الذين أكدوا رفض القرار وعدم الاعتراف بأي تقسيم لفلسطين، ودعم الفلسطينيين بالمال والسلاح لرفض المشروع بالقوة. ولاحقاً تم تشكيل لجان دعم عربية في كل دولة. وبدأت الجيوش العربية بالتحضير للتدخل فور انسحاب بريطانيا، وهو ما حصل بالفعل في مايو 1948 مع إعلان قيام إسرائيل. وتشكل "جيش الإنقاذ العربي" بقيادة فوزي القاوقجي لدخول فلسطين قبل الجيوش النظامية.

دوافع الرفض العربي والفلسطيني

شكل بند انعدام العدالة في التوزيع، أي القرار الذي أعطى 55.5 في المئة من الأرض لليهود، على رغم أنهم لا يملكون إلا سبعاً في المئة منها، وكانوا أقلية سكانية (نحو 33 في المئة)، أحد أهم أسباب الرفض العربي للقرار. كما أن القرار المذكور لم يستفت سكان فلسطين حول مستقبلهم السياسي، مما خالف مبدأ تقرير المصير. أضف إلى ذلك أن القرار لم يضمن حماية السكان العرب في الدولة اليهودية، مما أثار خشية مشروعة من الاقتلاع والترحيل، وهو ما حدث لاحقاً في النكبة.

إعلان إسرائيل دولتها

كانت النظرة العامة أن إسرائيل ستكون رأس جسر للنفوذ الغربي، تماماً كما حدث في تجارب استعمارية أخرى. وجاءت النتائج المباشرة للرفض أن فشل مشروع التقسيم عملياً، واندلعت حرب 1947-1948، بعد إعلان إسرائيل قيام دولتها في الـ15 من مايو 1947، مما أدى إلى تدخل جيوش الدول العربية وبدء الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى، التي انتهت بتهجير نحو 750 ألف فلسطيني، واحتلت إسرائيل 78 في المئة من أرض فلسطين، وبعدم قيام الدولة الفلسطينية التي نص عليها القرار، بل بدأت مأساة اللجوء والشتات، أو ما عرف بالنكبة الفلسطينية.

إلى أين انتهى القرار؟

بالنسبة إلى الفلسطينيين والعرب حينذاك، فإن القرار 181 كان مشروعاً استعمارياً مقنعاً، يكافئ الأقلية على حساب الأكثرية، من دون أي اعتراف بالحقوق التاريخية والسياسية للسكان الأصليين. وكان الرفض متماسكاً سياسياً وشعبياً، لكنه افتقر إلى التنظيم الاستراتيجي الموحد، مما أدى إلى تفوق المشروع الصهيوني بدعم دولي مباشر. وبعد أكثر من سبعة عقود، ما زال هذا القرار يستحضر سياسياً كدليل على تقصير المجتمع الدولي في إنصاف الفلسطينيين، على رغم اعترافه الضمني بوجودهم ككيان سياسي.

تمرد الجغرافيا على الهندسة السياسية

ليست الحرب الدائرة حالياً، بخاصة في غزة، مجرد رد فعل على "هجوم حماس"، بل هي انفجار تراكمي للصراع الذي لم يحل منذ قرار التقسيم. فغزة تمثل نقيضاً مادياً لقرار التقسيم، فهي محاصرة، مسحوقة، ومبعدة عن أي تصور لسيادة فلسطينية حقيقية. ولبنان وسوريا لا ينفصلان عن السياق، فالجبهة الشمالية تظهر هشاشة أمن إسرائيل على رغم تفوقها، وتؤكد أن القوة العسكرية لا تحسم الشرعية ولا تنهي المطالب التاريخية. و"المقاومة" المتعددة الجبهات تعني أن إسرائيل، على رغم احتلالها المتواصل، لم تنجح في "هندسة شرق أوسط جديد" كما كان مأمولاً منذ التسعينيات. وتقف إسرائيل اليوم، بين القوة والتآكل مع غياب أفق سياسي، لا سلام، ولا حل الدولتين، ولا قدرة على الحسم الكامل. وهي دولة بلا حدود معترف بها، تعيش فوق جغرافيا مشكوك في شرعيتها من منظور القانون الدولي، وتمارس سيطرة على شعب لا يعترف بها ولا يسلم بوجودها.

من هذا المنطلق فإن القرار 181 لم يمت، بل ما زال شبحه يخيم على المنطقة، بين تقسيم لم يكتمل، ودولة فلسطينية لم تولد، وكيان إسرائيلي لا يستطيع حسم شرعيته على رغم القوة. وإسرائيل، بعد 78 سنة، ليست في ذروة انتصارها، بل في قمة تناقضها الوجودي، دولة قوية، لكنها فاقدة للسلام، مشكوك في شرعيتها، ومعزولة أخلاقياً، ومتورطة في صراع لا مخرج له إلا بالاعتراف بالشعب الذي أنكرته منذ قرار التقسيم.

المزيد من تقارير