ملخص
لا مسافة تفصل الملهاة عن الميلودراما في مسرحية "كما تشاء" لويليام شكسبير، والتي كانت خياراً فنياً لافتاً للفنانة مريم علي في إطار إشرافها على عروض المعهد العالي للفنون المسرحية.
حافظت المخرجة السورية على الخيار المتحفي لنص الشاعر الإنجليزي واختارت له فضاء المسرح المكشوف وسط ساحة الأمويين في دمشق، ومن هناك راحت علي تدير لعبتها في فضاء يحيط الجمهور بممثليها الـ 10، ناقلة أزياء وأغنيات العصر الإليزابيثي إلى مساحة اللعب التي خلطت ببراعة من خلالها بين الكوميديا الموسيقية والملهاة الأدائية الساخرة.
ويروي عرض "كما تشاء" أو "الليلة الـ 12" حكاية شقيقين توأمين تغرق سفينتهما قبالة إمارة إيطالية على سواحل البحر الأدرياتيكي، وأورسينو دوق إلليريا (حيان بدور) واقع في غرام الكونتيسة أوليفيا (لانا علوش)، لكنها تصده متذرعة بالحداد على أخيها وأبيها اللذين قضيا في حادثة غرق أيضاً.
وفي المقابل سيلعب الشقيقان التوأمان دوراً رئيساً في حبكة العرض، فالتوأم اللذان نجيا من حادثة الغرق لا يعرفان شيئاً عن مصير كل منهما، وفيولا (ندى حمزة) ستتنكر بعد نجاتها في هيئة شاب خصي، وتتقمص دور سيزاريو وصيف الدوق ورسوله نحو حبيبته المتمنعة، فيما شقيقها سيباستيان (ليث الشيخ) الذي يشبهها إلى حد بعيد يظهر في لحظة حاسمة من العرض، مبدداً كثيراً من الشكوك عن مصيره المجهول.
تلك اللحظة التي تقع الكونتيسة في غرام سيزاريو معتبرة إياه أجمل رجل في العالم، لكنها لا تعرف أن سيزاريو هذا ما هو سوى امرأة مثلها، وبالتوازي تقع فيولا في غرام الدوق الذي لا يهتم لأمرها، فكيف يهوى هو الآخر من يظنه رجلاً مثله؟
مفارقات مسرحية
تدور أحداث العرض السوري بين ساحل البحر وقصر الدوق ومنزل الكونتيسة، وفي هذا الأخير يمكن متابعة مفارقات عدة، فالسيدة الجميلة التي يبدو الجميع طامعاً في ثروتها وجمالها ستصد حاجبها وكبير خدمها مالفوليو (علي عبده)، إذ يقع هذا الأخير فريسة سهلة لألاعيب حاشية الكونتيسة وأقاربها، وأولهم وصيفتها ماريا (تالا نيساني) وابن عمها المخمور السير توبي (صفوت الجمال) والسير أندرو (سارة نصر)، مما يؤدي إلى ضياع هيبة العاشق مالفوليو وسجنه في قبو قصر الكونتيسة المظلم، بعد أن يغير مظهره من سيد طهراني صارم في سلوكه إلى رجل بجوارب صفراء وربطات أقدام صليبية.
كوميديا الأخطاء هذه ما هي سوى جزء يسير من مقالب متناقضة ولعبة يشارك فيها كل من المهرج فيسته (هايدي جمول) وأنطونيو (سيمون حناوي)، إذ تتعقد وتتشابك مصائر الشخصيات في مجموعة من مواقف متناقضة، فالنساء يقعن في هوى النساء والرجال كذلك، لكن ما هي سوى لحظات ويكتشف الجميع بعد معركة ساخنة بالسيوف (تدريب علاء زهر الدين وعلي إسماعيل) أن كلاً من المعتدين لقي عقابه، فأقارب الكونتيسة وخدمها بعد أن يزوّرون خطاباً باسم الكونتيسة يذعنون لسيوف الفرسان، فتنتهي سخريتهم من مالفوليو بجراح وكدمات في الرؤوس والأيدي، بينما يتدارك كل من الدوق والكونتيسة ما وقعا فيه من إحراج في تخمين سر مشاعرهما، فالدوق يكتشف حقيقة حاجبه الخصيّ ويعرف أنه ليس سوى الحسناء النبيلة فيولا، فيما يظهر التوأم الذكر لفيولا في لحظة ينقذ فيها موقف السيدة الأرملة من الوقوع في حب سيدة مثلها.
ينتهي عرض "كما تشاء" نهاية سعيدة بزواج الدوق من فيولا واقتران الكونتيسة بتوأمها سيباستيان، وقد رافق أحداث العرض أداء مقاطع أوبرالية بإشراف مغني الأوبرا الفنان فادي عطية وأداء كل من ليال مقلد وآليسار مسعود وآية الشاعر ودانيال حروفوش، وهذا ما مزجته مخرجة العرض محاولة تقديم دراما موسيقية غنائية، إضافة إلى رقصات من تصميم معتز ملاطية لي التي أسهمت في مقاربة مناخ القرن الـ 17، وهو العصر الذي جسدت فيها مسرحية "الليلة الـ 12" للمرة الأولى بعد أن أفاد شكسبير من روايات أسفار ومغامرات إيطالية.
هجاء ومرح
على كل حال لم يقلل ذلك من قيمة نص الكاتب الإنجليزي الذي خلط فيه بين الهجاء والمرح الصاخب والرومانسية في آن، فتلك المساحة المتعددة من الأنواع الأدبية قابلها توظيف مريم علي لكل عناصر السينوغرافيا لإغناء الفضاء غير التقليدي لعرضها، سواء عبر الاستفادة من شرفات بناء المعهد المطلة على مسرحه المكشوف أو حتى عبر إعتام وآخر للإضاءة (محمد قطان)، والتي أرادتها علي منسجمة مع تقطيع لمشاهد وفصول المسرحية الخمسة، ومن هنا جاء الاهتمام بالمكان ليضفي نوعاً من الخلط بين الوهم والواقع وبين الرومانسية والكوميديا على حد سواء، وعليه يمكن ملاحظة عناية الإخراج بالأزياء (تصميم جماعي) كواحدة من العلامات الفارقة في تحديد الزمن الذي تجري فيه أحداث العرض من دون التخلي عن التوجه العام في أداء الممثلين، والذي جاء قريباً في جوانب عدة منه بأسلوب مؤديي الكوميديا ديلا آرتي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتوضح شغف فريق "كما تشاء" في إبراز كل ممثل لعيوب شخصيته، سواء الفيزيولوجية منها أو النفسية، أو حتى تلك السلوكية، مما أضفى تلك المسحة الكاريكاتورية على شخصيات العرض ونقل المتلقي إلى أجواء مرحة وصاخبة، قللت الملل في مواضع عدة من زمن العرض (120 دقيقة)، مما جعل الضحك من هذه الشخصيات يأتي مما هو مناف للنموذج الاجتماعي لا الأخلاقي، فالحماقات التي ترتكبها الشخصيات والأزمات التي تمر بها لا تؤثر في القالب الكوميدي ولا تحرفه عن مساره، في حين احتفظت شخصيات "الليلة الـ 12" بعالم داخلي عميق، ولم تُقدم على أنها شخصيات نمطية على رغم مظهرها الممسوخ والكاريكاتوري، ويمكن ملاحظة ذلك عند كل من المهرج ومالفوليو وماريا، وكذلك عند السير توبي وأوليفيا سواء بسواء.
وعلى رغم الخيار الكلاسيكي الصرف لمخرجة العرض لكن هذا لم يمنع من ملامسة أصل الميول المثلية عند الجنسين، ولا سيما علاقة القرصان أنطونيو وحبه لسيباستيان وتصريحه بذلك، أو علاقة أوليفيا بسيزاريو، وهو ذاته فيولا المتنكرة في زي وصيف الدوق، أو التي يوردها النص الأصلي على أنها الغلام الخصيّ، ومع أن العرض يعود، كما في النص الشكسبيري، لفكرة الزواج كخاتمة سعيدة وطبيعية، وأن الحب لا يمكن أن يقترن فيه المحبوب إلا بالمختلف والمتمايز عنه جنسياً، لكن العرض السوري يشير إلى أن المثلية أو الشذوذ الجنسي في العمق حال نفسية لا فيزيولوجية، وأن لعبة التنكر التي مارسها الممثلون في أداء الفتيات لأدوار الرجال ما هي إلا تورية أتاحت لهؤلاء معايشة داخلية للدور المزدوج الذي يقومون بأدائه من دون إغفال حقيقة الجندر الذي ينتمون إليه، وهذا ما كان واضحاً في ردود أفعال ممثلات العرض، وكيف تعاملن بمهارة مع لعبة التنكر كجزء من تمويه النوع دون طمسه وتغييبه عن ساحة المشاعر العميقة للأداء، مما أسهم في تقديم اختبار مثالي لأدوات الممثلين وتجاوزها الأنماط السلوكية التقليدية للذكورة والأنوثة، وبالتالي تقديم فرجة ذات طابع احتفالي بعيد كل البعد من القيم الاجتماعية السائدة، بل وحاول "كما تشاء" تحقيق فهم إنساني شامل لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة من دون الالتفات لتحديد الجندر أو النوع الاجتماعي كشرط لفهم تاريخ الشخصية وميولها ودوافعها الظاهرة منها والمستترة.