Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خفة ترمب وهاجس أردوغان... "ممر الأفيال" شرق الفرات

مشكلة الرئيس الأميركي أنه يعتقد أن تراجع واشنطن يجعل حلفاءها يتقدمون وهذا خطأ

سياسة ترمب لن تؤدي إلا الى إضعاف حلفائها (رويترز) 

في القرن التاسع عشر قال أندروز بيرس "إن الحرب هي طريقة الله لتعليم الأميركيين الجغرافيا". وفي القرن الحادي والعشرين يسكن البيت الأبيض رئيس يريد الهرب من الجغرافيا وما سماه "استغفال" العالم لبلاده والتمتع بالأمن والرخاء في "رحلة مجانية" على حسابها. لا بل إن دونالد ترامب يدّعي "أن الله اختاره لبدء حرب تجارية مع الصين" ويعمل لإعطاء أميركا إجازة من التاريخ مجدداً، بعدما كان زلزال سبتمبر (أيلول) نهاية "إجازة من التاريخ" كما كتب تشالز كروتهامر. وليس الاندفاع للمرة الثانية نحو سحب القوات الأميركية من شرق الفرات ثم التراجع الجزئي بعد الاصطدام بقادة الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديموقراطي والبنتاغون وأجهزة الأمن سوى خطوة إضافية في مسار التخلي عن مسؤوليات القوة العظمى ودورها تجاه الحلفاء والخصوم. ولا حدود للمخاطر التي يسببها قرار اتخذه رئيس أميركي بخفة بعد محادثة هاتفية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

قرار جاء هدية مجانية لداعش وروسيا وإيران، و"إجازة" لأردوغان في إخراج قوات سوريا الديمقراطية من الجغرافيا التي حرّرتها من داعش بالدم ودعم التحالف الدولي بقيادة أميركا. أردوغان المتعطش لجغرافيا السلطنة العثمانية و"الميثاق الملّي" يبحث عن مغامرة خارجية بعد خسارة المدن الكبرى في الانتخابات البلدية وانسحابات رفاقه المؤسسين من حزب "العدالة والتنمية" وهروب الرساميل وتراجع الليرة والاقتصاد. الكرد الذين لعبوا الدور الأكبر في إسقاط "دولة الخلافة" الداعشية هم "إرهابيون" في حسابات أردوغان الذي أسهمت أجهزته في عبور الدواعش إلى سوريا والعراق عبر تركيا. الروس الذين كانوا ولا يزالون يطالبون بخروج القوات الأميركية من شرق الفرات، والإيرانيون الذين تبحث واشنطن عن صفقة مع الروس لإخراجهم من سوريا، يتغلغلون عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً في سوريا. وداعش جاءته الفرصة لاستغلال الفوضى وتجميع قواته شرق الفرات، ويكفيه أن يخرج عشرة آلاف إرهابي تعتقلهم قوات سوريا الديمقراطية، و72 ألف امرأة وطفل من عائلاتهم في مخيم "الهول".

لكن مغامرة أردوغان ليست نزهة. فلا أحد يصدق أن الكرد "إرهابيون"، وهم الذين حاربوا الإرهاب التكفيري على الأرض لا في الإذاعات وعلى شاشات التلفزيون. ولا أحد يجهل أن محاولات الأنظمة اتهام المعارضين بأنهم "إرهابيون" هي حيلة مكشوفة لرفض التغيير الديمقراطي. وحين يسمي أردوغان غزو شرق الفرات عملية "نبع السلام"، ويدعي أنه سيفتح "ممر السلام" محل "ممر الإرهاب"، فإنه يذهب بعينين مفتوحتين إلى "فخ إستراتيجي" أو أقله إلى "ممر الأفيال". فالكرد قوة مدربة ومجربة في المعارك مصمّمة على الدفاع عن الأرض التي ليس لها سواها. وموسكو وطهران ضد ربح كبير لأردوغان المحتاج إلى تفاهم معهما. ودمشق ضد الغزو. فضلاً عن أن أميركا محكومة بإبقاء قواتها في أماكن إستراتيجية شرق الفرات وعلى الحدود بين سوريا والعراق والأردن، وإلا فقدت كل أوراقها: من القضاء على داعش إلى إخراج إيران وصولاً إلى تسوية سياسية في سوريا. وما الذي يفعله أردوغان والجميع في مواجهة حرب عصابات يشنها داعش؟ أين الهرب من أكثر من عشرين مليون كردي من المواطنين الأتراك؟ وهل يفعل أردوغان سوى عكس ما كان يدعو إليه مستشاره البروفسور إبراهيم قالين وهو أنه "يجب تحليل العملية بدل تحليل الصورة أو تحليل اللحظة"؟

المشهد في أي حال معقد جداً. والصورة لم تبق كما رسمها البروفسور في هارڤارد جوزف ناي الذي صكّ تعبير "القوة الصلبة والقوة الناعمة". إذ هو تحدث قبل سنوات عن "لعبة شطرنج بثلاثة أبعاد": الأعلى "وحدانية القوة العسكرية"، حيث أميركا وحدها. والأوسط "تعددية القوة الاقتصادية" حيث أميركا وأوروبا واليابان والصين. والأسفل "علاقات دولية عابرة للحدود من دون سيطرة الحكومات، أسلحة وإرهابيون ومصرفيون يحولون أموالاً أكثر من موازنات دول". فالأعلى ما عاد مقتصراً على أميركا، إذ صعدت الصين واستعادت روسيا دورها. والأوسط صار ملعباً لمجموعة الـ "20" بعد عقود من سيطرة مجموعة الـ "7". حتى على المستوى الإستراتيجي، فإن التراجع الأميركي أسهم في صعود قوى إقليمية لديها مشاريع وتحاول تحقيقها بشيء من التفاهم وشيء من المواجهة. فعلى المسرح الآسيوي تلعب الهند والباكستان وأندونيسيا وتأخذ كوريا الشمالية دوراً بالقوة. وعلى المسرح الشرق أوسطي تلعب تركيا وإيران وإسرائيل. أحدث التحديات التركية غزو شرق الفرات والتنقيب عن الغاز والنفط قرب شواطئ قبرص على الرغم من رفض الاتحاد الأوروبي وجيران قبرص. ولا حدود للتحديات الإيرانية: من تشكيل ميليشيات مذهبية في أربعة بلدان عربية إلى إسقاط طائرة مسيرة أميركية واحتجاز ناقلات نفط وقصف منشآت نفطية لشركة أرامكو في السعودية من دون رد. أما تحديات إسرائيل، فإنها محمية أميركياً وقابلة جزئياً وأمنياً للتفهم الروسي.

مشكلة ترمب، كما تقول كوري شاك مؤلفة كتاب "ممر آمن، الانتقال من الهيمنة البريطانية إلى الهيمنة الأميركية"، هي اعتقاده أنه "إذا تراجعت أميركا، فإن حلفاءها يتقدمون، وهذا خطأ، فحين تتراجع أميركا يتراجع حلفاؤها أكثر". أليس أقل ما قاله مؤخراً هو أن الوقت حان للخروج من "الحروب السخيفة والقبلية" وأن على الآخرين "تدبير أمورهم بأنفسهم".

بعد أحداث 11 سبتمبر هندست أميركا "عملية بناء العدو"، اليوم يهندس ترامب عملية إضعاف الحلفاء وهبوط أميركا.

المزيد من آراء