ملخص
يشكو أهالي الساحل السوري من التفلت الأمني وغياب المحاسبة في منطقتهم، مما أثر في حركة الاصطياف، بينما فرضت الحكومة في دمشق ضوابط على الحريات الشخصيات لأناس ما زالت ذكرى المجازر التي جرت في مارس الماضي ماثلة في أذهانهم.
بعد انقضاء شهر يونيو (حزيران) الماضي، أول أشهر الموسم السياحي الفعلي بعد انتهاء المدارس، وإثر مراقبة الحركة خلاله، بات من الممكن الحديث عن تراجع غير مسبوق في حركة السياحة البحرية على الساحل السوري، ومرده بحسب متابعين لجملة عوامل، أبرزها التضييق على الحريات الشخصية في موضوع اللباس وفق القرارات الحكومية الأخيرة والمخاوف الأمنية، والأثر النفسي الممتد لمجازر الساحل منذ مارس (آذار) الماضي، والمستمر بصورة حالات فردية لم تعرف التوقف حتى اليوم، بل أنها كادت تصير أسلوب حياة يومي لسكان الساحل وقراه الذين يفقدون شبابهم في حالات تصفية ميدانية خارج مظلة القانون، إضافة إلى ارتفاع الأسعار الباهظ مع قلة الشواطئ المجانية، ووجود معسكرات للأجانب قرب مرافق سياحية رئيسة، كمعسكر "عمريت" أو "الطلائع" جنوب طرطوس، وكذلك الأمر في اللاذقية.
يأتي ذلك في وقت تعيش فيه المحافظات السورية انفتاحاً على بعضها، بعد زوال تصنيفات مناطق معارضين وموالين، إذ كان المعارضون في إدلب وريف حلب وبعض مناطق الداخل لا يزورون البحر، وعلى رغم أنهم موجودون اليوم وبإمكانهم التحرك بحرية لكن ذلك لم يشفع للموسم الحالي بألا يكون الأقل إقبالاً منذ سنوات طويلة مرت، وما يعكس الأمر من ضرر في قطاع السياحة ومدخولاته بوصفه أحد أبرز أعمدة رفد الاقتصاد المحلي، فضلاً عن قدرته على خلق فرص عمل موسمية بالجملة وتعويض أضرار غياب الموسم الشتوي، لتكون أشهر الصيف بديلاً.
مصادرة الحريات
خلال الشهر الماضي أصدرت وزارة السياحة القرار رقم 294، الذي يختص بتحديد طبيعة ونوعية ملابس زوار ومرتادي ونزلاء الشواطئ والمنتجعات والفنادق البحرية والمسابح العامة والخاصة، وكانت خلاصة القرار تنص على فرض الالتزام بارتداء ملابسة بحرية مناسبة تراعي الذوق العام ومشاعر السوريين من مختلف الانتماءات والمشارب تحت عباءة "احترام القيم الثقافية والدينية والاجتماعية للنسيج السوري".
القرار الذي استهجنه أهل الساحل قبل غيرهم رأوا فيه تعدياً على صلب الحريات الشخصية عبر فرض السباحة بالملابس الشرعية "البوركيني" أو التي تغطي الجسد بأكمله، وكذلك عند الانتقال من الشاطئ إلى أماكن أخرى فيجب ارتداء ملابس فضفاضة فوق ملابس السباحة الشرعية نفسها، ولم يتوقف الأمر عند تقييد الحريات الشخصية للسيدات، بل تجاوزه ليفرض على الرجال منع وجودهم بصدور عارية على الشواطئ وفي بهو الفنادق وأماكن تناول الطعام.
وما زاد الطين بلة أن القرار نفسه قسم تلك الاعتبارات إلى شواطئ ومنتجعات ملزمة بتطبيق القرار أو غير ملزمة به، فكل منتجع من فئة أربع أو خمس نجوم يستثنى من القرار، وبالطبع هي المنتجعات الراقية والمكلفة للغاية التي تعجز الغالبية الكبرى من السوريين عن الحجز فيها، فيما لن يكون هناك تساهل في الشواطئ الشعبية والمنتجعات الأقل تصنيفاً، وهو ما وصفه أناس تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" بأنه "قرار جائر يسهم في تكريس طبقية المجتمع، الذي يجب أن يرمم نفسه على مراحل ليس البحر أكثرها أهمية".
وفي هذا الصدد تقول المهندسة الإنشائية ميرنا نور، ابنة مدينة اللاذقية، إنه "أمام الحكومة ملفات معقدة ومتشعبة ومتشابكة أكثر بآلاف المرات من أن تشغل نفسها بماذا يرتدي الناس على البحر وفي المسابح، وأولها إعادة ترميم الصدع المجتمعي بين الأفراد، وإيقاف حالات القتل العشوائي، وإيجاد آلية واضحة لمحاسبة مرتكبي الجرائم في العهدين القديم والجديد". وتكمل "على رغم أن موضوع البحر ثانوي أمام ما يحصل في بلادنا من معاناة ما زالت مستمرة، لكنه أيضاً يمثل عمق التدخل في حرياتنا الشخصية، القصة تبدأ عند أهل الساحل أنفسهم، هم سكان هذه المنطقة، وموضوع اللباس البحري الشرعي غريب عن موروثنا الاجتماعي، في الصيف الماضي كنا نرتدي مايوه والآن سنرتدي بوركيني، هذه كوميديا سوداء".
بدوره يقول التاجر نبراس خير من طرطوس لـ"اندبندنت عربية"، "ماذا يعني أنه ممنوع أن أكون عاري الصدر على الشاطئ؟ هل نحن في دولة الخلافة؟ طبيعة الناس في الساحل متحررة للغاية، نحن لمن لا يعلم لدينا شواطئ كتلك الأوروبية في زوارها ولباسهم ونمط حياتهم، وقد تشاركنا لعقود هذه السواحل مع كل السوريين، وهي لكل السوريين. كل كان يرتدي ما يناسبه من دون أن يزعج الآخر، ولكن لا عتب الآن إن كان من يرتدي شورتاً في الطريق يجري ضربه، فكل شيء بات متوقعاً، وبات متوقعاً أن نجد شرطة ’الحسبة‘ لتدقق في ملابسنا البحرية".
خوف مشروع
إلى جانب ذلك ثمة مخاوف أمنية يربطها كثير من السوريين بحالة التنقل والوصول إلى الساحل نفسه، إذ باتت شريحة من السكان تحاول تجنب التنقل وتلازم المنزل ما استطاعت، ويعبر عن ذلك المترجم صوفان محسن، وهو أحد سكان دمشق بقوله، "لم ننقطع عن زيارة البحر خلال سنوات الحرب حتى أشدها، كانت دائماً الطرق آمنة، والناس من خارج الساحل لا تقصده لتقضي وقتاً على البحر فقط، بل هو فرصة مثالية للاستجمام والتمتع بغابات ومصايف أرياف الساحل، ولكن يبدو الأمر هذا العام مستحيلاً، كمية الجرائم وحالات القتل والاختطاف التي نقرأ عنها تجعلنا نفكر كثيراً قبل اتخاذ قرار إجازة الصيف والتوجه للساحل، يومياً هناك أخبار عن عصابات خارجة على القانون تطلق النار على الناس في أراضيهم من دون رادع، أطفالاً وشباباً وشيوخاً، وعصابات تخطف الفتيات، وقد شهدت السلطات السورية بتلك الأحداث أخيراً وأعلنت فتح تحقيقات حول ما يحصل في ريف جبلة قرب اللاذقية مثلاً، إضافة إلى الفظائع المؤلمة التي هزت المجتمع السوري مع قصص الخطف التي كشفت عنها إحدى وكالات الأنباء العالمية أخيراً".
هواجس المجازر
وتتطابق خشية صوفان مع كثيرين من سكان مدن الداخل، الذين يرون أن هناك سلاحاً متفلتاً يجوب الطرقات، بيد أن الأمر يختلف حين قياسه بأهل الساحل أنفسهم ودوافعهم في الإحجام عن الاصطياف بمعزل عن قضية التضييق على اللباس. وفي ذلك الشأن يقول الطبيب حسن عامر من مدينة بانياس الساحلية، "لم تنقض أشهر أربعة على مجازر الساحل، دماء الناس لم تجف من الطرقات، والعيون لم تفارقها الدموع، الأمر مرتبط بالعامل النفسي للناس هنا، ثمة وشاح من السواد يلف الساحل من أعلاه إلى أدناه، الناس غير قادرة على اصطياد الفرح أو تقبله حتى، كيف يمكن أن نتجاوز ما حصل بهذه السرعة، الحزن يحتاج إلى وقته لينقضي، كيف يمكن لعائلات الضحايا المسكونة بهاجس الخوف والقلق والحزن أن تملأ الشواطئ وكأن شيئاً لم يحصل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا متسع لرفاهية السعادة
ريما عبود، خريجة كلية الآداب من جامعة اللاذقية، ترى أيضاً أن "البعد النفسي لمجازر الساحل ألقى بظلال ثقيلة على واقع المجتمع بأسره، المجتمع الذي بات أكثر انكفاء وخوفاً". وتضيف في معرض حديثها، "لا أعلم الرقم بدقة، لكن ربما كان هناك ألفي ضحية في مجازر مارس (آذار)، أي ألفي عائلة منكوبة، عدا عن المخطوفين والجرحى، وفوق كل ذلك ما شهدناه نحن الذين كنا على حافة الموت ولم نمت، كانت أحداثاً مأساوية سكنت في العقل الجمعي للساحل بأسره، وبالضرورة هذا لا يعني أن أناساً لن تحاول أن تهرب من هواجسها في محاولة للبحث عن الحياة عبر الاصطياف، لكن ما حدث وما زال يحدث لا يمكن محوه بإشارة أو كلمة أو وعد، هذا عدا عن آلاف الهكتارات التي ما زالت تحترق وتحرمنا غاباتنا وجبالنا في ريف اللاذقية، لا أعتقد أنه ثمة متسع لرفاهية السعادة، ولا أعتقد أنني سأقبل يوماً ما أن ارتدي البوركيني الذي لا تفرضه علينا عاداتنا ولا ثقافتنا ولا تقاليدنا، الاحتشام هو وقف القتل لا فرض اللباس".
البحث عن شواطئ مجانية
تلك العوامل لا تعني انتفاء الحالة السياحية بأسرها، بل تراجعها إلى حد كبير، وذلك لأن هذا الحد يصطدم بقلة الشواطئ المجانية، مما يجعل خيارات الاصطياف شحيحة، ففي مدينة اللاذقية مثلاً لم يعد ثمة شواطئ مجانية باستثناء شاطئ الرمل الجنوبي وصولاً إلى منطقة الشاليهات، لكن الشكاوى كثيرة حياله، إذ يعاني سوء التنظيم والخدمات وانتشار الأوساخ وتصريف مياه الصرف الصحي نحوه، كما أن هناك شواطئ ابن الهاني والمرديان، ولكنها صخرية لا تصلح للسباحة.
وفي مقابل تلك الشواطئ المجانية تنتشر شواطئ أخرى يفترض أنها مجانية لكن الاستثمار العشوائي غير المنظم منذ حقبة الأسد قضى عليها، إذ إن دخولها يحتم استئجار طاولة وكراسي تتراوح أسعارها ما بين 10 و20 دولاراً لبضع ساعات، وكذلك يمكن استئجار شاليه بحري في مناطق متعددة بسعر متوسط نسبي يبلغ 50 دولاراً لليلة الواحدة، وبالطبع هي شواطئ رديئة. يقابل تلك الشواطئ المنتجعات الفارهة التي يتراوح إيجار الغرفة فيها ما بين 100 و500 دولار لليلة الواحدة، تبعاً لطبيعة الغرفة وإطلالتها والخدمات المقدمة فيها وعدد نزلائها.
أحد أصحاب المنتجعات تلك في اللاذقية تحدث لـ"اندبندنت عربية"، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه حول أن السياحة كانت تعتمد بصورة أساسية على الحرية الممنوحة للسياح، بينما "القرارات الأخيرة جعلت السياحة تتراجع كثيراً، والإقبال أصبح قليلاً للغاية، منشآت بارزة صرفت كثيراً من عمالها، وبالمقابل اليوم لدينا نزلاء من المناطق التي كانت محاصرة ولم تر البحر منذ أكثر من عقد، ولكن هذا لا يكفي، فنحن نعتمد على السياح من كل المحافظات، بيد أن هناك خوفاً لدى السوريين من الأحداث الأمنية والمضايقات التي يمكن أن تحصل لهم افتراضاً".
حلول محلية
من جانبها تحاول السلطات المحلية في الساحل تذليل بعض العقبات المرتبطة بارتفاع كلفة ارتياد الشواطئ، فبحسب رئيس الوحدات الإدارية في اللاذقية علي عاصي، فإنهم يعلمون على تهيئة موقعي سباحة مجانية في مناطق شرق المنتجع و"الغولدن بيتش" ويحملان الرقم 1 و10، وذلك ليتمكن المواطنون من السباحة من دون أي عناء مادي.
كذلك بين عاصي أنهم يسعون إلى تخصيص مسبح أوغاريت (نقابة المعلمين سابقاً)، والشاطئ خلف المدينة الرياضية، إضافة إلى تأهيل حديقة الحرش لتأمين أماكن إضافية للسباحة المجانية.