Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"على باب لجنة" الامتحانات... بكاء وتسالي و"الذي منه"

تمددت تلك المنظومة لتصبح منجم ذهب لآلاف الطامحين ليكونوا مؤثرين على أثير المنصات

المشاهد متكررة كل عام في مصر، جموع غفيرة من أهالي طلاب، وبخاصة طالبات الثانوية العامة تتجمهر على أبواب لجان الاختبارات (رويترز)

ملخص

لا أحد يعرف على وجه التحديد متى أو أين أو لماذا تفجرت الحياة على باب اللجنة بهذه الصورة التي تغطي أنحاء مصر في مثل هذه الأيام من كل عام، ولكن الجميع يعرف أن اختفاء "مدام ليلى" وغياب "مدام سهام" وانزواء "أم منال" في ساعات نهار بضعة أسابيع صيفية يعني أنهن مرابطات رابضات صامدات على باب اللجنة.

على باب اللجنة أزمة، وعلى باب اللجنة بكاء وعويل، لكن أحياناً يكون هناك غبطة وبهجة، لكنها عادة تكون دموعاً أيضاً، وإن كانت دموع الفرح. وعلى باب اللجنة صراخ وعويل، وصخب وفوضى. وعلى باب اللجنة تجمعات يشرب فيها الشاي والقهوة، وتؤكل فيها السندوتشات مع المخللات وأحياناً "كيكة" خبزها أحدهم أو بوظة اشترك الجمع الغفير في شرائها. على باب اللجنة لم يعد حدثاً وانتهى، أو حتى حادثاً وتم رفع آثاره، بل أسلوب حياة ومنظومة اسمها "على باب اللجنة".

مدام ليلى وأم منال

لا أحد يعرف على وجه التحديد متى أو أين أو لماذا تفجرت الحياة على باب اللجنة بهذه الصورة التي تغطي أنحاء مصر في مثل هذه الأيام من كل عام، ولكن الجميع يعرف أن اختفاء "مدام ليلى" وغياب "مدام سهام" وانزواء "أم منال" في ساعات نهار بضعة أسابيع صيفية يعني أنهن مرابطات رابضات صامدات على باب اللجنة. وعلى رغم أن منظومة "على باب اللجنة" شهدت في الأعوام الماضية توسعاً أفقياً شمل كل الأنحاء جغرافياً، وتغلغلاً رأسياً حيث زادت أعداد الجماهير الغفيرة المرابطة على أبواب اللجان، إضافة إلى نقلات نوعية أدت إلى امتداد المنظومة إلى مراحل التعليم المدرسي المختلفة، فإن "على باب لجنة الثانوية العامة" تبقى الأصل والمنبع والمنبت.
لا يمر يوم من دون أن يهيمن مانشيت إما "إغماءات على باب اللجنة" أو "زغاريد على باب اللجنة"، ولا تمر دقيقة من دقائق جدول اختبارات الثانوية العامة من دون ضخ محتوى هو خليط من الصراخ والبكاء والارتماء على الأرض وارتفاع الأكف المتضرعة وربما اللطمة، ومنها أيضاً الأصابع المهددة لواضعي اختبار الفيزياء بعذاب السعير، ومراقبي الكيمياء بعذاب البرزخ، ومسؤولي التعليم بعقاب الدنيا والآخرة، مع تسلل ظاهرة جديدة هذا العام تتمثل في نعوت كان القانون يصفها بـ"الألفاظ الخارجة" حتى وقت قريب تتم المجاهرة بها على باب اللجنة لوصف اختبار الجبر ونعت اختبار التاريخ ووصم اختبار الإحصاء ووصف الأجواء بصورة عامة هذا العام.

في الزمن الجميل

في زمن "على باب اللجنة" الجميل كان حضور الأهل، وتحديداً الأمهات، يقتصر على أجواء ترطيبية بحتة، وفي بعض الأحيان تشوبها عمليات "تبادل معلوماتي" عبر مكبرات الصوت. الساخرون يصفونه بـ"زمن الغش الجميل" أو "وقفة اللجنة البريئة"، والجادون يرون المنظومة بأكملها عجيبة غريبة مريبة.

المشاهد متكررة كل عام في مصر. جموع غفيرة من أهالي طلاب، وبخاصة طالبات الثانوية العامة تتجمهر على أبواب لجان الاختبارات، لا لبضع دقائق بعد بداية الاختبار للتأكد من أن كل شيء على ما يرام، أو لدقائق قبل انتهاء الاختبار ليكونوا في استقبال الأبناء والبنات، ولكن منذ ساعات الصباح الباكر وحتى انتهاء الاختبار من دون انقطاع.
ساعات الانتظار لا تمر من دون محتوى، والمحتوى بالغ الثراء. فبين تجمعات للأمهات في حلقات نقاش حول "بعبع" كل بيت، ألا وهو الاختبار، وخرابة كل موازنة ألا وهي الدروس الخصوصية، وقراءة الطالع في ما يختص بمستقبل الأبناء الذي سيحدده "مكتب التنسيق" المرتقب. ولأن ساعات الانتظار تطول، فإن الجلسات تتطرق حتماً إلى أسعار الخضراوات والفاكهة، وعلاقات الأسرة المتوترة والمسؤوليات المتجاهلة، وأحاديث الساعة بدءاً بحرب غزة، مروراً بحوادث السير، وملابس المذيعات، وتصريحات الوزراء، و"بلاي باك" (play back) المطربة شيرين، ووصفات الطبيعة لأوجاع البطن والرقبة والقدمين، وانتهاء بما يستجد من أخبار عاجلة.

حلول لمشكلات الكوكب

وتشهد هذه الجلسات كثيراً، بعضها يجتهد ويخرج بتشكيل حكومي جديد، والأخرى تقترح حلولاً أخفق قادة الكوكب في الوصول إليها مثل أزمة الشرق الأوسط وحرب أوكرانيا والنزاع في السودان والمعركة بين ماسك وترمب وغيرها.
إنها هوامش الجلسات على باب اللجنة. وقد تطورت إلى "جلسات" لا وقفات، وذلك بعد تمدد الظاهرة في الأعوام القليلة الماضية وتحولها إلى ظاهرة من ظواهر طبيعة اختبارات الثانوية العامة. هذا التطور صاحبته مواكبة عصرية ذكية، إذ الاستعانة بالكراسي الصغيرة المطوية، و"ترامس" (زجاجات تحتفظ بالحرارة) شاي وقهوة، ووجبات خفيفة ومرطبات وبذور (مسليات) وغيرها.
تحول الهوامش إلى نشاط رئيس لا يعني انصراف الحضور الجماهيري على باب اللجنة بعيداً من الهدف الأصلي. الهدف المعلن هو الاطمئنان على فلذات الأكباد، والتأكد من أن كل شيء على ما يرام لا سيما أن الأعوام الأخيرة تشهد تغطيات "إعلامية" مكثفة عن حالات الهستيريا الجماعية وحوادث الإغماء وتظاهرات الصراخ والعويل وغيرها ما يستلزم وجود الأمهات لقوات "الدعم السريع"، وأحياناً المشاركة في ملحمة اللجنة.

ملحمة اللجنة

ملحمة اللجنة تفوق أحياناً اللجنة نفسها. ما يدور في داخل اللجان يبقى سراً، ولا يتم الإفصاح عنه – أو هكذا يفترض- إلا بخروج الطلاب والطالبات وسرد تفاصيل ما يجري، سلباً أو إيجاباً، نقلاً أميناً بحسب الوقائع، أو بتصرف. أعوام تسريب أوراق الأسئلة من داخل اللجان، وتناقل الإجابات عبر الهواتف المحمولة وغيرها من التقنيات، ونشر الصور والأسئلة والإجابات المسربة على منصات الـ"سوشيال ميديا" نجم عنها تقييد شديد ورقابة صارمة على لجان اختبارات الثانوية العامة. أما أبواب اللجان فتظل عصية على التقييد، مقاومة لكل أنواع المناشدات والمناقشات.
المنظومة المتمددة المتوغلة المتغلغلة تعدت "ليفل الوحش"، كما يقال دلالة على تحقيق مستوى متقدم جداً من التحدي والصعوبة. الصعوبات كثيرة، منها المتعلق بعوامل طبيعية مثل الحرارة القائظة التي تتعدى الـ45 درجة مئوية، والرطوبة الخانقة التي تزيد على 85 في المئة، ومنها كذلك مصاعب تتعلق بإجازات يقتطعها الأهل المتجمهرون من رصيد الإجازات أو يعتمدون على شهامة الزملاء والزميلات في تغطية الغياب، وأخرى تتعلق بقرارات رسمية جرى العرف الحكومي على إصدارها موسمياً بمنع تجمهر الأهالي "على باب اللجنة".

 

منظومة التجمهر

الغريب أن منظومة التجمهر في الأصل قلما يتطرق إليها أحد، سواء بالسؤال عن سبب بقاء الأهل ثلاث وأربع وخمس ساعات على أبواب اللجان، أو بالبحث في أسباب انتشار الظاهرة لتصبح مكوناً رئيساً من مكونات "موسم" أو "مولد" أو "بعبع" الثانوية العامة كل عام.
الأغرب أن الجهات الرسمية، من وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، ومسؤولي المحافظات وغيرهم، يعلنون أحياناً عن تخصيص أماكن بعينها لانتظار أولياء الأمور. ووصل الأمر لدرجة أن بعض نواب ونائبات البرلمان يدعمون أحياناً قواعدهم الانتخابية في دوائرهم عبر اصطحاب زجاجات مياه وعصائر ومثلجات و"كاميرات" لتوزيعها على الأهالي، وتوزيع الصور والفيديوهات على الإعلام، وبالطبع تحميلها على صفحات "السوشيال ميديا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

منجم الطامحين

هذا العام تتمدد منظومة "على باب اللجنة" لتصبح منجم ذهب لآلاف الطامحين والطامحات ليكونوا مؤثرين ومؤثرات على أثير المنصات. لقاءات يتم إجراؤها "لايف" (مباشر) أو تسجل وتخضع لعمليات إضافة تعليقات ومعها "بهارات" جذب المشاهدة وصناعة "الترند". هذه طالبة خرجت لتوها من اختبار الفيزياء ووقعت على الأرض لفرط الغضب من صعوبة الاختبار، فلحقت بها عشرات الزميلات ومعهن عشرات الأمهات، ومشهد مماثل في يوم آخر عقب اختبار الكيمياء، وثالث في يوم الأحياء، وهلم جرا. وهنا ترتفع مئات الهواتف المحمولة لالتقاط المادة الخام لـ"الترند" و"شاهد كارثة لجنة الفيزياء" و"انقر لتتابع مصيبة الكيمياء"، و"فعِّل الجرس وأنت تسمع وتشاهد مجزرة الأحياء".
"على باب اللجنة" لا تدق فقط أكف "السوشيال ميديا" لأخذ اللقطة واقتناص الصرخة، ولكن تدق أكف وسائل الإعلام التقليدي التي بات جانب غير قليل منها يسهم في توحش منظومة "على باب اللجنة".

ميلودراما وتراجيديا

على مدى شهر كامل تصبح فقرات "على باب اللجنة" مكوناً يومياً ينتظره المشاهد، أما العناوين الميلودرامية فهي من نصيب المواقع والصحف: "بكاء الأمهات ودعاء الآباء على باب لجنة الكيمياء" و"مسنة تخطف الأنظار وهي تدعو لحفيدها على باب لجنة اللغة العربية" و"آهات الأمهات من الصغر وحتى باب اللجنة" و"أمك هي جيشك على باب اللجنة" و"الكل يقول يا رب على باب اللجنة" و"شنطة (حقيبة) حريمي في يد أب وتلاوة أم القرآن على باب اللجان" و"أمهات يحملن المصاحف على أسنة رماح الثانوية العامة"، وغيرها من الأجواء الجديرة بالحروب والصراعات لا الاختبارات.
وبدلاً من أن يقوم الإعلام الرصين بحملات توعية لتأكيد أن الجماهير الغفيرة على باب لجان الاختبارات تسهم في تجذير فقاعة "بعبع" الثانوية العامة، وربما تفاقم من مشاعر الخوف والقلق لدى الطلاب، يسهم بكل حماسة في إحماء نيران منظومة "على باب اللجنة".

 

كتائب رقمية

من جهة أخرى تعمل جيوش إلكترونية على استغلال الكم المذهل من فيديوهات وصور "على باب اللجنة" للدق على أوتار سياسية، إذ يستخدمها بعض المتابعين، سواء كانوا أفراداً أو كتائب رقمية تابعة لقنوات أو جماعات بعينها لنشر ونثر الفتنة عبر منصات "السوشيال ميديا".
فتنة من نوع آخر هي فتنة الغش بمساعدة بعض جماهير "باب اللجنة" الغفيرة. فيديوهات عدة تنتشر هذه الأيام لأمهات يساعدن الأبناء من طلاب الثانوية العامة لدس سماعات متناهية الصغر في آذانهم، ومعهم بطاقات ذاكرة منفصلة يتم وضعها في الجيب، وذلك بغرض سماع إجابات أسئلة الاختبار في داخل اللجنة. وتنزع الأم السماعة عقب خروج الابن أو الابنة بالسلامة من الاختبار باستخدام ملقاط صغير.

وقبل أيام، أشارت تقارير صحافية إلى طبيب أنف وأذن وحنجرة في محافظة أسيوط قال إنه استقبل في عيادته ستة طلاب عقب انتهاء اختبار الفيزياء قبل أيام، بعدما عجزوا عن إخراج سماعات "بلو توث" متناهية الصغر أدخلوها في آذانهم "لتساعدهم على أداء الاختبار". وأضاف الطبيب أنه استقبل 16 حالة مماثلة في الأيام الأولى لاختبار الثانوية العامة، للسبب نفسه، وأن بعض هذه الحالات استدعت الخضوع لتخدير كلي لاستخراج السماعة التي ضلت طريقها في داخل آذان الطلاب الغشاشين.
شر البلية ما يضحك، وربما هذا ما دعا أحد المعلقين على شرح طبيب الأذن وهو يحذر طلاب الثانوية العامة وذويهم الواقفين على أبواب اللجان من استخدام هذه السماعات التي قد تؤدي إلى فقدان حاسة السمع بقوله، "ما تكبرش الموضوع يا دكتور. جدول الثانوية العامة يوم ويوم، أي يوم اختبار وتخدير، ويوم إفاقة، ويوم اختبار وتخدير، وهكذا".
أما الأكثر شراً فهو ذلك المشهد "التراجيدي" الذي سجلته كاميرا هاتف محمول في داخل إحدى اللجان في شرق القاهرة قبل أيام، حين خرج الطلاب وأخبروا أولياء أمورهم المتجمهرين أمام باب اللجنة أن إحدى المراقبات سحبت منهم أوراق الإجابة قبل انتهاء الوقت المقرر، فما كان من بعضهم إلا أن اقتحم اللجنة وتعقب المراقبة وتم توجيه توليفة من الألفاظ النابية ومحاولة الاعتداء عليها، لولا تدخل الشرطة. وتبين في ما بعد أن المراقبة لم تسحب الأوراق إلا بعد انتهاء الوقت المقرر، وتصالح الطرفان، المراقبة والجماهير الغفيرة على باب اللجنة.

ويبقى سؤال: لماذا يتجمهر الأهل على باب اللجنة؟ بلا إجابة، ولغزاً عصياً على التفسير.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات