ملخص
كيف تمكن ترمب، في غضون بضعة أشهر فقط، من تصوير استراتيجية المواجهة والسياسات الاقتصادية غير السليمة على أنها نجاح حتى مع أوروبا.
بينما تعرضت الصفقة لانتقادات واسعة من الجانب الأوروبي، إذ اعتبرها بعضهم دليلاً على ضعف الاتحاد الأوروبي واستسلامه لمطالب ترمب، وعدم قدرته على الرد بفعالية.
بعد أسابيع قليلة من إظهار القوة والتحدي، تحول الاتفاق التجاري مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالنسبة إلى بعض سياسيي أوروبا إلى هزيمة مهينة وإذلال، بل عده رئيس وزراء فرنسا يوماً "أسود للاتحاد الأوروبي"، ومع ذلك لم يكن باستطاعة الأوروبيين الحصول على صفقة أفضل، بعدما هددهم الرئيس الأميركي بمضاعفة التعريفات الجمركية إن شرعوا في الانتقام، مما يعني أن تكتيك ترمب عبر خطابه التهديدي والتفاوض بالضغط القسري أثمر مرة أخرى، مثلما فعل من قبل مع كل من اليابان وبريطانيا، فما سر نجاح سياسة ترمب؟ ولماذا يصعب تحدي سياسته تلك؟
عصر جديد
قبل عودة ترمب لمنصبه، حافظت أكبر علاقة تجارية ثنائية في العالم بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، التي وصلت قيمتها إلى تريليوني دولار سنوياً، على مستويات تعرفة جمركية منخفضة بصورة عامة، إذ بلغ متوسط معدل التعرفة الجمركية الأميركية 1.47 في المئة للسلع الأوروبية، بينما بلغ متوسط معدل التعرفة الجمركية في الاتحاد الأوروبي 1.35 في المئة للمنتجات الأميركية، وفقاً لمركز "بروغل" للأبحاث في بروكسل. لكن هذه العلاقة التجارية الهادئة والمستقرة بين اقتصادين يشكلان معاً 44 في المئة من الاقتصاد العالمي أصبحت من الماضي، وبدأت القوتان عصراً جديداً مختلفاً تماماً.
مع وصول ترمب إلى البيت الأبيض، اتهم الاتحاد الأوروبي باستغلال أميركا مراراً على أساس أن الفائض التجاري للاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة تجاوز 230 مليار دولار، مما يعني أن الأميركيين يشترون من الشركات الأوروبية أكثر مما يشتريه الأوروبيون من الشركات الأميركية، التي تغطي جزءاً من الفجوة التجارية بتفوقها على الاتحاد الأوروبي في مبيعات الخدمات.
ولهذا سارع الرئيس الأميركي إلى التحدي في الثاني من أبريل (نيسان)، الذي وصفه بيوم التحرير، حين أعلن من حديقة الورود بالبيت الأبيض رسوماً جمركية جديدة تضمنت 20 في المئة على الاتحاد الأوروبي، مما دفع المسؤولين الأوروبيين إلى التهديد برد مماثل، وخططوا لذلك بالفعل إذا لم تسفر المفاوضات عن حل متوازن، لكن إقناع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (27 دولة) باستجابة موحدة وشاملة كان صعباً منذ البداية، إذ ضغطت الدول المختلفة لحماية صناعاتها الحيوية.
تكتيكات التهديد مثمرة
مع مرور الأشهر مارس ترمب تكتيكه التجاري بكفاءة، فازدادت حدة تهديداته بالرسوم الجمركية، إذ هدد لفترة وجيزة بفرض رسوم جمركية بنسبة 50 في المئة على الاتحاد الأوروبي، ثم تعهد لاحقاً بفرض رسوم جمركية بنسبة 30 في المئة إذا فشل مسؤولو الاتحاد في التوصل إلى اتفاق.
في البداية، رفض مسؤولو الاتحاد الأوروبي هذه الأرقام واعتبروها مجرد مناورات تفاوضية، كما انتقد دبلوماسيون ومسؤولون الاتفاق الذي أبرمته بريطانيا مع ترمب، الذي فرض فيه رسوماً جمركية بنسبة 10 في المئة، معتقدين أن الاتحاد الأوروبي بكل ما لديه من اقتصاد ضخم وفقاً للمنطق السائد، يعني أن لديه النفوذ الكافي للدفع نحو معدل تعريفات جمركية أفضل في المفاوضات.
وبالفعل، سعى المسؤولون الأوروبيون إلى التفاوض على خفض الرسوم الجمركية الشاملة التي فرضها ترمب إلى أقل من 10 في المئة مما كان سائداً قبل هذا العام، وعندما أدركوا أن ذلك غير واقعي، استهدفوا الوصول إلى 10 في المئة، لكن مع بروز جدية ترمب عبر المناقشات مع فريقه خلال الأسابيع الأخيرة، شرع المفاوضون الأوروبيون ببطء في وضع خطة استقرت على نسبة 15 في المئة، تماشياً مع عدد من شركاء أميركا التجاريين الآخرين، وبعدما أدركوا أن العالم الذي كان قائماً قبل الثاني من أبريل قد ولى، وأن أوروبا ببساطة بحاجة إلى التكيف، وهو ما تجلى مساء الأحد الماضي، عندما التقت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، الرئيس ترمب في ملعب غولف باسكتلندا حيث جرى التوصل إلى اتفاق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هزيمة وإذلال لأوروبا
فور إعلان الاتفاق، شعر بعض السياسيين الأوروبيين بالاستياء لعدم سعي الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق أكثر حزماً، واعتبر سياسيون أن الاتفاق أسوأ لأوروبا مما توقعه أي مسؤول رفيع المستوى في الاتحاد قبل بضعة أسابيع فقط، وحتى الاتفاق النهائي تطلب مزيجاً من التنازلات والمداهنة لدرجة أن رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو وصفه على وسائل التواصل الاجتماعي بأنه "يوم أسود لأوروبا"، كما وصف وزير فرنسي آخر الاتفاق بأنه "غير متوازن"، ونشر برلماني أوروبي من بلجيكا تدوينة تساءل فيها عما حدث لأوروبا، في حين وصف الباحث في مركز الإصلاح الأوروبي في لندن أسليك بيرغ رد الفعل الأولي بأنه هزيمة سياسية وإذلال للاتحاد الأوروبي.
وبحسب رئيسة وحدة السياسة الاقتصادية في مركز دراسات السياسات الأوروبي سينزيا ألسيدي، تبدو الصفقة أيضاً أسوأ مما تمكنت المملكة المتحدة من تأمينه، وهي رسوم جمركية بنسبة 10 في المئة، ولكن وفقاً للمنطق الترامبي، كان من السهل تحقيق صفقة المملكة المتحدة التي تعاني عجزاً في تجارة السلع مع الولايات المتحدة، ولم تكن هدفاً أميركياً، بينما قدم الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على أنه أساسي لترمب، وعكس بوضوح المصالح الأميركية، وأعطى انطباعاً بأن الاتحاد الأوروبي تعرض لضغوط لتقديم تنازلات لأنه في المحصلة النهائية يرفع الرسوم الجمركية على سلع الاتحاد الأوروبي من 1.2 في المئة العام الماضي إلى 17 في المئة.
فوز سياسي لترمب
اعتمدت الإدارة الأميركية بصورة منهجية على قوتها المهيمنة، ولم تتردد في استخدام الإكراه لانتزاع شروط مواتية من شركائها التجاريين، بمن فيهم الاتحاد الأوروبي، وهي استراتيجية تثير لدى الأوروبيين مخاوف جدية في شأن عدالة العلاقات الدولية، وقابلية التنبؤ بالتجارة العالمية، وصدقية الولايات المتحدة كشريك موثوق.
ولذلك ينظر إلى الاتفاق على نطاق واسع على أنه فوز سياسي كبير لترمب وهزيمة للاتحاد الأوروبي، مما يؤثر سلباً في صورة أوروبا محلياً وعالمياً، فضلاً عن أن هذا الاتفاق يكرس نهجاً قائماً على العدوان والإكراه، ويضفي عليه الشرعية، ويكافئ تكتيكات من شأنها أن تقوض الثقة والتعاون بين الحلفاء على ضفتي الأطلسي.
وإضافة إلى ذلك، فإن التعريفات الجمركية، التي كثيراً ما لطخت في الماضي سمعتها كأداة اقتصادية فظة ومدمرة، تعاد صياغتها الآن كأدوات سياسية فعالة، ينبغي على الاتحاد الأوروبي استخدامها أيضاً، وهو ما يثير الدهشة حول كيف تمكن ترمب، في غضون بضعة أشهر فقط، من تصوير استراتيجية المواجهة والسياسات الاقتصادية غير السليمة على أنها نجاح حتى مع أوروبا.
لكن بالنسبة إلى ترمب، يحقق الاتفاق مكاسب متعددة ليس أقلها أن شركات الاتحاد الأوروبي ستشتري الغاز الطبيعي والنفط والوقود النووي من الولايات المتحدة على مدى ثلاثة أعوام بقيمة 750 مليار دولار (638 مليار يورو)، لتعويض إمدادات الطاقة الروسية التي تسعى أوروبا إلى الخروج منها على أية حال، إذ كان الاتحاد الأوروبي لا يزال يستورد نحو ملياري متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال من روسيا، أي نحو ربع ما يستورده من أميركا، وفقاً لمركز "بروغل" للأبحاث، وإذا ساعد ضغط ترمب في إنهاء واردات الوقود الأحفوري من روسيا، فسيكون هذا أمراً جيداً لأوروباً.
كما ستستثمر الشركات الأوروبية 600 مليار دولار إضافية (511 مليار يورو) في الولايات المتحدة، لكن التزامات الاستثمار لا تزال غامضة، إذ ليس من الواضح ما الفترة الزمنية التي يفترض أن تنفذ خلالها هذه الاستثمارات.
صفقة سيئة، ولكن
يعترف الأوروبيون بأنها صفقة سيئة للاتحاد الأوروبي، لكنها لا تزال أيضاً تطوراً إيجابياً، مقارنة بتهديد ترمب فرض رسوم جمركية بنسبة 30 في المئة، وتحول الوضع إلى كارثة تهدد ببدء حرب تجارية شاملة ومدمرة عبر الأطلسي. وبدلاً من ذلك وجد مسؤولو الاتحاد الأوروبي أنفسهم في موقف دفاعي، كان أفضل الخيارات فيه القبول برسوم جمركية على معظم الصادرات الأوروبية بنسبة 15 في المئة، مع إلغاء الرسوم الجمركية على السيارات الأميركية وبعض المنتجات الزراعية إلى الصفر.
ومع ذلك، يترك إعلان ترمب وفون دير لاين عدداً من التفاصيل المهمة في الاتفاق من دون أن تستكمل. وعلى رغم أن معدل التعرفة الجمركية الجديد هو 15 في المئة، إلا أنه يشمل حتى الآن نحو 70 في المئة من السلع الأوروبية المستوردة إلى الولايات المتحدة، بما في ذلك السيارات ورقائق الكمبيوتر والأدوية، وهذا أقل من نسبة 20 في المئة التي اقترحها ترمب في البداية، وأقل من تهديداته بفرض 50 في المئة ثم 30 في المئة، ولا يزال ثلث السلع مفتوح لمزيد من القرارات والمفاوضات.
كما اتفق الجانبان على إعفاء كليهما من التعريفات الجمركية على مجموعة من السلع الاستراتيجية، مثل الطائرات وقطع غيارها وبعض المواد الكيماوية ومعدات أشباه الموصلات وبعض المنتجات الزراعية وبعض الموارد الطبيعية والمواد الخام الأساسية.
شكوك في الأفق
لا شك في أن المستثمرين سيشعرون بالارتياح لأن أكبر علاقة تجارية في العالم أصبحت الآن على أسس أكثر استقراراً، ومع ذلك لا تزال هناك بعض الشكوك، فالاتفاق بحاجة إلى موافقة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وستخالف قائمة السلع المعفاة من الرسوم الجمركية لوائح منظمة التجارة العالمية، مما يشكل تحدياً للمسؤولين الأوروبيين الملتزمين بالقواعد.
كما لا يزال بإمكان ترمب رفع الرسوم الجمركية على بعض المنتجات، فعلى سبيل المثال، لا يزال الرئيس مهتماً بأسعار الأدوية، ويريد أن يتحمل الأميركيون فواتير أقل، ويجري حالياً تحقيق في واردات الأدوية الأميركية، وقد يدفعه ذلك إلى فرض رسوم جمركية على الأدوية المصنعة في الخارج، مما سيضر بالدنمارك وأيرلندا.
وبينما تعرضت الصفقة لانتقادات واسعة من الجانب الأوروبي، إذ اعتبرها بعضهم دليلاً على ضعف الاتحاد الأوروبي واستسلامه لمطالب ترمب، وعدم قدرته على الرد بفعالية، فإن الواقع أكثر تعقيداً، إذ يكمن التحدي الحقيقي في صوغ التفاصيل، فمن دون وثائق ملزمة قانوناً، يبقى الباب مفتوحاً لسوء التفسير، وهو ما تجلى أخيراً مع الاتفاق الأميركي - الياباني، الذي أبرم على عجل قبل بضعة أيام، وأثار بالفعل تفسيرات مختلفة، ويمكن أن يحدث الأمر نفسه بسهولة مع الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
ومما يزيد الأمور تعقيداً أن الاتفاق يتجاوز التجارة التقليدية، وما لم تجر صياغة تعهدات عمليات الشراء والاستثمار واسعة النطاق التي يصعب على كلا الجانبين الوفاء بها رسمياً في عقود ملزمة التي ستشمل جهات فاعلة من القطاع الخاص، فإنها لا تعتبر التزامات قابلة للتنفيذ.
علاوة على ذلك، لا أحد يعلم ما إذا كانت تهديدات أخرى بفرض رسوم جمركية ستنشأ، متى وأين يمكن أن يبدي الرئيس استياءه، وإذا كانت أوروبا حققت سلاماً تجارياً في الوقت الحالي لكن حب الرئيس ترمب للرسوم الجمركية لا حدود له.