Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من ضجيج الطفولة إلى منازل صامتة: العائلة اللبنانية تتقلص

بين ضيق المساحات واتساع الضغوط تغيرت عقلية الإنجاب بصورة جذرية في لبنان

تراجعت معدلات الخصوبة في لبنان وانخفض المعدل من خمسة أطفال لكل امرأة عام 1971 إلى نحو 1.72 طفل بحلول 2015 (صورة مصممة عبر الذكاء الاصطناعي)

ملخص

يشهد لبنان والعالم العربي تحولاً عميقاً في البنية العائلية، وباتت ظاهرة الطفل الواحد أكثر حضوراً. هذا التغيير لا تفسره فقط الأزمة الاقتصادية، لكنه يرتبط بجملة من التحولات الاجتماعية والثقافية. من صغر المساحات، وعمل المرأة، والخوف من المستقبل، والانبهار بنموذج العائلة الغربية. وبينما ينخفض معدل الخصوبة ويتقدم سن الزواج، يصبح الإنجاب خياراً معقداً، محكوماً بالظروف، وليس بالرغبات وحدها.  

كثيراً ما كانت بيوتنا تضج بأصوات الأطفال في لعبهم ومشاغباتهم، والحيطان مليئة ببصماتهم وخربشاتهم، أخوة وأخوات يملأون البيوت فيزيائياً وعاطفياً وعملانياً. لم تكن العائلة اللبنانية يوماً تعرف ما معنى الصمت في البيت، فقبل نصف قرن كانت الضحكات تتقاطع في أروقة المنازل، والأسماء قد تنسى لكثرتها، والموائد لا ترفع إلا بعد أن تفرغ صحون خمسة أطفال أو أكثر. كان يكفي أن تفتح نافذة بيت في الخمسينيات والستينيات حتى تسمع ضحكات 10 أطفال. أما اليوم، فتفتح النوافذ على صمت مريب، وعلى طفل وحيد تتكفل التكنولوجيا بتسليته. إذ تكاد صورة العائلة تقتصر على طفل واحد، أو اثنين أو ثلاثة كحد أقصى. فكيف ولماذا تغيرت الخريطة الديموغرافية للعائلة؟ وما الذي جعل الطفل الواحد يتحول من استثناء إلى قاعدة صامتة في لبنان وعدد من الدول العربية؟ وكيف انتقلنا من بيوت تضيق بأقدام الصغار إلى أسر تتفاخر بالاكتفاء بطفل أو اثنين؟ هل هي أزمة اقتصادية صرفة؟ أم تحول في نظرتنا للحياة وللأمومة وللمستقبل؟ وهل تحررت المرأة من ضغط الإنجاب أم استبدلت ضغطاً بآخر؟

أسباب الاكتفاء بطفل واحد

التحولات الاقتصادية والضغوط الاجتماعية وتكاليف التربية والتعليم، ليست سوى قمة جبل الجليد. وخلصت دراسة منشورة في مجلة BMC Public Health عام 2023 تحت عنوان "الانتشار العالمي للأسر المكونة من طفل واحد" إلى أن العائلات ذات الطفل الواحد أصبحت ظاهرة متنامية عالمياً، وبلغ معدل انتشارها 41.3 في المئة، وذلك وفقاً لتحليل شمل 33 دراسة من قواعد بيانات علمية مرموقة.

أما سبب هذه الظاهرة فيعود لعوامل متعددة، أبرزها الضغوط الاقتصادية، وتدني الدخل، والمستوى التعليمي، وحالة التوظيف، مما يجعلها نتيجة تفاعل مركب بين الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وتوصي الدراسة صناع القرار بوضع سياسات ديمغرافية مدروسة لمواجهة تداعياتها وآثارها المحتملة في النمو السكاني والتوازن المجتمعي.

بدوره، يشهد لبنان تراجعاً كبيراً في معدلات الخصوبة منذ السبعينيات، إذ انخفض المعدل من نحو خمسة أطفال لكل امرأة في عام 1971 إلى نحو 1.72 طفل بحلول 2015، مما جعل لبنان ضمن فئة "المعدلات السكانية المنخفضة جداً"، بحسب تعريف المنظمة العالمية للصحة. أما بحسب بيانات البنك الدولي، فسجل المعدل نحو 2.26 طفل عام 2022، وانخفض إلى 2.239 عام 2023. هذه التحولات السكانية توجه لبنان نحو "مرحلة ثالثة" من التحول الديموغرافي، مصحوبة بسرعة شيخوخة السكان وتراجع النمو، مما يثير مخاوف في شأن توازن التركيبة السكانية وإمكانية بقاء جيل يسهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

اندثار البنية الريفية الزراعية

كذلك لم تعد العائلة اللبنانية كما كانت، إذ تحولت من بنية ريفية زراعية تنجب الأطفال لتوزعهم على الحقول، إلى عائلة حضرية بالكاد تجد متسعاً لطفل في غرفة أو في جدول الحياة. ففي الماضي، كان الطفل يعد يداً عاملة إضافية، واستثماراً مستقبلياً في الزراعة، وكل مولود جديد كان يعني موسماً أقوى وحصاداً أوفر. ولكن المدينة قلبت العقول وغيرت كل شيء، فالشقق أصغر والإيجارات أعلى والمدارس أغلى.

كما دخلت الأمهات سوق العمل، ولم يعد لديهن طاقة لتربية 10 أبناء. والمسؤولية التربوية لم تعد تقليدية، بل صارت مزيجاً من القلق التربوي والضغط الاجتماعي، إضافة إلى التحديات النفسية. وأمام هذا كله، لم يعد الإنجاب فعل تكاثر، إنما فعل اختيار دقيق، طفل واحد تستثمر فيه العائلة وقتها وقلقها وأحلامها، وتؤمن له الدراسة اللازمة والنشاطات المتعددة.

إضافة إلى عامل آخر يعتري الأبوين، وهو الخوف من المستقبل ومن عدم الاستقرار، وأحياناً من الهجرة القسرية والأزمات الاقتصادية المتلاحقة، ومن إنجاب طفل لا يمكن تأمين أدنى حقوقه. ففي بلد تتآكل فيه البنى التحتية والتربوية والاجتماعية سؤال واحد يقض مضاجع الأهل، كيف يمكننا إنجاب طفل إلى هذا الجحيم؟

منيمال العائلة

فهل ما يجري من مينمال (الترند الممتد منذ فترة) هو لصالح الفرد والمجتمع والعائلة، أم هو تفكيك ناعم للأسرة بعد تقليص عددها، والاكتفاء بفرد طفل واحد يرث كل شيء وحده من خصال أهله ومدخراتهم وأصولهم؟ ولو سألنا الأطفال إن كانوا يريدون أن ينالوا كل شيء من ماديات ومعنويات وحدهم أم يتقاسمونها مع أخوة وأخوات، فماذا سيكون الجواب؟

لا يريد ليو (سبع سنوات) أخاً أو أختاً، ويقولها بكل ثقة إنه يريد كل الدلال له وكل الألعاب، حتى أنه لا يريد لخالته أن تتزوج وتنجب الأطفال ليحصل على كل الهدايا وحده. فهل هذا إدراك ما أم مجرد دلال فائض؟ من جهتها تطالب ماريا (ست سنوات) أهلها بأن يكون لديها أخ أو أخت، وتعامل كل الأطفال كأنهم أخوتها، حتى أنها تسمي دماها بأنها أخوتها الصغار وتخاطبها على هذه الأساس، فهل هذا توق لسد فراغ العائلة؟

أمومة على حافة الرغبة

مقدمة البرامج اللبنانية مجدلا خطار طرحت في برنامجها موضوع متلازمة الطفل الوحيد، وهي شخصياً لديها طفلة واحدة. وتقول إنها عندما تزوجت من الإعلامي روني مهنا، دخلت الحياة الزوجية بحلم واضح، أن تبني عائلة. لم تكن بحاجة إلى وقت مستقطع بين الزواج والأمومة، بل شعرت منذ اللحظة الأولى أن العائلة هي ما تريده بالكامل. "تزوجنا في أيار 2015، وكنا نعلم أننا لا نريد الانتظار. بعد أربعة أشهر، حملت بماريتا". وتصف تلك المرحلة وكأنها حلم جميل، خال من المتاعب، محاط بالحب، ومليء بالترقب الجميل. "فترة حملي كانت من أهدأ المراحل في حياتي، عشناها بشغف، وحاولنا أن نستمتع بكل لحظة. لم يكن هناك ما يدفعني للتردد لاحقاً، بل كنت مستعدة، قلبياً وجسدياً، لأن أكون أماً مرة ثانية".

لكن الحياة لا تسير دوماً وفق الترتيب العاطفي للأمنيات، فبعد سنوات قليلة، ومع نضوج فكرة الطفل الثاني، اجتاحت جائحة كورونا العالم، وانقلب الاستقرار إلى خوف، والخطط إلى قلق. "على رغم أننا كنا خارج لبنان، لكن كل ما يحدث في البلد كان يؤلمنا. شعرت بأن العالم بات مكاناً هشاً، ولم أعد أعلم إن كنت أملك الحق في أن أحضر طفلاً جديداً إلى هذه الفوضى". تتحدث مجدلا عن المرحلة التي بدأت فيها تتراجع فكرة إنجاب طفل ثان، وتقول إن الخوف والتردد اللذين شعر بهما زوجها انتقلا إليها أيضاً، إذ كانت تشعر بنوع من الضمانة بوجوده، ولأنه كان متردداً، وأصبحت هي أيضاً أكثر حذراً، فيما كانت في داخلها راغبة بشدة في أن يكون لديهما طفل ثان.

وكان روني يشعر بثقل المسؤولية، وهذا العبء غالباً ما يكون أكبر على الرجال. وعلى رغم ذلك، تؤكد مجدلا أنها كانت مستعدة نفسياً لأن تصبح أماً من جديد، ليس فقط من أجلها، بل من أجل ابنتها ماريتا أيضاً التي ولدت عام 2016. "فوجود أخ أو أخت هو أمر مهم وأساس، خصوصاً في أوقات الأزمات، إذ يصبح الإخوة ملجأ لبعضهم بعضاً، كما حصل معنا في تجربة العائلة خلال أصعب الظروف".

شعور الوحدة يزداد حضوراً

ثم بدأت ماريتا تكبر، ومع كل سنة، كان شعورها بالوحدة يزداد حضوراً. تتذكر مجدلا كيف كانت ابنتها تعبر، بطريقتها، عن حاجتها إلى أخت أو أخ. فكانت ترسم عائلتها مؤلفة من أربعة أشخاص، وفي فترة أخرى كانت تحمل دمية وتعتني بها وتقول إنها أختها الصغرى. وفي مرحلة متقدمة، بدأت تتحدث بوضوح أكثر، تطلب أخاً أو أختاً وتقول إنها بحاجة إلى من يكون معها، حتى وصلت إلى أن تصلي أن يكبر بطن والدتها لتنجب، وكان من الصعب والمؤلم على مجدلا تفسير أن هناك احتمالاً حقيقياً ألا يكون لماريتا أخ أو أخت.

تعترف مجدلا أن شرح هذا الأمر لطفل هو تحد كبير، لكنها تؤمن بضرورة الحوار المفتوح مع الأولاد، كما تنص عليه أسس التربية الحديثة. وتؤكد أن غصة تلازمها كونها لا تزال تحلم ومستعدة للإنجاب، وتقول "هذا ليس قراراً فردياً، بل مشتركاً بين الشريكين".

نصيحة تبرد القلوب

في موازاة ذلك، لم تتوقف مجدلا عن البحث عن إجابات، لا كأم فقط، بل كامرأة مثقفة وإعلامية. فخلال تقديمها برنامج تلفزيوني، تناولت موضوع الطفل الوحيد، وكانت مقدمته لسان حالها، إذ تساءلت عن الصراع الذي تعيشه وإن كانت اكتفت بطفل واحد. وردت أنها اكتفت، وسألت إن كانت ابنتها اكتفت من الأخوة لتجيب "أكيد، لا". واستضافت عائلة لديها طفل وحيد، واستشارية نفسية وتربوية ناقشت الأثر العاطفي والاجتماعي لهذه التجربة، وكيفية تربية الطفل الوحيد بطريقة متزنة.

وما قالته الاختصاصية منح مجدلا راحة داخلية، فعدد الأبناء لا يصنع العائلة، بل الحب وإرساء الحدود، والصدق في التربية. وأن يكون الطفل وحيداً لا يعني أن يكون معزولاً أو مدللاً بطريقة مفرطة تؤذيه في مستقبله، بل يمكن أن ينشأ بشخصية متوازنة ومستقلة.

"الحديث طمأنني كثيراً، والطريقة التي طرحت بها الأمور منحتني يقيناً أن التربية السليمة لا تتعلق بعدد الأولاد، بل بالمنهج الذي نزرعه فيهم، فالخطأ يبقى خطأ والصواب هو الصواب، سواء كان لدي طفل واحد أو أربعة. القواعد والمبادئ التي أضعها لطفلتي، لو طبقتها بعدل ووضوح، فهي ستجعلها تنمو قوية، غير مدللة ولا ضعيفة، بل قادرة على مواجهة الحياة بشخصيتها المستقلة".

تضيف مجدلا "في حياتي، عرفت أشخاصاً نشأوا من دون إخوة، لكنهم لم يشعروا أبداً بالنقص. كانت صداقاتهم صادقة، وأهاليهم سنداً حقيقياً لهم. فالوحدة لا تقاس بالأعداد، بل بالصلات الإنسانية". وتتحدث عما يقلقها "هاجسي الوحيد هو ألا تثقل ماريتا وحدها بحمل مسؤوليتنا، نبذل أنا وروني اليوم أقصى ما بوسعنا كي لا نحتاج إلى أحد في كبرنا".

وتختم "يبقى أن ما لا يعرفه كثيرون هو أن الناس تمارس ضغطاً لا يحتمل على الأهل، وخصوصاً على الأزواج الذين لديهم طفل واحد، وكأنهم مطالبون بالتبرير الدائم. يسألون بأسئلة عابرة، لكنها جارحة. فلا أحد يعلم ما الذي نمر به، أو لماذا لم نرزق بطفل ثان. هناك أسباب شخصية، صحية، أو نفسية، وقد لا يرغب الأزواج حتى بمشاركتها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الغربة وأسباب أخرى

من جهتها تحدثت نور نعيم فرحات الحاصلة على ماجيستر بالتربية التقويمية عن تجربتها مع الأمومة، بعد أن أنجبت طفلتها سارة في 2021. وتصنف سارة اليوم ضمن فئة الأطفال الموهوبين، ولاحظ هذا عدد من المختصين الذين تعاملوا معها، من بينهم معلمون واختصاصيون نفسيون. وقد أظهرت منذ عمر مبكر قدرات لافتة، فهي تتحدث أربع لغات، وتعرف عواصم العالم منذ كان عمرها سنة ونصف سنة، وتتميز بذاكرة قوية جداً. إضافة إلى ذلك، أبدت ميولاً موسيقية واضحة، وقدرة تحليلية مدهشة، إذ يمكنها حل ما يزيد على ألف قطعة بازل لوحدها من دون مساعدة، ولدى نور صفحة على "إنستغرام" تشارك فيها نشاطات ابنتها.

 في البداية، لم يخطر لنور أن تكتفي بطفل واحد، لكن مع مرور الوقت، ومع تقدم ابنتها بالعمر، بدأت تدرك حجم الالتزام الذي يتطلبه تربية طفل واحد فقط، من وقت وجهد واهتمام. تعيش نور مع زوجها وابنتها في تشيكيا، وتقول إن الحياة في بلد يفتقر إلى الدعم العائلي، إذ لا يوجد جدة أو خالة أو عمة إلى جانبها، جعل القرار أكثر واقعية، إذ لم يكن هناك من يمكن الوثوق به أو الاعتماد عليه في الرعاية. لذا، وبسبب تلك الظروف، اتخذت هي وزوجها قرار الاكتفاء بطفل واحد.

وأشارت إلى أنها في مرحلة لاحقة من حياتها، بدأت تشعر برغبة حقيقية، لا مجرد حاجة، في وجود طفل ثان. هذه الرغبة تبلورت بصورة أوضح بعد انتهاء فترة كورونا، خصوصاً بعد السنة الأولى ونصف السنة من حياة طفلتها، التي شهدت عزلة اجتماعية وصعوبة في الاندماج. "خلال تلك الفترة، فكرت كثيراً في أهمية وجود أخ أو أخت يمكن أن يخفف وطأة هذه العزلة. وأعتقد أن وجود إخوة قد يخلق بيئة أكثر دفئاً وغنى، لم تكن ظروف العمل والمعيشة تسمح لها ولزوجها بالمضي قدماً في هذا القرار".

وتطرقت نور إلى نظرة الناس لمسألة الطفل الوحيد، إذ يمنح المجتمع الأهل نوعاً من العذر حين يكون لديهم أكثر من طفل، بحجة أن كل طفل له طبع مختلف ومحفزات خاصة. أما في حالة الطفل الوحيد، فإن التوقعات تصبح مضاعفة، وكأن مستقبل الطفل هو امتحان للأهل أنفسهم، نجاحه يحسب لهم، وإخفاقه يعد خيبة.

وأضافت أنها من جانبها تعاني بعض الوساوس القهرية، مما جعل تجربة الأمومة أكثر إنهاكاً. إلا أن معرفتها بأساليب التربية ساعدتها في التعامل مع ابنتها بطريقة أكثر وعياً، لكنها في الوقت نفسه، لم تخف شعورها بأن هناك ضغطاً قد لا تتمكن من رؤيته بعين الأم فقط، ضغط لا يرى لكنه موجود، وربما يقع على الطفلة أيضاً. وكأن تربية الطفل الوحيد تشبه إلى حد كبير لعبة حظ أو رهان، إذ يشعر الأهل بأن مستقبلهم كله معلق على هذا الطفل، إن نجح، شعروا بأنهم ربحوا، وإن لم يكن كما تمنوا، شعروا بأنهم خسروا كل شيء، وكأنهم خذلوا أنفسهم وخذلتهم الحياة في آن.

بين العودة وأحضان العائلة

تقول نور إن العزلة التي عاشتها ابنتها سارة أثارت بداخلها هوساً وخوفاً دائماً من أن تكبر ابنتها وحيدة، بلا أصدقاء، بلا أقارب، بلا أخ أو أخت. شعرت وقتها بضغط نفسي كبير، لدرجة أنها فكرت جدياً بالعودة للبنان، لتكون قريبة من العائلة، على أمل أن تجد من يساندها في رعاية الطفلة، إلا أنها لاحقاً أدركت أن تلبية احتياجات طفلتها العاطفية والاجتماعية، كأن تنشأ ضمن عائلة متماسكة، هي من أهم حاجات الطفولة التي لم تكن متاحة في واقعها الجديد.

وبحكم غياب المحيط العائلي، قررت أن تعوض ذلك عبر المشاركة بأنشطة حسية واجتماعية مع طفلتها. من الالتحاق بصفوف اللعب المناسبة لعمرها، إلى محاولات متكررة للاندماج مع أطفال آخرين. وكلما زارت لبنان، كانت تسعى إلى إدخالها في نشاطات عائلية، فقط كي تختبر نوعاً من الانتماء الاجتماعي، الذي نفتقده في عدد من الدول، وخصوصاً في البلد الأوروبي الذي تقيم فيه.

لكن واقع الهجرة، كما وصفته نور، لا يشبه الحنين. فالرعاية الاجتماعية في كثير من الدول، وإن توفرت، تفتقر للدفء الإنساني والعلاقات المتجذرة. أما في لبنان، فالوضع لا يطمئن لا اجتماعياً ولا اقتصادياً، مما يجعل التفكير بالإنجاب بحد ذاته مجازفة.

مشكلة إجازة الأمومة وتأثيرها

تعتبر نور أن جيل الأمهات الحديث أكثر وعياً، إذ يدرك أهمية التأثير النفسي والاجتماعي في الطفل، ويستثمر في تنمية شخصيته لا فقط عبر التربية التقليدية، بل من خلال التعليم واللعب والأدوات التحفيزية والكتب.

ورأت أن شكل "العائلة التقليدية" تغير، بسبب ضيق المعيشة من ناحية، ونتيجة الوعي المتزايد، خصوصاً لدى النساء من ناحية أخرى. فالمرأة باتت تطمح للاستقلال ولحرية القرار لتحقق ذاتها، وهذا يشمل رغبتها في العمل والمساهمة خارج المنزل. وحتى في العائلات الميسورة، بات الطرفان يعملان، ليس لمجرد الحاجة المالية، إنما لقناعة شخصية.

وانتقدت نور القصور القانوني الذي لم يوفر للمرأة فرصة أمومة كافية، فبينما هناك دول تمنح الأم إجازة تصل إلى ثلاث سنوات أو في الأقل 18 شهراً لرعاية طفلها، لا يزال هذا الحق مفقوداً في لبنان. وهي ترى أن غلاء المعيشة سبب حقيقي عند غالبية الناس، لكنه ليس الجذر الأعمق للمشكلة، بل السياسات الحكومية التي لم تحم حق الأم والطفل.

أما نظرة المحيط، فكانت بالنسبة إليها مثقلة بالأحكام. لم يتقبل الجميع قرارها بالاكتفاء بطفل واحد، وكأن هذا الخيار يحتاج إلى تبرير دائم. كانت تشعر أن هناك شكاً دفيناً في عيون الآخرين، كأنهم يظنون أنها ستندم، أو أنها لم تفكر جيداً. كانت تحاول الرد بلطف أو بطريقة غير مباشرة، لكنها لمست دوماً أن المجتمع لا يزال غير مستعد لتقبل هذا النوع من الخيارات. ورأت أن مفهوم "نوعية الحياة" يختلف من شخص إلى آخر، فهناك من يراه في تلبية كل طلبات الطفل من الألعاب والسفر، إلى تقليد الأقران. وهناك من يراه أعمق من ذلك، بتأمين تعليم جيد ورعاية صحية مناسبة، إضافة إلى تعريف الطفل على ثقافات أخرى وتوسيع أفقه.

النوعية وليس الكمية

تقول نور إن الجانب المادي في قرارها بالاكتفاء بطفل واحد، لم يكن يوماً دافعاً أو عائقاً، إذ إن عمل زوجها جيد جداً، مقارنة بمستوى المعيشة في تشيكيا حيث يقيمون. والمدارس هناك مجانية، حتى التعليم الجامعي، فيما تتوفر الطبابة بصورة معقولة. من هذا المنطلق، لم يكن الجانب المادي مرتبطاً بصورة أو بأخرى بقرار إنجاب طفل آخر.

أما عن صورة الأمومة في لبنان والعالم، فترى نور أن هذا المفهوم تغير بصورة جذرية، نحو الأفضل في رأيها، إذ بات التركيز اليوم على النوعية وليس الكمية. لم يعد الهدف إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال، بل إنجاب طفل واحد أو اثنين يمكن رعايتهما بصورة فعالة. تقول إنها لم تكن تريد فقط أن تنجب طفلاً بل أن تربي إنساناً طموحاً، يحقق أثراً طيباً في مجتمعه.

وأشارت إلى ارتفاع نسبة المتعلمين في لبنان، خصوصاً أولئك الذين يكملون دراستهم الجامعية، مقارنة حتى بدول متقدمة حيث التعليم مجاني، خلق وعياً أعلى بين الأهالي اللبنانيين، وأصبح الطموح والرغبة في تربية أطفال واعين أكثر انتشاراً. وهكذا بات المجتمع أكثر تقبلاً لخيارات الأسر، خصوصاً تلك التي تختار إنجاب طفل واحد أو اثنين فقط. التغيير لم يأت من فراغ، بل من صعوبة الواقع، ومن ازدياد الحالات المشابهة في المحيط، حتى أصبحت هذه النماذج أكثر شيوعاً وبالتالي أكثر قبولاً.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات